نريد في هذه المقالة أن نخوض غمار مساءلة أهم المعطيات التي خرجت للعلن أثناء وبعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قامت بها مجموعة عسكرية محدودة، حسب توصيف السلطات التركية، ضد الرئيس التركي المنتخب طيب رجب أردوغان وضد حكومته، بذريعة الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان (بحسب ما جاء في بيان الانقلابيين)، كما سنسعى إلى حد ما لاستنطاق دلالات الإجراءات التي أقدمت عليها السلطات التركية بعد تطويق المحاولة وإنهائها. وليس الهدف من ذلك إلا البحث عن جواب للسؤال الذي بات مشروعا حول حقيقة هذا الانقلاب الفاشل. إن من يتابع المعلومات والمعطيات التي رشحت منذ بداية المحاولة الانقلابية والقرارات التي اتخذت بعد إحباطها لا يسعه إلا أن يتساءل: هل بالفعل تركيا عاشت محاولة انقلابية حقيقية مفاجئة، لم تعلم بها مؤسسات تركيا السياسية والدستورية والأمنية إلا ساعة واحدة قبل انطلاقها؟ أم أن الانقلاب كان مفبركا لغايات ما؟ وهل اتضحت ملامحه تلك الغايات مع الإجراءات التي سارع لتنزيلها أردوغان مباشرة بعيد إعلان إفشال المحاولة الانقلابية وإعادة السيطرة التامة على الوضع؟ وما ذا عن المعلومات التي نسبت لمصادر استخباراتية تركية والتي مفادها أن الانقلاب كان معلوما لدى الاستخبارات التركية بخمس ساعات قبل موعد انطلاقه الاستثنائي وبضعف تلك المدة الزمنية قبل موعده الذي كان مقررا له في الأصل من طرف الانقلابيين؟ ألا يعني تضارب المعلومات والحقائق في مثل هذه الحالات وتناقضها أن الرواية الرسمية للمحاولة الانقلابية الفاشلة باتت موضع شكوك؟ ثم ألا يمكن أن يكون الأمر غير متعلق بانقلاب مفاجئ وغير متعلق في نفس الآن بانقلاب مفبرك بشكل مطلق، وهو ما نميل للتبنيه في هذا المقال باعتباره الاحتمال الأكثر موضوعية، ولنا من الحجج ما يبرهن على ذلك. قبل الشروع في توضيح ما يسوّغ هذه الفرضية من وجهة نظرنا ويجعلها أكثر رجحانا (لأننا نتحفظ على اعتبارها الحقيقة والواقع الذي لا يقبل الظن)، وقبل سرد بعد الأهداف التي أُريد تحقيقها عبرها، لا بد أن نوضح لأولائك الذين لا يتورّعون عن اتهام كل من نأى بنفسه بعيدا عن القراءات المتسرعة، وحاول عدم الوقوع ضحية التحليلات التي تساير أحيانا ميول أغلبية ما أو أقلية ما، وترضي نزعات إحداها، لغايات قد لا يعلمها من يفعل فقط، وتكتفي بنسج خيوط توصيف لا يتكئ إلا على الغبار الذي يعلو السطح، فتبدو، بحكم طريقة إخراجها، وكأنها الحق الذي لا باطل يشوبه بينما نصيبها من الحقيقة ليس إلا كنصيب العبد من الحرية، قبل كل ذلك نؤكد أننا لا نريد بهذا المقال أن نرضي نزعة إيديولوجية ما أو أهواء سياسيوية ضيقة أو نصفي حسابا ما، أو نقلب الحقائق ونخرجها بما يظهرها على غير طبيعتها. ومن وجهة نظرنا نحن، لا نظن عاقلا ولا ديمقراطيا، مهما كان انتماؤه، سيتجرأ على الوقوف في صف أي انقلاب ضد مؤسسات منتخبة، كما لا يمكنه أن يصدق أن انقلابا عسكريا، مهما كانت تعلاّته، ومهما كانت سياقاته، سيأتي بالديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية والاستقرار، بل لا يمكن أن يتّفق مع تدخل العسكر في تدبير شؤون الدولة ومؤسساتها، وهو الذي يفترض أنه يتلقى أوامره وتوجيهاته منها، مادامت أوامرها وتوجيهاتها تلك ترجمة لالتزاماتها نحو المجتمع وخدمة لمصالحه وتفعيلا للقانون. وبالعودة إلى الموضوع هذه المقالة، نسجل أن الانطباعات التي خلفتها أحداث المحاولة الانقلابية الفاشلة وما تلاها من أحداث إلى حدود كتابة هذه السطور لدينا لم تكن هي ذاتها على طول مسار الأحداث، بل اختلفت من لحظة إلى أخرى باختلاف المعطيات والمعلومات التي كانت تنتشر وتصل، وهو ما كان في كل مرة يدعم هذه الفرضية أو تلك. لقد فوجئنا كغيرنا بمحاولة الانقلاب في لحظاتها الأولى، وبدا لنا أن تركيا تتعرض لمؤامرة دولية بأدوات محلية، لم نتردد فورا في بناء سيناريو المؤامرة الأمريكية الأوروبية الصهيونية ضد آخر قلعة في الشرق العربي - إذا قارنا قدراتها وإمكاناتها وأدوارها ومواقفها بقدرات وإمكانات وأدوار ومواقف.. الأطراف الأخرى في المنطقة العربية والإسلامية- تمثل صمام أمان أمام استكمال مشروع تدمير المنطقة وإعادة توزيعها وتقسيمها بما يخدم الأجندة الإمبريالية الصهيونية، بل والانتقال إلى تنفيذ المراحل المتقدمة من هذا المخطط المشؤوم (الفوضى الخلاقة، وتقسيم المقسم، وتخريب المنطقة، وإنهاء كل طموح في النهضة والتحرر ..) في حال نجاح الانقلاب ونجاح أهدافه، أي توسيع مساحة الفوضى الخلاقة وتجزئة المجزأ لتشمل شمال إفريقيا، خاصة وأن الغرب الإمبريالي بتحالف مع الصهيونية والأنظمة والمعارضات العميلة وذات المصلحة في العالم والمنطقة قد هيأ شروط ذلك تهييئا جيدا. وكانت التصريحات الأولى الصادرة عن الولاياتالمتحدةالأمريكية وبعض الدول الأوروبية كلها ترفع مؤشر هذه الفرضية فوق مؤشرات جميع الفرضيات، ففي جوهرها كانت عبارة عن رسائل غامضة وغير حاسمة في موقفها، إذ تأرجحت بين الحديث عن طرفين، وبين دعوة الطرفين لضبط النفس وتجنب إراقة الدماء، وحتى لا يتم التقاط المضامين الحقيقية والرسائل المبطنة في هذه التصريحات والمواقف تم استخدام عبارات معينة للتشويش كإعلان الوقوف إلى جانب الحكومة المنتخبة. إن من ألف التعامل مع تصريحات القوى الإمبريالية يعلم جيدا أن تلك التصريحات حملت طمأنة واضحة للانقلابيين، مفادها أنهم إن نجحوا كليا في انقلابهم سيحصلون على الاعتراف الكامل وسيتم التعامل معهم، وإن نجحوا جزئيا وسيطروا على جزء من تركيا فقط (وهو ما نعتقد أن القوى الإمبريالية والاستعمارية تمنت حصوله وربما سعت إليه) فسيعتبرون طرفا قائما معترفا به، له نفس حقوق الطرف الأول، وربما يحظى بدعم أكثر. ولا نحتاج هنا لكثير جهد لنثبت هذا الطرح، فأوروبا لم تهدد بالتدخل مباشرة ضد الانقلاب، ولم تهدد الانقلابيين، رغم أن عضوية تركيا في حلف الناتو كانت تحتم ذلك. يضاف إلى ذلك أن تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية والغرب المليء بالمكر والخديعة، يجعلهما رفقة الكيان الصهيوني دائما في موقع المتهم عن كل سيئة أو نائبة تصيب الأمة العربية والإسلامية، بل ودول العالم المستضعفة أو الطامحة للارتقاء والازدهار، فما بالك إذا زدنا إلى ذلك بيان السفارة الأمريكية الذي استعمل تعبير "انتفاضة" لوصف ما يجري، وهو ما يورطها مباشرة. ونفس القراءة تسري على فرنسا بحكم إغلاقها لسفارتها وقنصلياتها بتركيا بثلاثة أيام قبل محاولة الانقلاب العسكرية الفاشلة. هكذا، كلما كانت تمر الدقائق في اللحظات الأولى من الانقلاب كانت الخشية تزداد من أن تركيا لا تعيش مجرد محاولة انقلابية بل تعيش على إيقاع مشروع تقسيم واضح لن تقف نتائجه عند حدودها أو عند حدود الشرق العربي، بل ستمتد لتطال العالم العربي والإسلامي بكامله أو ما تبقى منه (وهذا هو الأصح). وما عمق التخوفات السابقة الذكر أنه إلى حدود وصول الرئيس التركي طيب أردوغان إلى مطار إسطنبول كانت المعلومات والحقائق على الأرض غير واضحة، إذ أن التناقض بين تصريحات المسؤولين التركيين عن ضبط الوضع والقضاء على المحاولة الانقلابية بشكل كبير جدا كان يتناقض مع ما تتناقله القنوات الإعلامية من صور وأخبار أكدت في جملتها استمرار طائرات تابعة للانقلابيين في التحليق بإسطنبول واستمرار مواجهات متفرقة بين القوات الخاصة والشرطة وبين الانقلابيين. لساعات منذ اندلاع المحاولة الانقلابية سادت حالة من الترقب والتخوف تسود بين الخائفين على وحدة تركيا وعلى مصيرها ومصير المنطقة، وبين من رأوا في ذلك فرصة للتخلص من ديكتاتور صاعد يختبئ في جلباب الديمقراطية ويوظفها للإجهاز على ما حققه الشعب التركي في السنوات الأخيرة من إنجازات. بعد ذلك توالت الأخبار والصور التي تؤكد فشل المحاولة الانقلابية ونجاة تركيا من مصيرين أسودين كانت على مقربة منهما: الأول عودة العسكر إلى سدة الحكم، والثاني انقسامها وتشتت وحدتها، ودخولها في حالة انقسام وفوضى ليست بعيدة كثيرا عن الصورة التي عاشها ويعيشها اليمنيون والعراقيون والسوريون. وما أن أخمدت نيران المحاولة الانقلابية حتى بدأت تفد علينا أخبار جعلتنا نشكك في حقيقة ما بدا لنا حقيقيا وواقعيا، بل وجعلتنا نطرح أسئلة لم تجد سبيلا إلى أذهاننا بتزامن مع المحاولة الانقلابية الفاشلة. في اليوم الموالي لليلة المحاولة الانقلابية الفاشلة شرعت الحكومة بتوجيه من طيب رجب أردوغان في اعتقالات وتوقيفات وعزل من المناصب لم تشمل العسكريين بمختلف رواتبهم فقط، وهذا ما يعتبر في مثل هذه الحالة مفهوما ومقبولا، ولكنها شملت عددا كبيرا من القضاة والمنتمين لمؤسسة الشرطة أيضا. لن أتحدث عن الاعتقالات التي طالت العسكريين، فأمر طبيعي أن تقدم السلطات التركية على شن حملة اعتقالات في صفوفهم تطال كل من حامت حوله شبهة المشاركة في المحاولة الانقلابية، على أن التحقيقات والأبحاث هي التي ستبرئ لاحقا من ستبرئ وتجرم من ستجرم، وهذا ما كان يفترض أن تتم الاعتقالات والمعاملة وفقا لما هو متعارف عليه دوليا وإنسانيا، وهو ما تحث عليه المرجعية الدينية التي يستلهم منها أردوغان وحزبه خطابهما وبرامجهما (كما يعلنان)، لكنني سأتحدث عن الاعتقالات التي طالت القضاة وموظفي وزارة الداخلية والتعليم، فقد تحدثت بعض المصادر عن عزل وتوقيف ما يقارب الثلاثة آلاف قاض (2745 قاض و5 أعضاء من المحكمة العليا)، ونحو تسعة ألاف من موظفي وزارة الدخلية و15200 موظف بوزارة التربية الوطنية و1500 أستاذ جامعي... إلخ، وهذه الأرقام، على ما يبدو، ما زالت قابلة للتطور. والسؤال المطروح هنا: كيف استطاعت السلطات التركية في هذا الظرف الوجيز أن تصل إلى ما يدين كل هؤلاء؟ وهل فعلا تمتلك الأدلة القطعية على تورطهم في المحاولة الانقلابية؟ وهل يعقل أن يفشل انقلاب انخرطت فيه هذه الآلاف وخطط له بدهاء على ما يبدو؟ وهل الذي جرى كان محض انقلاب عسكري أم انقلابا مدنيا وعسكريا؟ وهل أردوجان بهذه الاعتقالات والتوقيفات يصفي الحساب مع الانقلابيين أم يريد إخراس كل صوت معارض له وإعدامه؟ وهل من المنطقي أن يقارب أو يفوق عدد المدنيين عدد العسكريين المشاركين في انقلاب عسكري؟. هذه الأسئلة ليست إلا جزءا يسيرا من أسئلة أخرى تطرحها أرقام المعتقلين والمعزولين من غير العسكريين. وسيكون من السّداجة التصديق أن لوائح الموقوفين والمعتقلين والمعزولين تم إعدادها بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة. بل التفكير السليم يرجح أن أردوغان وأعوانه وحلفاءه ومؤيديه (طبعا النافذين في الدولة ومؤسساتها وكل حسب موقعه واختصاصه) أعدوا هذه اللوائح قبل المحاولة الانقلابية ربما بأشهر وربما بأسابيع، وربما تكون هذه الاعتقالات والتوقيفات والإقالات ثمرة سنوات من الرصد والتتبع لأنفاس هؤلاء وللشعب التركي عامة، وأن أردوغان كان يتحين الفرصة لاجتثاثهم والتخلص منهم، لكن دون أن يظهر ذلك على أنه إجهاز على الحريات وعلى حقوق الإنسان، واعتداء على الحقوق الدستورية والإنسانية. إن الفرضية أعلاه تزداد قوة عندما نرى أن طيب رجب أردوغان راح وبسرعة البرق يوزع الاتهامات حتى قبل أن تنطفئ شعلة المحاولة الانقلابية الفاشلة نهائيا وحتى قبل أن تبدأ التحقيقات، ومنها اتهامه لفتح الله غولن وجماعته بالضلوع والوقوف وراء المحاولة الانقلابية الفاشلة. وها هنا نقول إن كل هذا يقود إلى تغليب فرضية معرفة أردوغان وأياديه المقربة جدا المسبقة قبل أسابيع أو أيام على الأقل بالمحاولة الانقلابية الفاشلة، وأنه سكت عنها وتجنب إجهاضها في المهد (لأن إجهاضها يتعارض ربما مع حجم الغنائم التي أراد جنيها منها) ، ليقضي بها ما استعصى عليه من مآرب. وعلى ما يبدو كل الوقائع الكبرى المرتبطة بالمحاولة الانقلابية الفاشلة تصب في اتجاه هذا المنحى بدءا من نجاة أردوغان من القصف الذي تعرض له في مكان إقامته الذي اختاره لتمضية عطلته، ونجاة طائرته، وسرعة شيوع خبر الانقلاب بين أنصاره، وسرعة خروجهم إلى الشارع، وطريقة الانقضاض على المتورطين في الانقلاب والإحاطة بهم، وسرعة إعلان لوائح المتهمين الكبيرة وتنفيذ الاعتقال في حق أصحابها دون عناء معهود،... كل هذا وغيره ينتصر لفرضية الإخراج المسبق والدقيق لكل ما جرى، وهو ما يتناقض مع الارتباك والأخطاء والهفوات التي يتعين أن تصاحب كل تدبير قد يحدث تحت صدمة المفاجأة وغياب المعطيات الدقيقة. يظهر أن أردوغان كان يدرك أنه بحاجة لتبرير نجاته وخروجه سالما إلى حدود وصوله إلى إسطنبول حتى لا يتهم بفبركة الانقلاب، لذلك ربما اصطنع حدث توصله بخبر المحاولة الانقلابية بساعة قبل بدايتها، ليكون بذلك قد در الرماد في العيون حتى لا تطرح الأسئلة التي تقود إلى انكشاف المخطط الذي وضع للسيطرة على تركيا (دستوريا وسياسيا وعسكريا وفرض إرادة الفرد الواحد ولكن تحت غطاء الديمقراطية وحماية إرادة وتوجه الأغلبية وحماية الهوية). وحتى هذه المعلومة التي يظهر أنها جعلت ما جرى منطقيا إلى حد ما باتت لاحقا في عداد المعلومات غير الصحيحة، فآخر ما بدر من جهات استخباراتية تركية، حسب بعض المصادر الإعلامية، يشير إلى أن الاستخبارات التركية بلغ إلى علمها خبر المحاولة الانقلابية الفاشلة بخمس ساعات قبل بدئها، كما تشير نفس المصادر إلى أن المحاولة الانقلابية بدأت قبل الموعد المحدد لها لأسباب نعدل عن الخوض فيها، ما دامت لن تغير شيئا في مسار هذه المقالة. رجحان هذه الفرضية، يعني أن أردوغان كان على علم بالمحاولة الانقلابية الفاشلة، وسمح لها أن تنمو وتكبر وتتجه نحو الإعلان عن نفسها أمام عينيه، قبل إقبارها وفقا لخطة موضوعة مسبقا وبإحكام، وكل ذلك لأجل تحقيق أهداف داخلية وأخرى خارجية. من هنا يمكن اعتبار توجيه الاتهام العلني للولايات المتحدةالأمريكية ولغيرها، واللعب على التأويلات الممكنة للتحذيرات الدولية من مغبة استثمار المحاولة الانقلابية الفاشلة للإجهاز على الديمقراطية في تركيا والانتقام من المعارضين، من الأوتار التي أحسن أردوغان العزف عليها لتحريك عواطف الأتراك والعرب والمسلمين عامة، بهدف تحويل نفسه إلى بطل قومي استثنائي، وبهدف الحصول على تفويض شبيه بالتفويض الذي سعى إليه السيسي (بمصر) قبله لكن بطريقة مختلفة. فالأول استغل الشعب المصري لإنجاز الانقلاب والتغطية على حقيقته، والثاني استغل انقلابا لتنويم شعب بأكمله والسيطرة عليه للأبد. مع فوارق مهمة من أبرزها: أردوغان صنع رفقة آخرين بحزبه نهضة تركيا المعاصرة، والسيسي أقبر نهضة مصر، وهو فرق مهم ودال. قبل أن نغلق أطوار هذه المقالة، أجدني مضطرا لطرح أسئلة من شأن الإجابة عنها أن تجعلنا نعيد النظر في تمثلاتنا نحو تركيا المعاصرة أو تركيا أردوغان، وهذه الأسئلة هي: ما هي الأسباب التي أدت قبل سنوات إلى تفكك ما يمكن أن ينعت، إلى حد ما، التحالف الإيراني التركي السوري؟ كيف انقلبت تركيا/أردوغان من الدفاع عن إيران إلى مصارعتها ومنافستها؟ أهي المصالح الاقتصادية والتطاحن حول النفوذ بالمنطقة؟ ونحن نعلم أن إيرانوتركيا كدولتين حققتا نهضة اقتصادية وصناعية وتجارية وعلمية تجعلهما بحاجة إلى أسواق خارجية لتصريف منتجاتهما، وهما لا يملكان سوقا يسهل اختراقها وتستوعب صادراتهما إلا المنطقة العربية. هل يمكن أن يتطور الصراع بين تركياوإيران إلى مستوى المواجهة المباشرة حقا؟ ولماذا؟. لما اختارت تركيا أن تكون ضمن المعسكر السعودي السني بعد أن كانت، في عهد حكومة العدالة والتنمية نفسها، جزءا من تحالف إيراني سوري؟ ألأسباب مرتبطة بالدين/الهوية؟ أم لأسباب مرتبطة بالمصالح الاقتصادية والسياسية؟. ألا تسعى تركيا بانحيازها وانضمامها للمعسكر السعودي أن تستثمر هذا المعسكر لتقوية موقفها وموقعها دوليا، ولاستثمار هذا المعسكر للتفاوض حول مصالحا؟. ماذا قدمت تركيا للعالم العربي والإسلامي غير الشعارات الحماسية؟ وهل استفاد العالم العربي والإسلامي من نهضة تركيا الصناعية المدنية والعسكرية والعلمية؟ أم تحول العالم العربي إلى مجرد سوق لاستهلاك منتجاتها، خاصة وأنها لن تجد سوقا سواه، كما سلف القول، باستثناء بعض دول العالم الثالث وفي ظل تنافس غربي وآسيوي حاد؟. فإذا كنا نتقاسم مع تركيا الجغرافيا وشقا من الهوية فلما لا نتقاسم معها النهضة الاقتصادية والصناعية والعلمية. أعتقد أن تعامل تركيا مع العالم العربي لا يتميز عن التعامل الغربي والإيراني والصهيوني، فكلهم يريدون منا أن نكون موردا بخسا للمواد والطاقات التي يحتاجونها، وسوقا للبضائع التي ينتجونها، وإذا كانت تركيا تريد أن تصل مبتغاها من خلال الهوية الدينية (الإيديولوجيا)، التي نتقاسمها معها، فإن الغرب سعى عبر التاريخ ليتقاسم معنا قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ومختلف القيم الكونية الفضفاضة، كما سعى لمساعدتنا عبر القروض والاستثمارات الأجنبية واتفاقيات التبادل الحر، وتقديم الدعم العسكري، وهو أقصى ما يبدو أن تركيا تستطيع مساعدتنا به،.. وعلى نفس المنوال إيران وجدت في التشيع وسيلة لالتهام المنطقة العربية والإسلامية. هذه الأسئلة دعوة للخروج من لحظة الانبهار والبحث عن منتصر تربطنا به رابطة ولو وهمية لنشعر بنشوة الانتصار ولنعوض عن الإحساس بالهزيمة، وهي دعوة كذلك لوقف الاستثمار السياسوي الضيق لإنجازات الآخرين، وهي دعوة في نفس الوقت لتحديد معايير دقيقة لصناعة التحالفات وبناء الأقطاب ومعرفة الأصدقاء من الأعداء. نعتقد أن الوقت قد حان للكف عن الاعتقاد بأن نهضة الآخرين وانتصاراتهم هي نهضتنا وانتصاراتنا، ونحن نعلم أنه منهم من لم يعد إلينا إلا بعدما رفضه الغربيون، لقد حان الوقت لإنهاء حالة الوهم التي تسيطر على جزء من شعوبنا، وربما على فئة من نخبنا، فلا إيران ولا تركيا ولا غيرها سيمنحنا مفاتيح النهضة والتقدم والديمقراطية ويصون هويتنا، إذا نحن لم نشمر عن سواعدنا ونشرع في بناء ديمقراطيتنا ووحدتنا ونهضتنا وصيانة هويتنا وتمايزنا.