كان المخرج شادي عبد السلام يحضر لتصوير "أخناتون" قبل أن يجد منتجا للفيلم، واتفق مع عبد العزيز فهمي على إدارة التصوير، ونادية لطفي على الدور الرئيسي "الملكة تى". كم كانت دهشتي كبيرة عندما رأيت شادي يتجاذب أطراف الحديث مع نادية حول "أين تخبئون الشمس؟" دون أن يشعر بوجودي. فسر لها الدور من وجهة نظره، مركزا على أن نهاية الفيلم يجب تغييرها، ثم كيف تقبل نادية لطفي دورا يتضمن رسالة رجعية في نظره، والمشهد الذي أعجب نادية لطفي، وأزعج شادي عبد السلام، هو الذي تظهر فيه البطلة بثوب الإحرام الأبيض، وهي تطوف حول الكعبة. تؤدي نادية لطفي بطلة الفيلم دور "صوفيا" المرأة المسيحية اللبنانية الهاربة من جحيم الحرب ببيروت، التي تلجأ إلى معسكر "الهيبزم" تجالس السكارى والحشاشين وتغرق في قعر الفجور والإلحاد. تلتقي "صوفيا" بالشيخ "محمود" نور الشريف، الذي يأتي إلى المعسكر وتسلم على يديه، ومن قلب الحياة الماجنة العابثة، تخرج كأطهر ما تكون أنثى، وتحب الله وتعيش لتمجيد الإيمان والحقيقة، منتصرة على كل وساوس النفس، ودنيا اللهو والمتعة. أمام تحريضات شادي، أعطيت نادية لطفي مهلة للتفكير، ريثما أعود من زيارة عمل للسعودية، وكذلك فعلت مع الممثل الليبي، علي سالم، الذي حاول المخرج مصطفى العقاد إقناعه بألا يقبل الدور الذي أسندته له، لأنه في نظره لا يليق بمستواه العالمي، بعد أن مثل دور "بلال" في فيلم "الرسالة"، لكنه قبل الدور في الأخير. طلبت من عبد العزيز فهمي أن يصحبني في رحلة إلى السعودية، للحصول على موافقة السلطات هناك على بتصوير مشاهد بمكة المكرمة والحرم الشريف. فور وصولنا إلى الرياض، اتصلت بالمسؤول بوزارة الإعلام، وكنت مستعدا لقبول جميع الشروط التي يقترحها، كانت مقابلة جدية، تحدثنا خلالها عن تعامل السينما مع القيم والأخلاق. شعرت أن المسؤول السعودي بدأ ينزعج من المحادثة لأنني ربما بالغت في طلب تصوير مشاهد فيلم تظهر فيها نادية لطفي، بالحرم الشريف ومكة المكرمة، إذ تبين لي في أول الأمر أن هدفي ليس في المتناول، لكنني كنت متفائلا بأنني سأتمكن من إقناعه. كم كانت دهشتي كبيرة، عندما سمعت المسؤول السعودي يقول إن نادية لطفي راقصة ولا يمكن أن يسمح لنا بتصويرها في الحرم الشريف، أجبته بأنها ممثلة وليست راقصة، وفضلت ألا أزيد في التفاصيل بل أدع الأمور تتضح تلقائيا، لكنه عاد وأصر على أنها راقصة، مؤكدا أنه شاهدها ترقص مع عبد الحليم حافظ في شريط "أبي فوق الشجرة"، الذي أدت فيه فعلا دور "راقصة". حاولت أن أشرح له بأن دورها كراقصة في الفيلم مجرد تمثيل، وأن الرقص ليس مهنتها، لكنني لم أستطع أن أغير من واقع الحال شيئا، كرهت شعوري بالعجز أمامه، إذ كان يسيطر على الموقف بتفوق رهيب، فيما كنت أتعثر في كلامي خشية أن أتفوه بشيء قد يوصلني معه إلى الباب المسدود، والقضاء على آخر بارقة أمل. أخيرا، وافق المسؤول السعودي شرط أن تكون البطلة ممثلة غير محترفة، وجه جديد ألتقطه من الحياة اليومية، وكان شرطه على جانب كبير من الصواب، ولكن من الصعوبة بما كان العثور على وجه جديد يستطيع أداء دور"صوفيا" لأنه دور مركب وصعب جدا. في تلك الأثناء رشح لنا أحد الممثلين السعوديين ممثلة سورية مبتدئة، مثلت في مسلسل ديني لأول مرة، وكانت رائعة وهي تؤدي دورها، عرضنا اسمها على المسؤول بوزارة الإعلام فقبل حضورها للتصوير بمكة. سافرت إلى سوريا ومعي مدير التصوير عبد العزيز فهمي، لنتصل بالممثلة السورية المرشحة، على أن أستغني عن نادية لطفي، خصوصا أنني لم أكن تعاقدت معها بعد. وصلنا إلى دمشق في فترة مليئة بالحوادث، الطائرات الحربية الإسرائيلية تعبر فضاء دمشق بسرعة الصوت دون أن ترصدها الرادارات السورية، وسفر الرئيس السادات إلى القدس، وحرب لبنان... فور وصولنا توجهنا إلى منزل الممثلة السورية، استقبلتنا ومعها والدها، رجل ضخم تلف بقايا شعره الأبيض صلعة لامعة، وتغطي وجهه لحية كثيفة، أما البطلة المرتقبة فمتوسطة الطول، وجهها جميل يقهره الخجل، وتبدو ككائن لا يملك إلا القليل من نور المعرفة، إذ كانت قليلة الكلام، على هذا الأساس كان يجب أن نعرف كل شيء عن مواهبها في الأداء، جلست معنا قليلا ونهضت مستأذنة وانصرفت لتتركنا مع والدها. بعد أن خيم الصمت برهة على الجلسة، فاتحنا والدها في الموضوع، ولم يطرح كثيرا من الأسئلة كان سؤاله الأساسي هل الفيلم ديني؟ فأكدنا له ذلك، وأضفنا أن بعض المشاهد ستصور بمكة المكرمة، لم يتردد لحظة في قبول العرض، ولم يشترط سوى أن يرافقها إلى القاهرة والسعودية، لا لأنه يشك في أخلاقها، حسب قوله، ولكنه كأب يجب عليه أن يرعاها ويحميها ويبقى بجانبها، وعدناه خيرا، وودعناه على أن نتصل به من القاهرة، إذا استقر رأينا على اختيار ابنته للدور. في طريقنا إلى الفندق قلت لعبد العزيز فهمي إنها غير صالحة لبطولة الفيلم، فأجابني إذا كان هذا رأيي كمخرج فلا داعي لمناقشته، وعلينا أن نجد حلا وبقوة الإرادة لأنه مصر مثلي على التصوير في الديار المقدسة، ولكن ليس إلى درجة التضحية بالبطلة. اتصلت من الفندق بالفنان صباح فخري، الذي أخذنا، في ما بعد، إلى مقر "نقابة الفنانين السوريين"، حيث وجدنا بعض السينمائيين في انتظارنا، لقيت منهم ترحابا كبيرا، بينما أحس عبد العزيز فهمي أنه ضيف غير مرغوب فيه، فحاول التظاهر باللامبالاة. لم أكن أعتقد أن يكون الأمر بهذه الصورة، لما دعانا النقيب صباح فخري لحفلة شاي مع بعض السينمائيين السوريين بنادي النقابة، فتوجه أحدهم بالكلام إلى عبد العزيز فهمي بلهجة الإدانة: كيف يقبل المصريون ما قام به السادات؟ إنه مصيبة على الأمة العربية، انزعج فهمي وثارت أعصابه، تأملت وجهه المصدوم ونصحته بالهدوء، فتجاهل لهجة الاتهام المؤلمة التي كان يشعر بها في كلمات مخاطبيه، لكن أحدهم عاد وكرر أن السادات فجر الموقف بخيانته للقضية، وأن المصريين بسكوتهم يعتبرون "خونة"؟ أرغم عبد العزيز فهمي نفسه على الإجابة بمرح، بعدما تحمل منهم ما فاق طاقته على الاحتمال، أراد أن يقنعهم بأنه ليس سياسيا ولا رجل مشاكل، وإنما هو فنان فقط، وتركهم يقولون كل ما أرادوا قوله. حاولت أن أعيد الأمور إلى نصابها، لأنهم كونوا فكرة خاطئة عن الرجل، فنظر إليه أحدهم بشيء من الاستعلاء وسأله لماذا لا يسجل بالكاميرا لواقع "ساداتي" فاسد، فعبر عبد العزيز فهمي بصدق وموضوعية عن أحاسيس رجل الشارع المصري، كنت سعيدا بدفاعه عن مصر وحبه الشديد لها، وانصرف وهو ينتفض من شدة الغيض لما سمعه. كان يسير في الشارع وهو يصيح معبرا عما يجيش في صدره عن "القضية" وكل الذين يخونون "القضية"، وقررت الإسراع بالحجز في أول رحلة متجهة إلى القاهرة، لأنني لا أريد أن اخسر مصورا كبيرا على غرار عبد العزيز فهمي. ما إن وصلت إلى مصر حتى اتصل بي مدير أستوديو الأهرام يطلب مني الإسراع بالحضور لوقف أعمال الحفر التي يقوم بها مهندس الديكور المغربي محمد المنصوري التلمساني، الذي حفر حفرا كبيرة في كل رقعة من أرض الأستوديو واقترب من أرضية مكاتب الإدارة، فمن هو محمد المنصوري التلمساني؟ وماذا كان يفعل في الأستوديو؟