يحمل موقع "تاموسيدا" الممتد على مساحة 24 هكتارا، والواقع بالضفة اليسرى لنهر سبو، شمال القنيطرة، تقاسيم خاصة في شكله الهندسي، وفي بقايا معالمه الأثرية، فهو يضمر تمازجا تاريخيا متنوعا باختلاف الحقب التي تعاقبت على جهة الغرب، لتنعكس تجلياتها في تلك البقايا الأثرية الثابتة على السطح، وفي اللقى الأثرية المنقولة. فالسمة الرئيسية لموقع "تاموسيدا"، حسب ما كشفت عنه الحفريات القديمة، تَمتعه بحماية طبيعية ضد فيضانات نهر سبو، ما شجع على استيطان الإنسان بالموقع منذ فترة ما قبل التاريخ. كما أنشئ بالموقع خلال العهد الروماني، "معسكر روماني"، وحمامات ومعابد ومبان خاصة، إلى جانب ميناء نهري، ومركز روماني للتموين، فكان ل"تاموسيدا" دورا عسكريا بارزا، حسب ما ذكره رشيد أغربي، محافظ موقعي "بناصا" وتاموسيدا"، أثناء مرافقته ل"المغربية"إلى الموقع، ما جعلها مدينة مأهولة بالجنود استطاعت أن تشكل حامية عسكرية رومانية قوية. حالما يصل الزائر إلى موقع "تاموسيدا" المتواري عن الأنظار بفعل انعزاله، تنكشف تلك النصب الحجرية التي شيدت بفعل إنساني على نحو مميز وخاص، يعكس تلك الحضارات السابقة التي مازالت تجلياتها حاضرة، وإن أهملت معالمها لأسباب عديدة. ربما يستدعي فهم الخصائص الأثرية لموقع "تاموسيدا"، إطلاق العنان للعقل، حتى يشكل تصورات ذهنية يخلقها الاستماع لشروحات باحث ودارس مختص، كما هو الأمر بالنسبة إلى رشيد أغربي، الذي يفصل في عرض معطيات تقود الزائر المتمعن في المعالم والمحسن للإصغاء، إلى التفاعل مع حضارات مجسدة الآن في بقايا أثرية، لتذوب تلك المعلومات الواردة عنه لمصلحة حاجة معرفية، لحضارات مضت في أزمنة قديمة. إن الأعمال والصنائع ذات الصلة بالجذور والموروث تبقى حية، ربما تندرج في هذا الفهم، طبيعة المعالم التي يحتفظ بها موقع "تاموسيدا"، ليكون حضوره مستمرا، رغم اندثار أجزاء كثيرة من معطياته المعمارية، لتحذف معها تفاصيل وقائع وأحداث، حاول المؤرخون والباحثون الأثريون استرجاعها بالحفريات والقراءات المتعددة في الفرضيات التي تتداولها الروايات وترصدها بعض الشواهد الأثرية. فموقع "تاموسيدا" حسب ما استشفته "المغربية" أثناء تجولها برفقة رشيد أغربي، هو مزيج بين إبداع معماري وبعد وظائفي، ورغم أن بعض المعالم أقبرت تحت سطح الأرض وبعضها تلاشى، وأخرى تجزأت، فإن الباقيات منها تؤثث لمدينة كانت تمتلك كل المقومات العمرانية بميزات خاصة، بل إن الغايات التي تأسست من أجلها كانت متنوعة، لتتباين معها طبيعة المباني، مثل "حمامات النهر" (الخاصة بالرجال والنساء) التي كانت وظائفها تجري اعتمادا على سيولة مياه "نهر سبو"، والمعسكر والمعابد ومخازن الحبوب والأفران، والبنايات ذات الطابع الاقتصادي، والأخرى ذات الطابع الاجتماعي، ثم ورشات الحرفيين وغيرها. فهناك إيقاع حضاري تعكسه مدينة "تاموسيدا" التي يمكن نعتها ب"المدينة العسكرية الرومانية"، حسب ما استخلصته "المغربية" من إفادات أغربي المعمقة، وهذا الإيقاع يكمن في ذلك التكوين غير الحركي، لمعالم تستمد صمودها من مواد البناء الصلبة والمتينة، والمتناغمة مع عوامل الزمن والتعرية. بعد أن يلغي الزائر نفسيا وذهنيا تلك الحدود الزمنية الفاصلة بين فترة "ما قبل التاريخ" و"التاريخ الراهن"، يجد نفسه أمام إيحاءات كثيرة من الدقة والإتقان الذي يؤمن له اتصالا مباشرا دون تكلف أوعناء مع معان إنسانية أبدعت في "آليات الحياة آنذاك"، وتأتي أهمية موقع "تاموسيدا"، من كونه إلى جانب المعاني المعمارية العميقة، مازال رغم الإهمال، يحتفظ بمعالم توثق لحقبات مهمة من "تاريخ الإنسانية"، قبل أن تندثر بشكل نهائي، إذا لم يتدخل المعنيون لإنصافها من الضياع التدريجي. فالنزوع نحو التعبير عن القدرة الإنسانية في تكييف المعطيات الطبيعية والمقومات الجغرافية هو ما تمثله البقايا الأثرية لموقع "تاموسيدا" التي أطمر معظمها بعد أن كستها الأعشاب والطفيليات، ولم تترك منها غير أجزاء منتصبة يتبين طبيعتها وخصائصها المؤرخون للتاريخ والباحثون في علم الآثار، والدارسون والمهتمون به. إن استنباط المعاني من هذه الشواهد الجامدة لموقع "تاموسيدا"، يستدعي المعاينة عن كثب، فلو أن الزائر العادي أراد الاستقصاء في شؤون ماضي هذه المدينة "الماقبل تاريخية"، لتعذر عليه ذلك، وهنا جاء دور رشيد أغربي الذي رافق "المغربية" قصد وضعها في وقائع الماضي بكل تجلياته وانعكاساته. يرجع الفضل في التعرف على موقع "تاموسيدا" وتوطينه، حسب ما ذكره أغربي، إلى شارل تيسو منذ سنة 1874، الذي طابق بين خرائب "سيدي علي بن احمد" وموقع "تاموسيدا" الذي أشارت إليه النصوص القديمة، معتمدا في ذلك، كما هو الشأن بالنسبة لمواقع أخرى على ما ورد في النصوص التاريخية من مسافات، فالموقع يوجد ما بين بناصا وسلا على مسافة تقارب 32 ميلا. ورد اسم "تاموسيدا" في عدة نصوص قديمة منها "المسلك الأنطونيني" الذي وطنها على الطريق التي تربط أدميركوريوس وتينكي ولدى بطليموس، كما جرت الإشارة إليه لدى المؤلف الرافيني المجهول بصيغ تختلف حسب المخطوطات. إحياء الماضي إن استحضار الماضي وإحياءه، هو من بين الأهداف التي يسعى إليها المؤرخ، لهذا فإن "الشواهد الأثرية" كما هو الأمر بالنسبة لبقايا "تاموسيدا"، كان لابد أن تحيى من جديد وتنطق بوقائع الماضي، وهكذا شهد الموقع وفق ما أفاد به أغربي، بعض الحفريات المحدودة منذ سنة 1914، إلا أن الحفريات المنتظمة بالموقع لم تجر إلا ما بين سنة 1932 و1935 أعقبتها مواسم للحفر ما يين 1952 و1955 ثم ما بين 1959 و1962. وأستأنفت الحفريات الأثرية بالموقع خلال سنة 1999 واستمرت إلى غاية 2006، في إطار برنامج للتعاون بين المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط وجامعة سيينا بإيطاليا. ومكنت هذه الحفريات من التعرف على مستويات أثرية تؤرخ للقرن السادس قبل الميلاد ومن الكشف على بنايات جديدة، إذ استخدمت خلال هذه الحفريات المغربية – الإيطالية تقنيات حديثة في مجال التحريات الأثرية والرفوعات الهندسية. ولأن لكل واقعة أو حدث آثار إلى الآن، لتبقى صورة من الصور إذا جرى البحث عنها، فإن الحفريات القديمة التي كانت بالموقع، أبانت عن بقايا منازل ترجع للفترة المورية وعدة أواني فخارية ترجع في غالبها للنصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد. و من خلال المعطيات الأثرية حول الحفريات الحديثة، يتضح أن الموقع عرف خلال الفترة الممتدة من القرن السادس إلى القرن الثالث قبل الميلاد، سكنا محليا يتميز في تقنيات بنائه باستعمال الآجور المجفف والتراب. في منتصف القرن الأول ق.م كان سكان "تاموسيدا" على علاقات تجارية مع مدن من الساحل الأطلسي والمدن الموجودة بمجال مضيق جبل طارق على الضفة الأندلسية كقادس، وكذا مع إيطاليا حسب ما تؤكده مختلف أنواع الفخار والأمفورات. واستمر التجمع السكني الموري في الوجود إلى حدود الغزو الروماني، إلا أن المعلومات حول هذه الفترة تبقى محدودة جدا ومتفرقة مما يحتم إجراء حفريات جديدة بالمستويات المورية وتعميق البحث والدراسة حول هذه الفترة، حسب ما أكده أغربي الذي كان يجول مع "المغربية"، لتوضيح طبيعة الشواهد الأثرية والوقائع الماضية، ثم القراءة فيها وطرح التساؤلات عنها، مادامت لم تنته الحفريات لتعرض أمام العيان مقتطفات مهمة من أزمنة قديمة.