سألني محام عراقي تعرفت عليه في لندن، قبل أيام، عن السبب الجوهري وراء وقوف النظام الجزائري إلى جانب جبهة البوليساريو الانفصالية، في وجه رغبة المغرب في استكمال وحدته الترابيةواستطرد، قبل أن أحاول تفسير الموقف، قائلا إنه كان على رأس وفد للمعارضة العراقية إلى أحد المؤتمرات الدولية، قبل الإطاحة بنظام صدام حسين، وطالبه أحد أعضاء وفد البوليساريو إلى المؤتمر بمساندة ما أسماه "قضية الصحراء الغربية"، باعتبارها "قضية تحرر وطني" في مواجهة المغرب الذي نعته ب"الدولة المحتلة"، غير أن جوابه الواضح والصريح والجازم بعدم استعداده لمساندة مطالب الحركة الانفصالية في المغرب، أثار حفيظة ممثل البوليساريو، الذي لم يتورع في نعته بأبشع النعوت، متسائلا عن الفارق بين المعارضة الوطنية العراقية وبين نظام صدام حسين، الذي تقول إنها تعارضه إذا كانت لا تقف بوضوح إلى جانب "الشعب الصحراوي وقضيته العادلة؟". في الواقع، فإن سوء التفاهم أمر حتمي بين ممثل الجبهة الانفصالية، وبين المحامي العراقي، ذلك أنه من الصعب جدا، بل ومن المستحيل أيضا، على عضو البوليساريو أن يدرك مغزى وأبعاد الموقف الوطني القومي التلقائي لرئيس وفد المعارضة العراقية آنذاك. أما السبب فيعود إلى أن مدرسة حركة البوليساريو الانفصالية لم تكن في يوم من الأيام مدرسة الفكر الوطني القومي، خاصة عندما ارتمت في أحضان النظام الجزائري، وأصبحت تأتمر بأوامره، وإنما هي مدرسة "المحافظة على الحدود الموروثة عن الاستعمار"، وهو شعار جرى رفعه إلى مستوى المبدأ المقدس، الذي على أساسه تتخذ المواقف بدعوى الحرص على الدفاع عن الحق في تقرير المصير وتصفية الاستعمار، وعدم الدخول في حروب إضافية لتصحيح تلك الحدود، الأمر الذي يعني بالنسبة لدعاة هذه المدرسة الانزلاق إلى حالة لا نهائية من عدم الاستقرار في إفريقيا على سبيل المثال. الواقع أن مبدأ الحق في تقرير المصير مبدأ سليم ومطلوب العمل على تطبيقه ضمن شروط وظروف محددة، وينبغي على الجميع الدفاع عنه بمختلف الوسائل المشروعة، والعمل على تحقيقه، باعتباره واجبا وطنيا بالنسبة للمعنيين به مباشرة، وواجبا أخلاقيا وإنسانيا بالنسبة لمجمل مكونات المجتمع الدولي الراغبة في التحرر وضمان السلم والاستقرار، وتمكين مختلف الشعوب من حد أدنى من العدالة. غير أن رفع هذا الشعار ضمن شروط وظروف مغايرة ومناقضة تماما لتلك المبادئ والقيم، يحوله إلى شعار للتضليل، وصرف الأنظار عن الجرائم المرتكبة في حق الشعب المستهدف. وهذا هو الواقع مع الشعب المغربي منذ رفعه لشعار استعادة أراضيه المغتصبة، خاصة من قبل الاستعمار الإسباني، الذي عرف موقفه من حقوق المغرب تقلبات عديدة، انتهى بمحاولة إنشاء دولة قزمية في الصحراء المغربية، وهو مشروع تلقفه النظام الجزائري مبكرا، وما يزال ينفق ملايير الدولارات في رعايته على أساس زعم الدفاع عن مبدأ الحق في تقرير المصير، الذي لا ينطبق بتاتا على هذه الحالة. وللتذكير، فإن الثورة الجزائرية مثال حي لشعار تقرير المصير، باعتباره مبدأ مقدسا في وجه الاستعمار الفرنسي، الذي كان يرغب في تحويل الجزائر إلى مجرد محافظة من المحافظات الفرنسية، والمقاومة المغربية، وثورة الملك والشعب، بعد نفي جلالة الملك محمد الخامس وأسرته إلى مدغشقر، مثال آخر على صواب رفع هذا الشعار. إذ هناك حالة استعمار من جهة، وهناك شعب يرفض هذه الحالة، ويعمل على رفعها، من جهة ثانية. غير أن الصحراء المغربية جزء لا يتجزأ من المغرب قبل الاستعمار الفرنسي والإسباني وبعدهما، وسكانها جزء صميمي من الشعب المغربي بغض النظر عن الجهات والأقاليم التي ينتمون إليها. لذلك، فإن رفع شعار تقرير المصير بهدف فصل الأقاليم الجنوبية عن الوطن يخرج من نطاق الحق الذي ينبغي العمل على إحقاقه إلى جريمة سياسية حقيقية في حق الشعب الواحد. وجرى رفع شعارات عديدة في سياق تبرير هذا الموقف المناوىء للمغرب مثل بناء "مغرب الشعوب"، ودعم "البؤر الثورية ضد الأنظمة الرجعية"، وغيرهما من الشعارات التي تبخرت بانكشاف الاستراتيجية الهيمنية للنظام الجزائري في المنطقة، والتي ما تزال تعيق التقدم على طريق بناء اتحاد المغرب العربي، لأن هذا البناء لا يستقيم مع تبني استراتيجية تفكيك وحدة شعوبه، ووحدة دوله الترابية.