ربما الباحثون والمختصون في التاريخ وعلم الآثار، والمهتمون بهذين المجالين وفروعهما، من يستطيعون تبين الخصائص الأثرية التي يحتفظ بها موقع "بناصا"، الممتد على مساحة تقدر بحوالي 17 هكتارا. قد يتراءى للزائر العادي، على أن هذا الموقع مجرد رقعة تتراص فيها الحجارة بفعل الطبيعة وتصريفها من قبل السكان المجاورين للمنطقة على النحو الذي يجعل منها شواهد حجرية منتصبة. فموقع "بناصا" الأثري الذي يوجد بقلب سهل الغرب، ويبعد عن مدينة مشرع بلقصيري، بحوالي 17 كيلومترا، يرجح أنه يعود إلى فترة ما قبل التاريخ، تبعا لحجر الصوان المصقول الذي كشفت عنه الحفريات الأركيولوجية القديمة، كما يعتقد استنادا إلى استخراج عدد مهم من الأمفورات والقناديل والحلي ذات التأثيرات الفينيقية، أن هذا المركز كانت تربطه علاقات تجارية مع مراكز أخرى بحوض البحر الأبيض المتوسط، منذ الفترة الفينيقية، أي قبل القرن الخامس ق.م. وبعد هذا التاريخ خلال الفترة البونية، حسب ما ذكره رشيد أغربي، محافظ موقعي "بناصا" وتاموسيدا"، ل"المغربية" أثناء معاينتها لهذا الموقع، الذي أكد بخصوصه أنه بحاجة إلى رد للاعتبار وتهيئة حقيقية بتدخل جميع الأطراف المعنية. تلوح أطلال "بناصا" للزائر عند تقدمه في السير على ربوة، حيث يقع الموقع المعروف ب"سيدي علي بوجنون" بالجماعة القروية سيدي الكامل، بإقليم سيدي قاسم، على الضفة اليسرى لنهر سبو، إذ تمتد على نطاق يكشف أن المعالم المتبقية والمتجلية، ليست وحدها مكونات "بناصا"، لأن الحفريات التي أجريت لم تكشف إلا جزءا من بنايات وخصائص المدينة. عند متابعة السير في قلب مدينة "بناصا" التي تكسوها الأعشاب وتحيط بها بعض أشجار النخيل، يتبين أن هناك ساحة عمومية تتوسط المدينة، في شكل منحرف يوجد بمحاذاتها معبد متعدد المقصورات، تقابله محكمة، وفي طرف آخر هناك حمامات عمومية تتباين من حيث المساحة، وأخرى خصوصية. إضافة إلى محلات خصصت لأغراض تجارية وحرفية، كما تتشكل المدينة من وحدات سكنية تتخذ أشكالا مستطيلة، محاطة في جوانبها الأربعة بشوارع متوازية ومتقاطعة، فخاصية مدينة "بناصا" على هذا الشكل لن يتأتى للزائر استيعابها لمجرد إمعان النظر في البقايا البارزة على السطح، بل إن هذه العناصر جميعها تتشكل في الصورة الذهنية للزائر، بإيعاز من رشيد أغربي، الذي يستفيض في عرض وكشف مكونات المدينة حتى تلك المتوارية عن النظر بسبب إقبارها تحت السطح. وحسب ما أورده الدكتور محمد العيوض، في كتابه "مدن المغرب القديم من خلال إشارات النصوص ونتائج البحث الأثري"، فإن "مستوطنة بناصا في وضعيتها الحالية تتخذ شكلا طوليا من الشمال إلى الجنوب، حيث إن أغلب المباني متركزة على الواجهة الغربية للكاردو الرئيسي، ويظهر أن تخطيط المدينة بالنظر إلى شكله الحالي، مثله مثل غيره من المدن، قد روعي فيه اعتبار عنصري الموقع والموضع". ويضيف العيوض، في كتابه :"لا نتوفر على التصميم الكامل للمدينة، وذلك لكون الحفريات لم تكشف إلا عن جزء من المدينة، كما أن السور الذي يحيط بها، والذي من شأنه أن يمنحها اتجاها يحدد لنا الشكل النهائي للمدينة، لا نتوفر منه لا على جزء في الناحية الجنوبيةالغربية، وجزء آخر كشفت عنه عملية الجرد الجيوفزيائي في الجهة الجنوبيةالشرقية". "بناصا" قبل الميلاد في التفافة متأنية وطويلة بوسط "بناصا" وجوانبها وأطرافها، حاول رشيد أغربي قدر الإمكان، بسلاسة ذهنية ومعلومات منتظمة ودقيقة، تقديم أكبر المعلومات عن تاريخ المدينة، وهو يرافق "المغربية" بين مكوناتها الأثرية، قصد تكوين فكرة عامة وشاملة عن مدينة مازالت تحتفظ بوجودها من خلال المعالم والبقايا والأدوات. وذكر أغربي، أنه "ابتداء من القرن الرابع إلى غاية القرن الأول ق.م، عرف الموقع وجود مصانع للخزف كانت تنتج مواد مختلفة كالأمفورات وأواني من الخزف المصبوغ والخزف العادي وغيرها، بعض هذه الأواني يحمل تأثيرات من الخزف اليوناني، في حين أن آثار أقدم عمران بالموقع فيتمثل في بنايات من الآجور المجفف تعود إلى القرن الثالث ق.م". وأضاف بأسلوب ينم عن اطلاع كبير بالتاريخ القديم، أنه " في الفترة الممتدة ما بين 33 و27 ق. م، أصبحت المدينة المورية مستوطنة رومانية تحمل اسم يوليا فالنتيا بناصا. وإذا كانت آثار هذه المستوطنة مازالت غير واضحة المعالم لحد الآن، فإنه من المرجح أن النسق العمراني للحي العمومي لهذه المدينة يرجع لهذه الفترة. وعند بداية حكم الإمبراطور مارك أورليوس، أصبحت بناصا مستعمرة أوريلية وظلت منذ ذلك الحين مركزا مزدهرا إلى حدود سنة 285م تقريبا، سنة انسحاب الإدارة الرومانية من المنطقة الواقعة جنوب نهر اللوكوس". أما عن مكونات الموقع الأثرية، فقد تحدث أغربي دون أن يتردد في التنقل إلى كل طرف من الموقع، لرصد التطابق بين ما يذكره وما تحتفظ به المدينة إلى اليوم من معالم، إذ مكنت الحفريات التي أجريت بين سنوات 1933 و1956، حسب قول أغربي، من الكشف عن آثار الاستيطان البشري خلال الفترة المورية، وكذا عن البنايات التي جرى تأسيسها خلال الفترة الرومانية. فخلال هذه الفترة نجد أن مخطط المدينة كان ينتظم على شكل متقاطع يتوزع انطلاقا من ساحة عمومية يحيط بها رواق من الجهتين الشرقيةوالغربية ومعبد يحتوي على ست قاعات في الجهة الجنوبية، وفي الشمال، نجد المحكمة، كما يحيط بالمدينة سور أسس في القرن الثاني الميلادي. ويروي أغربي، أيضا، استنادا إلى دراساته وأبحاثه وتحرياته، أن هناك "الحي الجنوبي الذي تأسس وفق اتجاه مغاير لباقي الوحدات العمرانية للمدينة، وهو يتكون من مجموعة من البنايات العمومية التي لازالت وظيفتها لم تحدد بعد، كالبناية ذات الأبراج الخارجية، في حين يوجد الحي الغربي الذي يقطعه الشارع الرئيسي، فيتميز بمنازله الفاخرة ذات الأروقة المعمدة كمنزل فينوس والتي كانت مزينة بلوحات فسيفسائية ذات زخارف متنوعة مثل فسيفساء فينوس. وتحد الشارع الرئيسي المحاذي لهذا الحي وإلى غاية الحي العمومي مجموعة من الدكاكين والبنايات الحرفية، كما تحد في الطرف الشمالي للساحة العمومية، وحدات تنتظم على شكل متقاطع تحتوي على مرافق حرفية أخرى كمخابز ومعاصر الزيتون". ويستعرض أغربي باقي مكونات مدينة "بناصا"، حيث هناك "منازل الحي الشمالي ذات الأروقة المعمدة وأهمها منزل حي الماسيلوم أو السوق التجاري، التي كانت أرضيتها مزخرفة بلوحات فسيفسائية متعددة الألوان"، مضيفا أنه في ما يتعلق بالحمامات العمومية لمدينة بناصا، "فهي ذات تصميم واضح لا يختلف عن تصميم الحمامات الرومانية الأخرى. كما تتميز صباغاتها الحائطية، بالإضافة إلى لوحاتها الفسيفسائية، بالحالة الجيدة لجل بناياتها الأثرية". وأكد أغربي خلال معرض تفسيره ل"المغربية" عن خاصيات مدينة "بناصا" أن اللقى الأركيولوجية التي كشفت عنها الحفريات بالموقع من نقائش وتماثيل ومواد خزفية وحلي، تعتبر من أبرز الوثائق المادية التي تشكل نسبة مهمة من المجموعة المتحفية المحفوظة بالمتحف الأثري بالرباط. محاولات لرد الاعتبار بعد الجولة في صفحات التاريخ مع روايات وتوضيحات أغربي حول مدينة "بناصا"، وجولة في أرجائها ومعالمها الباقية التي تظهر أجزاء منها وتتوارى الأجزاء الأخرى بفعل الإقبار وتوقف الحفريات، انتقل رشيد أغربي للحديث عن أشغال الترميم ورد الاعتبار للموقع، مفيدا أنه في إطار السياسة التي تنهجها وزارة الثقافة لصيانة ورد الاعتبار للتراث الأثري على الصعيد الوطني، أجرت محافظة موقعي بناصا وتاموسيدا (المديرية الجهوية للثقافة بالقنيطرة) ما بين سنة 2009 و2011 أشغال ترميم وصيانة جزء من الساحة العمومية الرومانية بموقع بناصا الأثري، وتعد هذه الأشغال الأولى من نوعها منذ الكشف على هذا الموقع الأثري خلال الحفريات التي امتدت ما بين 1930 و1956. ويضيف أغربي أن أشغال الترميم الأولوية، تمحورت حول تدعيم وترميم أعمدة وأرضيات رواقي الساحة العمومية وترميم الباب الغربي للفوروم وصيانة وترميم الباب الرئيسي للمحكمة الرومانية والأسوار الخارجية لهذه المعلمة، إضافة إلى تدعيم الدرج المؤدي للمعبد والمذبح والقاعات الثلاث الغربية للمعبد. وتندرج هذه الأشغال في إطار المجهودات التي تنجزها محافظة موقعي بناصا، تاموسيدا لرد الاعتبار للبنايات الأثرية للموقع وتقديم معالمه للزائرين وفق الشروط المتعارف عليها في مجال صيانة المواقع الأثرية. كما تهدف هذه الأشغال أيضا إلى تحسيس السكان المحليين وفعاليات المجتمع المدني بأهمية الحفاظ على هذا الموروث الثقافي والتاريخي، في أفق إدماجه في مسارات سياحية جهوية ووطنية وتوظيفه في خدمة التنمية المحلية. دعوة لاكتشاف "بناصا" حسب ما ذكره الدكتور محمد العيوض، في كتابه "موقع بناصا الأثري من الأصول إلى الجلاء الروماني، مساهمة في دراسة مدن المغرب القديم"، فإن الاستبارات التي عرفتها بناصا باعتماد اللقى في إرجاع تاريخ الاستقرار بالموقع حتى بداية القرن الرابع ق.م، وربما قبل. وفي الاتجاه نفسه، سبق أن تمكن فيلار في دراسته للفخار الذي عثر عليه في بناصا من الوقوف على أشكال يظهر فيها التأثير الأتيكي الذي يعود للقرنين السابع والثامن ق. م، كما أن وجود بعض أنواع الأقداح التي صنعت في الغالب بعين المكان يؤكد التأثير البوني، إلا أنه لحد الآن لم يجر اكتشاف أي بناية متقدمة عن القرن السادس، ق.م، على الرغم مما تقدمه اللقى المتمثلة في أجزاء من الفخار". وأورد أيضا أن السكن في بناصا ارتبط في بدايته بنشاط حرفي متعلق ب‘نتاج الفخار، كما يدل على ذلك وجود أفران، وهو ما يجعل العمران خلال هذه الفترة مرتبطة بالاستقرار الحرفي". وأضاف "كان الاعتقاد السائد أن بناصا مستوطة رومانية تعود لفترة أغسطس، إلا أن الاستبارات التي جرت في المواقع ما بين 1955 و1956 أفرزت معطيات مخالفة لما كان يعتقد من قبل، حيث أكدت وجود مرحلة ما قبل رومانية يمثلها وجود ستة مستويات". وللإحاطة علما ببعض الخاصيات الأثرية التي تتداولها الدراسات والأبحاث، لا بأس على الزائر من الانتقال إلى موقع "بناصا" قصد المعاينة عن كثب، اعتمادا على الكتيب الذي تقدمه محافظة بناصا هناك، والذي يرصد التصميم الكامل لمدينة بناصا، وإن كانت بعض أجزائها مازالت بارزة وواضحة، وأخرى مقبورة تحت السطح، بحاجة إلى حفريات أخرى للكشف عنها، إذا ما توفرت الإمكانيات والآليات لذلك. وهو المسعى الذي تجتهد فيه محافظة بناصا ردا لاعتبار الموقع الذي تكتسحه الأعشاب والنباتات فتعيق عمليات التحريات، هكذا استطاعت "المغربية" في جولة قصيرة التعرف على "بناصا" كمعطى أثري، ربما يغفل الكثيرون وجوده وأهميته، في ظل المشاكل التي تقيد محاولات الباحثين الأثريين لإبرازه كما يقتضي.