"الغيرية من خلال رواية غثاء و مسرحية ويكلو لجون بول سارتر"، هكذا ارتأى الباحث و الأستاذ الجامعي عثمان بيصاني أن يعنوِن كتابه النقدي الذي نشر في نهاية عام 2010 بالتعبير الفرنسي، و المؤلَّف هو عبارة عن دراسة نقدية و تحليلية لفلسفة الغيرية عند الفيلسوف و الكاتب الفرنسي جون بول سارتر من خلال مؤلفه الروائي "غثاء" و مسرحيته "ويكلو". و تكتسي هذه الدراسة أهمية بالغة من حيث موضوعها، إذ إن سؤال الغيرية أضحى من بين الإشكالات العويصة التي تطرح، اليوم و أكثر من أي وقت مضى، على نطاق واسع و تؤرق بحدة ممثلي الرأي العام و اهتمام الباحثين و الدارسين على حد سواء. و يأتي هذا تزامنا مع تزايد أحداث العنصرية الهوجاء و أشكال التطرف العنيف الذي يشهده العالم بأسره و يذهب ضحيته آلاف الآدميين الأبرياء. يخلص الباحث من خلال دراسته إلى أنه ليس هناك إجماع كوني حول قضية من القضايا يضاهي الاتفاق على جوهرية سؤال التعايش و الانفتاح على الآخر من أجل تجسيد مبدأ السلم بين الناس رغم اختلاف انتماءاتهم، و أجناسهم و معتقداتهم، و هذا لن يكون متأتيا بطبيعة الحال إلا إذا أعلنا عن انفتاحنا العفوي و الامشروط تجاه الآخر "كما هو و ليس كما نشتهي أن نراه". و الحق أنه ما من مفكر أو متبصر يكاد ينكر حاجتنا الماسة إلى تأثيث لبنات مواطنة أصيلة و منفتحة في الآن ذاته تسهم في بناء أفراد تتحقق فيهم معاني الإنسانية بكل تجلياتها الحقيقية، و ليس معاني التحزب الطائفي و التطرف الاديولوجي كما تسعى إلى ذلك عدة أحزاب و تنظيمات لتشييده، فتزرع بذورها السامة في الأجيال الصاعدة و تسهم في تأسيس حقبة تاريخية جديدة من التطاحن و الصراع. إن ما يشدك على مستوى الدراسة النقدية للباحث ليس فقط أهمية الموضوع و إنما أيضا علمية المقاربة الأدبية التي تنم عن حضور حس نقدي راق و متميز يستهوي المهتم و يسحره بجمالية التحليل و عمق الرؤية الفلسفية و النقدية. هذا ناهيك كون الدكتور قد طعم دراسته بزخم من البراهين و الأدلة العلمية و المنطقية مستشهدا بجهابذة الفكر المعاصر و الفلسفة بمختلف تياراتها و تفريعاتها من قبيل خطيبي، و ديريدا، و ليفيناس، و كونديرا..الخ. اهتمام الباحث بالغيرية باعتبارها موضوعا أدبيا و فلسفيا بامتياز ليس من محض الصدفة و إنما هو نتيجة لاهتماماته المسئولة بإشكالات العصر، من جهة، و بالفلسفة الوجودية التي يعتبر جون بول سارتر أبا لها من جهة أخرى. كما تجدر الإشارة أن الدكتور عثمان بيصاني - الذي يُدرس الأدب الفرنسي بالكلية المتعددة التخصصات بالرشيدية - قد سبق له نشر كتاب في نفس الموضوع بعنوان: De la Rencontre, essai sur le possible"" تطرق فيه إلى تقديم عدة مفاهيم ترتبط بتيمة الغيرية كالحوار، و التبادل، و الترجمة، و التثاقف... في قالب يجمع بين الرؤية الفلسفية العميقة و علمية البحث الأكاديمي. و في الختام، لا يسعنا إلا أن نؤكد على ضرورة الانفتاح على الآخر ليس فقط على أولئك الذين نقاسمهم الجغرافيا و الثقافة و نجد في التعايش معهم ضرورة للحفاظ على الأمن القومي، و لكن حتى أولئك الذين لا نقاسمهم الوطن لكن نقاسمهم الإنسانية و معانيها النبيلة. و في هذا الصدد، من الجميل أن نستحضر كلمات أمين معلوف و هو يروي لنا حكاية حسن الوزان في رواية "ليّون الإفريقي" نظنها الأكثر تعبيراً عن ما نحن في حاجة إليه اليوم، إذ يقول :"ستسمعُ منْ فمِي العربيَّة والتركيَّة والقشتاليَّة والأمازيغية والعبريَّة واللاتينيَّة والإيطاليَّة العاميَّة، فكلُّ اللغة وكافَّة الصلوات تنتمِي إليَّ، لكننِي إلَى أيِّ منهَا لا أنتمِي"