ليلة 15 يوليو 2016 عرفت تركيا أحداثا دامية إختلف المحللون في وصفها البعض نعتها بمحاولة إنقلاب عسكري وآخرون نعتوها بأوصاف أخرى. حكومة أنقرة وجهت أصابع الإتهام إلى أنصار فتح الله كولن الذي كان حليفا للرئيس أردوغان حتى سنة 2013 لكن بات بعد ذلك ألد خصومه ويتهم بمحاولة خلق "هيكل مواز" داخل المحاكم والشرطة والقوات المسلحة والإعلام بهدف إسقاط الدولة. الجمهورية التركية شهدت، منذ تأسيسها، تدخلات عديدة للجيش في الحياة السياسية من خلال أربعة انقلابات عسكرية، اثنان منها أدت لتغيير الحكومة دون سيطرة الجيش على مقاليد الحكم. الجيش التركي يعتبر نفسه حامي النظام العلماني والأمن الوطني والقومي ضد المخاطر الداخلية والخارجية و"الكمالية" أي الإرث السياسي لمصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة التي برزت بعد إنهيار الإمبراطورية العثمانية عقب هزيمتها في الحرب العالمية اللأولى. بعد الحرب العالمية الثانية التي بقيت خلالها تركيا محايدة أصبحت أنقرة أحد أهم حليف لواشنطن في المنطقة وعنصرا أساسيا في الحرب الباردة ضد المعسكر الشيوعي السوفياتي وإنشاء التحالفات الموالية للغرب. واشنطن لم تتأخر في دعم الجيش التركي حتى أصبح أكبر جيش في منظمة حلف الأطلسي "الناتو" بعد الجيش الأمريكي، كما أنها دعمت بشكل خاص القادة العسكريين الأتراك الذين أثبتوا بدورهم وفي العديد من المناسبات وفاءهم لواشنطن أكثر من أنقرة، ولعل هذه الحقيقة تفسر الإيحاءات الدائمة لدور واشنطن في جميع الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا حتى الآن. ولقوة تأثير الجيش التركي وتدخله المباشر في الشأن السياسي وفي تحديد شكل الحكومات وهوية الحكام جذور تاريخية تعود إلى الجيش الانكشاري العثماني الذي لعب أدوارا مهمة في تغيير السلاطين ورؤساء وزرائهم أو الإطاحة بهم. قوة المؤسسة العسكرية التركية متنوعة ولها جذور إقتصادية عميقة خاصة في المجال الصناعي ويناهز عدد أفرادها 670 ألفا، بينهم 315 ألفا من القوات البرية. وتملك نحو 4300 دبابة، وقرابة 7550 ناقلة حربية، إلى جانب حوالي 880 طائرة من مختلف الأنواع وأنظمة إطلاق صواريخ متنوعة وقوات بحرية تتوفر على 13 غواصة وعشرات المدمرات والطرادات والسفن الأخرى. تقليص دور الجيش منذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة في أنقرة سنة 2002 عمل على تقليس تأثير الجيش سياسيا، غير ان تراجع وانحسار قوة المؤسسة العسكرية التركية، كان من الصعب أن يتم لولا صعود اتجاهات داخل المؤسسة العسكرية التركية نفسها، تبنت التوجه إلى دور أقل للجيش من التدخلات في الحياة السياسية، وتعزيز دور الجيش ليكون قوة عسكرية فحسب. مما سهل لحكومة رجب طيب اردوغان اجراء سلسلة تنقيلات وتعيينات وترقيات اتخذها مجلس الشورى العسكري للشخصيات المعروف عنها رفضها لأي تدخل للجيش في السياسة. كما قام أردوغان بإخضاع حركات وفعاليات الجيش التركي لمراقبة البرلمان. أحداث ليلة 15 يوليو فاجأت الكثيرين حيث أنه حتى في ظل أحاديث عن عدم رضا القيادات الوسطى في الجيش التركي عن سياسات الرئيس رجب طيب إردوغان، غير الليبرالية، فإن الانقلاب كان مستبعدا بشدة من جانب متتبعي الشأن التركي. بعد مرور أيام قليلة على المواجهات التي بدأت ليلة الجمعة 15 يوليو تبقى الصورة ضبابية إلى حد كبير ومعها تكثر الإستنتاجات ونظريات المؤامرة. فادي هكورة من معهد تشاتام هاوس في بريطانيا صرح إن الانقلاب لم يكن وفق المعايير الاحترافية، وفشل في استقطاب دعم عسكري واسع.كما لم يحظ بالدعم السياسي أو بدعم أفراد الشعب. خرجت نظريات تتهم إردوغان نفسه بتدبير الانقلاب لإحكام قبضته على البلاد والتخلص من كل معارضيه. وفعلا تعهد الرئيس إردوغان بتطهير البلاد مما أسماه "الكيان الموازي الإرهابي"، وأطلق اعتقالات وتحويلها إلى النموذج المكارثي في مطاردة الساحرات في بعض جوانبها، ويحولها إلى مطاردة على غرار مكارثي في بعض النقاط. لكنه اعترف أن الأمر سيحتاج وقتا. ومع ذلك، يبدو إردوغان مسيطرا على الوضع في ظل وجود قادة الجيش الكبار إلى جانبه. ويقول محللون أنه على الرغم من أن المؤسسة العسكرية التركية بقياداتها رفضت المحاولة الانقلابية، الا أن هذه المؤسسة لاتزال هي العمود الفقري لاستقرار البلاد وأمنها، والحارس الحقيقي الضامن للعملية السياسية الديمقراطية، الا أن وضعها سياسيا واجتماعيا لم يعد كما كان قبل15 يوليو بل أن تركيا كلها لم تعد كما كانت قبل هذا التاريخ ، حيث ستتجه فيه تركيا اليوم وسط ظروف سياسية واقتصادية داخلية وخارجية دولية واقليمية غاية في الخطورة والحساسية، نحو تخفيف تدخل الجيش في الحياة السياسية، لكن عملية كبيرة كهذه لابد أن تترافق مع حساسيات هنا وهناك، وتصادم بين الحكومة والمؤسسة العسكرية، مما قد يؤثر ذلك على واقع التحول التاريخي الذي يطمح ويسعى له حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب اردوغان، الذي فهم أن هناك في تركيا وفي المؤسسة العسكرية معارضة قوية ومستعدة للذهاب الى أبعد المديات للوقوف بوجه تطلعات اردوغان السياسية في حكم تركيا اليوم وسعيه لإنهاء العلمانية الأتاتوركية، لذلك فان على الحكومة التركية اليوم اعادة حساباتها داخليا واقليميا. نظريات هناك العديد من النظريات حول من يقف وراء هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة. وتشير إحدى النظريات إلى أن الرئيس إردوغان من يقف وراءها، وأنها "عملية مزيفة" أراد إردوغان من خلالها كسب المزيد من السلطة، ولكن المنطق يشير إلى أن الحدث أبعد ما يكون عن عملية مزيفة. بينما تتبنى الحركة الكردية نظرية أخرى تتمثل في أن الكماليين الموجودين في الجيش، أتباع مؤسس تركيا العلمانية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، خدعوا أتباع فتح الله غولن وقرروا الإطاحة بهم من خلال تنفيذ هذا الانقلاب. وعلم الكماليون أن هذا الانقلاب سوف يفشل، وعندها سيتحرك إردوغان ضد أنصار غولن ويتحرك لتطهير الجيش والدولة منهم. والنظرية الثالثة التي أعلن عنها أحد مسؤولي الشرطة، تشير إلى أن حكومة العدالة والتنمية كانت تخطط لاعتقال انصار حركة غولن في الجيش يوم 16 يوليو، وعندما علموا بهذه الخطط قرروا تنفيذ انقلاب عسكري سريع في يوم 15 يوليو، لذلك ظهر بشكل مرتبك وغير منظم. وقد وجه إردوغان ووزراؤه اللوم إلى حركة غولن وحملوها مسؤولية تدبير محاولة الانقلاب، وقالوا إن الجماعة في الرمق الأخير. ربما يكون إردوغان محقا، لكن هناك الكثير الذي لم يظهر بعد. النظرية الرابعة التي أشارت إليها عدة أطراف، هي أن واشنطن تقف وراء المحاولة الإنقلابية وأنها استخدمت أطرافا لا تزال هويتها غامضة حتى الآن لتحريك جزء من الجيش، ولكن الفشل المهني في العملية يثير شكوكا حول هذه الفرضية. وزير العمل في الحكومة التركية سليمان سويلو اتهم يوم 16 يوليو الولاياتالمتحدة بالوقوف خلف المحاولة الانقلابية. وقال "الولاياتالمتحدة تقف وراء هذا الانقلاب. بعض المجلات الصادرة هناك تنشر معلومات في هذا الاتجاه منذ بضعة اشهر. الرئيس أردوغان لمح بشكل غير مباشر إلى نوع من التوتر في العلاقات مع واشنطن عندما قال "في الوقت الراهن سنطالب أمريكا ودول الغرب، بشكل مكتوب عبر وزارتي العدل والخارجية، بتسليم هؤلاء "غولن ومناصريه"، وسنرى مواقفهم". في رد على هذه الإتهامات حذرت الولاياتالمتحدة من أن "تلميحات علنية" تركية بخصوص تورط أمريكي في محاولة الانقلاب "ستلحق ضررا" بالعلاقات بين البلدين. وأكد وزير الخارجية جون كيري أن هذه المزاعم "زائفة بشكل قاطع" وإن واشنطن لم يكن لديها معلومات مسبقة عن محاولة الانقلاب. غير أن هناك سؤالا يبقى مطروحا بشأن الدور الذي لعبته قاعدة انكرليك التي توجد بها قوات أمريكية كبيرة في امداد الطائرات المقاتلة التي استخدمها الانقلابيون. الذين طرحوا فرضية تأييد أو وقوف واشنطن وراء أحداث 15 يوليو، يشيرون إلى أن علاقات البيت الأبيض مع حكومة أنقرة تعرف توترات كثيرة خاصة في الأشهر الأخيرة. الإدارة الأمريكية صدمت بإعتذار أردوغان للكرملين عن إسقاط طائرة سوخوي الروسية مما سمح بتحسن علاقات أنقرة مع موسكو، كما يراقب البيت الأبيض بقلق كبير المحادثات السرية التي تجري بين أنقرة ودمشق مباشرة أو عبر وسطاء من أجل إيجاد صيغة للتهادن، ويشار أن رئيس وزراء تركيا يلدريم وصف الحرب في بلاد الشام بالعبثية وأضاف "ان اخواننا يقتلون منذ خمس سنوات في حرب عبثية في سوريا" مشيرا الى ضرورة "وقف هذه الحرب"، دون ان يتطرق مطلقا الى شرط اسقاط النظام السوري. واشنطن ترى خطرا آخر ماثلا وهو إنضمام تركيا إلى منظمة شنغهاي للتعاون التي تقودها روسيا والصين وذلك بعد أدركت حكومة أردوغان أن إنضمامها إلى الإتحاد الأوروبي مستحيل. يذكر أن مصادر رصد في برلين أشارت كذلك في تقارير رفعت إلى الحكومة الألمانية أن انسحاب أنقرة من حلف شمال الأطلسي وارد خاصة على ضوء المكاسب التي يمكن أن تجنيها من توجهها نحو الشرق ومنظمة شنغهاي. في 5 فبراير 2015 صدر من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط تقرير كشف عن تعقيدات علاقات أنقرة مع واشنطن جاء فيه: تعتبر السلطة التركية الحالية أنّه قد تكون هناك مصالح مشتركة بين تركياوالولاياتالمتحدة، غير أنهما لا تملكان هوية مشتركة. ففي عام 2003، أظهرت حكومة "حزب العدالة والتنمية" المنتخبة حديثاً مؤشرات تدل على بداية مرحلة التغير في العلاقات الأمريكية التركية حين رفضت السماح للقوات الأمريكية بالعبور إلى العراق عبر الأراضي التركية. وفي حين كان الزعماء الأتراك السابقون يتبنون الشعار المنادي إلى "التقرب من الغرب"، تؤمن نخبة "حزب العدالة والتنمية" بأن على تركيا أن تصبح قوة مستقلة في الشرق الأوسط لا تتعاون مع واشنطن إلا عندما كان هذا التعاون يخدم مصالحها. وباتت الوحدة الاستراتيجية خيارا "انتقائيا" أكثر فأكثر لدى تركيا. وفي مايو 2010، صوتت أنقرة ضد القرار المدعوم من الولاياتالمتحدة وأوروبا في مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات على إيران بهدف ردع مطامعها النووية. ثم في عام 2013 قررت نخبة "حزب العدالة والتنمية" شراء منظومات دفاع جوية صينية، مبتعدة بذلك عن التزام تركيا التقليدي تجاه مجموعة "حلف شمال الأطلسي". مغالطات كبيرة كتب المحلل والصحفي عبد الباري عطوان يوم 17 يوليو 2016: اطلاق توصيف "انقلاب عسكري" ينطوي على مغالطة كبيرة في رأينا، وسواء كان حقيقيا او مشكوك فيه، مثلما قال الداعية فتح الله غولن، الخصم الرئيسي للرئيس اردوغان، والمتهم بالوقوف خلفه، فالمؤسسة العسكرية التركية لم تتورط فيه، وانما مجموعة من الضباط لم تكن لها قيادة واضحة محددة، ولم تسيطر على وسائل الاعلام باشكالها المتعددة، ولم تعتقل الرئيس اردوغان او رئيس وزرائه، او اي من الوزراء، وقادة الامن والمخابرات، او حاجبا في القصر الجمهوري، وتضعهم تحت الاقامة الجبرية، ناهك عن قتلهم، ولم تعطل شبكات الهواتف، ووسائط الاتصال الاجتماعي من انترنت و"تويتر" و"فيسبوك" و"سكايب" و"واتس آب". فاذا كان انقلابا فعليا، ومن غير المستبعد ان يكون كذلك، فإنه انقلاب يكشف عن غباء اصحابه، ويؤكد انهم مجموعة من "الهواة"، ولهذا تمت السيطرة عليه وتفكيكه في ساعات معدودة، والقاء القبض على جميع المتورطين، او المتعاطفين، معه داخل القوات المسلحة وخارجها. نجاح "الانقلاب" كان سيؤدي الى الحاق كارثة على تركيا، وفوضى دموية، وقد يقود الى نزول انصار اردوغان من الاسلاميين المسيسين الى الشوارع بالملايين، وتكرار المشهدين السوري والليبي، واندلاع حرب اهلية قد تستمر لسنوات، وربما لعقود، تنتهي بإنهيار تركيا وتقسيمها، ولكن هذا لا يعني القبول دون شروط بديكتاتورية الرئيس اردوغان المتزايدة، واعطائه تفويضا للمضي قدما في توسيع صلاحياته الدستورية، وتغيير نظام الحكم من برلماني الى رئاسي، وتكريس كل القوى بيده، والمضي قدما في سياساته الحالية التي اوصلت تركيا الى هذه المنزلقات الخطيرة، على الصعيدين الاقليمي والدولي. تركيا باتت منقسمة الى "فسطاطين" بالنسبة الى الرئيس اردوغان، الفسطاط الاول من الاخيار وهم مؤيدوه، والثاني من الاشرار الذين يعارضونه، او لا يؤيدون طريقه ادارته لحكم البلاد، ومن المؤكد ان هذا الانقسام سيزداد ويتوسع في الاشهر، وربما السنوات المقبلة، بالقياس الى ردود فعله، اي الرئيس اردوغان في اليوم التالي للانقلاب". قوة المؤسسة العسكرية بين إحتمالين هز العنف الدولة التي يبلغ تعدادها نحو 80 مليون نسمة والتي كان يقدمها الأمريكيون ذات يوم على أنها نموذج للديمقراطية الإسلامية المعتدلة حيث ترتفع مستويات المعيشة على نحو مطرد منذ أكثر من عشر سنوات وحيث كان أخر انقلاب ناجح نفذه الجيش قبل أكثر من 30 عاما. كما قوض العنف الثقة الهشة لحلفاء تركيا بشأن الأمن في الدولة العضو بحلف شمال الأطلسي. جاء في تحليل نشرته مصادر المانية يوم 17 يوليو: رغم أن علاقته مع الجيش كانت معقدة فإن نجاة أردوغان من المحاولة الانقلابية تعود بشكل أساسي لرفض قيادة الجيش ما قام به الجنود المتمردون، حسب مراقبين. فكيف ستتطور الأمور بينهما في ظل سعي أردوغان لتطهير الجيش؟ عندما ظهرت الإشارات الأولى للمحاولة الانقلابية ضد أردوغان سارع عشرات الضباط الأتراك من ذوي الرتب العالية إلى تأكيد إدانتهم لهذه المحاولة عبر شاشات التلفزيون، ما اعتبر خطوة لافتة للغاية. منذ انقطاع العلاقات بينه وبين حليفه السابق الداعية فتح الله غولن المقيم حاليا في الولاياتالمتحدة نهاية العام 2013، تقرب أردوغان كثيرا من الجيش وخصوصا أنه بحاجة إليه في المعركة التي أعلنها ضد المتمردين الأكراد في جنوب شرق البلاد. ومن سخريات القدر أن أردوغان بعيد وصوله إلى السلطة عام 2003 تقرب من الداعية فتح الله غولن لتعزيز موقعه بمواجهة نفوذ الجيش الذي كان يعتبر التهديد الأساسي للحكومة الإسلامية المحافظة. في حين أن قيادة الجيش هي التي أنقذته اليوم من المحاولة الانقلابية، كما يقول العديد من المراقبين. غولن بدوره ينفي تماما أن تكون له أي علاقة بالمحاولة الانقلابية. المحلل السياسي فؤاد كيمان مدير مركز التحليل "بوليسي سنتر" في إسطنبول صرح لوكالة فرانس برس إن "الانقلاب فشل نتيجة التحالف بين أردوغان والجناح العلماني داخل الجيش"، معتبرا أن هذا الجناح ازداد قوة للحد من تأثير غولن داخل الجيش، ونظرا للدور الكبير الذي بات يمارسه الجيش في المواجهة العسكرية مع المتمردين الأكراد. وأفادت شبكة التلفزيون الإخبارية التركية "إن تي في" أن قائد أركان الجيش التركي خلوصي اكار رفض، رغم تهديده بالقتل، توقيع إعلان يؤكد سيطرة الجيش على السلطة. ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة غرونوبل الفرنسية جان ماركو أن "زواجا عقلانيا" قام بين أردوغان والجيش، ولم يفشل الانقلاب الأخير إلا لأنه لم "يحصل على موافقة قيادة الأركان" له. ويقول مراقبون إن هذا التحالف بين الجيش وأردوغان ظهر في البداية في أبريل 2016 عندما نقضت أعلى محكمة استئناف تركية حكما صدر عام 2013 أدان عشرات الضباط الكبار خلال محاكمة كبيرة تقول السلطات إن أنصار غولن يقفون وراءها. وقد وصف قائد الأركان السابق للجيش التركي إيلكر باسبوغ، الذي كان حكم عليه بالسجن المؤبد خلال هذه المحاكمة، ما قام به الانقلابيون ب "العمل الإرهابي"، مضيفا "آمل بأن يخرج الجيش أقوى بعد هذه الأحداث". وقد تدفع هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة أردوغان إلى العمل على الحد من سلطات الجيش، الذي يعتبر من المؤسسات النادرة التي لا تزال تتمتع باستقلالية نسبية. وقد باشرت السلطات منذ صباح السبت 17 يوليو حملة تطهير واسعة شملت ضباطا كبارا وقضاة ووصل عدد المعتقلين إلى أكثر من ستة آلاف شخص. وأضاف الباحث جان ماركو "أن الجيش يمكن أن يفقد بعد هذه الأحداث وبشكل نهائي دوره كلاعب أساسي في النظام، ليقتصر على الدور التقليدي لأي جيش آخر". وتوقع أن يعتمد أردوغان أكثر فأكثر على قوات الشرطة التي وقفت بقوة في وجه الانقلابيين. وإذا كانت أقلية صغيرة داخل الجيش قامت بالمحاولة الانقلابية فإن هذا العمل أدخل الجيش بكامله في أزمة. وأوضح المحلل السياسي فؤاد كيمان أن الجيش وبعد أن دعم الرئيس المنتخب أردوغان قد يقدم نفسه الآن "ليس فقط كحام للعلمانية بل أيضا للديمقراطية". وفي حال اتخذ أردوغان قرارا بفرض عقوبات على المؤسسة العسكرية فإن هذا الأمر لا يمكن إلا أن يكون له تأثير سلبي وخصوصا أن الجيش في قلب مواجهتين عسكريتين ضد المتمردين الأكراد وضد تنظيمات متطرفة تهدد البلاد. التحول إلى دكتاتور جاء في تقرير نشر في لندن يوم 17 يوليو: مع فشل المحاولة الانقلابية، بدأ كثيرون في طرح الأسئلة الصعبة حول الطريق الذي قد يسلكه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أما أكثر الأسئلة طرحا في المرحلة الحالية فهو هل يؤدي انتصار أردوغان إلى تحوله إلى دكتاتور يحكم قبضته على كل السلطات أم أنه قد يؤدي إلى إعادته للنظر في سياساته التي ينتهجها والتي أفرزت العديد من المعارضين؟ وفي الوقت الذي يتوقع فيه البعض أن يمضي أردوغان في اتجاه تشديد قبضته على السلطة، معتبراً أن خروج الناس واصطفاف كل القوى المعارضة معه يمنحه تفويضا ليفعل ما يشاء، يرى آخرون أنه ربما يبني على الواقع الذي أفرزته المحاولة الانقلابية عبر الدعم الواضح الذي لقيه من أحزاب المعارضة، ليبدأ عهداً جديداً من التوافق والانفتاح على من يخالفونه الرأي. شهدت السنوات الأخيرة من عهد أردوغان، قد شهدت تململاً من قبل معارضيه الذين رأوا أنه يتحرك بشكل تدريجي نحو نظام تسلطي، يهمش المعارضة ويحارب وسائل الإعلام التي تختلف معه في الرأي، ويرى مراقبون أن هذه المخاوف من قبل المعارضة، يجسدها سعي أردوغان إلى تغيير نظام الحكم في البلاد، إلى نظام رئاسي يمنحه سلطات أوسع، وتغيير الدستور المعمول به في تركيا، والذي أقره آخر انقلاب عسكري قاده الجنرال كنعان إفرين عام 1980، وبرأي محللين فإن التحرك الأخير من قبل قادة الجيش ربما جاء مدفوعاً بمخاوف من إقدام أردوغان على هذا التغيير. وفي حديث مع برنامج نقطة حوار يقول الدكتور عبد الخالق عبد الله، أستاذ العلوم السياسية الإماراتي والمعروف بانتقاداته لأردوغان، إن كل من يعرف أردوغان وكيف مارس صلاحياته خلال السنوات الماضية، يدرك أنه كان في تدرج مستمر لزيادة سلطاته وصلاحياته ولمزيد من التفرد بالسلطة، وأنا أرى والكلام لعبد الله أن أردوغان لن يختلف الآن عما كان سابقاً، سواء بانقلاب أو بدون انقلاب كما أرى أن فشل محاولة الانقلاب، ستعطيه مبررات أكثر لتوسيع صلاحياته ونفوذه، وذلك لثلاثة أسباب من وجهة نظري ويعدد عبد الله تلك الأسباب بأنها، أولا: لأن أردوغان يعتقد بأن لديه تفويضا شعبيا من أجل ذلك، ثانيا: لأنه يعتقد بأن لديه تفويضا إلهيا والكلام لعبد الله والسبب الثالث من وجهة نظره هو أن هذه هي طبيعة أردوغان التي عرف بها. ويرى عبد الخالق عبد الله أن تركيا ربما تكون مقدمة، بعد فشل هذه المحاولة الانقلابية، على حالة من الانقسام المجتمعي وعدم الاستقرار، كما يرى أن الجيش التركي نفسه لم يعد جيشاً واحداً، وأنه بات منقسماً بين من يؤيد الشرعية من جانب وهؤلاء الأتاتوركيين على حد قوله. يشار إلى أنه في أعقاب محاولة الانقلاب تم عزل أكثر من 2700 قاض في تركيا، ويمثل هذا العدد نحو 20 في المئة من إجمالي القضاة البالغ عددهم نحو 15 ألف قاض. وقد إتهم رئيس نقابة القضاة في تركيا مصطفى كاراداغ القيادة التركية بتنحية خصوم الرئيس أردوغان من خلال حركة التطهير القضائي التي اتخذتها تحت غطاء تصفية أنصار الإنقلاب. وقال كاراداغ يوم السبت 16 يوليو في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية "د. ب. أ." إن السلطات لم تلق القبض فقط على المتعاونين مع الانقلاب ، بل أيضا على من ينتقدون الرئيس رجب طيب أردوغان، ممن لا علاقة لهم بالانقلاب. من جانبه اعلن وزير العدل بكير بوزداغ ان هناك نحو 6000 شخص قيد التوقيف الاحتياطي منهم أكثر من 3000 عسكري وأن وعملية التطهير مستمرة. وحسب قناة "ان تي في" تم توقيف 34 جنرالا من رتب مختلفة. وبين هؤلاء قيادات بارزة مثل ايردال اوزتورك قائد الجيش الثالث وادم هودوتي قائد الجيش الثاني. مجرد دعاية على الجانب الآخر يرى المؤيدون للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن الذين سعوا للانقلاب لا يمثلون إرادة الشعب التركي وأن أردوغان ومنذ أتى للسلطة يعمل من أجل مصلحة الأتراك كشعب، وأن الدليل الأكبر على تأييد الشعب التركي لسياساته هو خروج الآلاف منهم للتصدي للمشاركين في المحاولة الانقلابية، ويرى المؤيدون أن الشعب التركي لم يكن ليخرج ليدعم حكومته الشرعية، لولا أنه شعر بعائد التجربة الديمقراطية التي عادت عليه بالازدهار وبمستوى معيشي مرتفع، كما يرون أن الرئيس التركي بدأ بالفعل في الانفتاح على معارضيه، وأن تركيا شهدت تغييرا واضحا خاصة فيما يتعلق بسياساتها الخارجية، تجاه قوى دولية وإقليمية وعودتها لما عرف بتصفير المشاكل مع هذه القوى. ويرى ياسين أقطاي نائب زعيم حزب العدالة والتنمية في تركيا في حوار مع نقطة حوار إن كل ما يتم تداوله بشأن دكتاتورية أردوغان هو محض دعايات، روجت لها أساسا جماعة المعارض التركي فتح الله غولن في الخارج، وينفي أقطاي أن يكون أردوغان ساعيا للانفراد بالسلطة، ويتساءل كيف يكون دكتاتورا أو ساعيا للانفراد بالسلطة وهو الذي وصل إلى الحكم عبر صناديق الانتخابات والإرادة الشعبية؟. ويضيف متسائلاً أيضا ثم لماذا خرج الشعب الشعب إلى الشوارع بعد أن دعاه أردوغان لذلك، ليرفض الانقلاب وليتصدى لدباباته بصدور عارية؟ ويقدم أقطاي الإجابة فيقول إن الناس كانوا مدفوعين بحبهم للديمقراطية وهذا أمر أساسي، لكنهم يرون في أردوغان حارسا لهذه الديمقراطية لأنه يقوم بسلطته في إطارها. ويتوقع أقطاي في حديثه لنقطة حوار أن تشهد المرحلة القادمة تقاربا بين الحكم والمعارضة في تركيا، ويقول إن الفرصة للتقارب هي أقوى بكثير بعد فشل المحاولة الانقلابية لأن الأتراك وجدوا نقطة مشتركة للالتقاء، مضيفاً أنه كان يشكو دوما ، من عدم تلاقي الفرقاء في نقاط المشتركة، قائلاً: "كنا نختلف كسياسيين على أتفه القضايا، وبدون منطق أما الآن فإن لدينا ما نتفق عليه ونبني عليه، وسنستغل ذلك لبناء مزيد من التقارب والتشاور"، وفي معرض رده على المحذرين من أن تؤدي الإجراءات التي تلت فشل المحاولة الانقلابية، إلى انقسام بين الشعب التركي يقول أقطاي إن هؤلاء الذين اتخذت بحقهم إجراءات هم نخبة فاسدة، لا تهتم بالشعب التركي ولا يوجد لها أي صدى بين صفوفه، ومن ثم يستبعد حدوث أي انقسام من وجهة نظره . حكم القانون في ظل تزايد التوقعات باتخاذ إجراءات شديدة ضد المعارضة حذر ساسة أوروبيون إردوغان من أن محاولة الانقلاب لا تمنحه مطلق الحرية في التصرف دون اعتبار لحكم القانون وأنه يخاطر بعزل نفسه على المستوى الدولي في الوقت الذي يعزز فيه موقفه بالداخل. وقال وزير الخارجية الفرنسي جان مارك أيرو للقناة الفرنسية الثالثة "نريد إعمال حكم القانون بشكل كامل في تركيا. محاولة الانقلاب ليست شيكا على بياض للسيد إردوغان. لا يمكن أن يكون هناك تطهير.. يجب أن يأخذ القانون مجراه". وزير الخارجية الفرنسي وجه بالمناسبة إتهامات لأنقرة حين قال "إن هناك تساؤلات بشأن ما إذا كانت تركيا شريكا حيويا في المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، "هناك أسئلة ينبغي طرحها وسنطرحها. إن تركيا شريك حيوي لكن هناك شكوكا أيضا. لنكن صرحاء بشأن ذلك." وأضاف إن وزراء الاتحاد الأوروبي أكدوا عند اجتماعهم في بروكسل على أنه يجب على تركيا الالتزام بمبادئ الديمقراطية الأوروبية. من جانبه ذكر المفوض الأوروبي جيونثر أوتينغر إن إردوغان سيبتعد بتركيا عن القيم الأساسية التي يمثلها الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء بحلف شمال الأطلسي إذا قرر استخدام محاولة الانقلاب لفرض المزيد من القيود على الحقوق الديمقراطية الأساسية. وأضاف أوتينغر وهو حليف للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لصحيفة فيلت أم زونتاغ "سيعزز موقفه داخليا لكنه سيعزل نفسه دوليا". وعبر بعض الساسة الأوروبيين عن قلقهم أيضا بشأن مستقبل الاتفاق المبرم بين الاتحاد الأوروبي وأنقرة والذي ساهم في تراجع أعداد المهاجرين الذين يعبرون من تركيا إلى اليونان المجاورة. خيارات يقول الباحث في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات في واشنطن افكان اردمير ان الانقلاب كان نتيجة عوامل عدة بما فيها مخاوف الجيش من النظام الجديد الذي يعد له اردوغان. ويضيف ان الاسباب الاخرى تتضمن "احد آخر التطورات المتمثلة في قانون اعادة تشكيل المحاكم العليا وكذلك رفض اردوغان البقاء على الحياد". مدير معهد "إدام" البحثي والباحث الزائر لدى معهد "كارنيغي" الاوروبي سنان اولغن ذكر "لم يشارك الجيش كله في الانفلاب مثلما حدث في الانقلابات السابقة وانما نفذته مجموعة احتجزت بنفسها قائد الجيش رهينة". ويضيف "قامت بذلك مجموعة لا تنتمي الى المراتب القيادية مجموعة صغيرة في الجيش نسبيا. حتى انها خطفت قائد الجيش. لم تكن عملية خطط لها الجيش وكان ذلك جليا. من دون الدعم التام للجيش لم تكن لديهم القدرة" على النجاح. ويقول اردمير "ولى عهد الانقلابات الناجحة مثلما حدث في 1960 و1971 و1980 مع وجود معارضة قوية لها من الشارع. ابدى الناس هذه المرة تضامنا مع الحكومة. حتى ان الاحزاب الثلاثة المعارضة في البرلمان سارعت الى ادانة محاولة الانقلاب". ويضيف ان "الاحزاب السياسية ليست لديها ذكريات جيدة" عن الانقلابات السابقة نظرا لمعاناتها تحت الحكم العسكري. ويقول اولغن "عندما لاحظ الناس ان الانقلابيين لا يحظون بدعم الجيش، كان من السهل الوقوف في وجه الانقلاب. في الواقع، كانت كل الظروف ضد الانقلابيين وظهر حتى على "تويتر" وسم: ليس انقلابا وانما مسرحية". وتقول المحاضرة في السياسة والعلاقات الدولية في جامعة نوتنغهام ترنت في بريطانيا ناتالي مارتن "بدا انه كان محكوما عليه بالفشل. وهو امر اشاع الشكوك بانه من الممكن تماما ان يكون انقلابا كاذبا". سيعرف اردوغان البراغماتي المحنك كيف يستفيد من الفرص التي يتيحها الانقلاب الفاشل من اجل تشديد قبضته على تركيا ولكنه يواجه خيارا صعبا. ويقول اردمير "يمكنه اما البناء على واقع ان جميع الاحزاب دعمته وان يبدأ عهدا من التوافق واما يستغل هذا كفرصة لتعزيز حكم الرجل الواحد". ويضيف "الامر عائد له تماما، المسار الذي سيختاره ستكون له عواقب هائلة. الشق المتفائل في داخلي يفضل اختيار المسار الديموقراطي، لكن الواقعي والمتشائم يقول ان اردوغان لن يفوت مثل هذه الفرصة، وسيكون ذلك مؤسفا حقا". ويقول اولغن "سيخرج اردوغان من الوضع اقوى، ولكن السؤال هو ان كان يرغب في استخدامه من اجل اعتماد سياسة اكثر توافقية". ويضيف "انها فرصة فريدة لتحقيق اجندة ديموقراطية اكثر طموحا. ولكن السيناريو المرجح هو ان يستخدم اردوغان هذا لتحقيق طموحاته الشخصية واقامة نظام رئاسي". عمر نجيب [email protected]