مرت سنوات عديدة و المغرب لازال يحتل الرتبة الأولى بدون منازع في استهلاك الشاي أو "أتاي" كما يسمى باللهجة المغربية الدارجة، بل و إن حجم الواردات من هذا المنتوج أضحت في تزايد ملحوظ سنة بعد أخرى كما لو أن علاقة المغاربة مع الشاي بدأت تتخذ بعدا قدسيا يصعب زعزعة أركانه. لذلك، نجد الدولة اليوم مطالبة بتدعيم ثبات أسعار هذا المنتوج في السوق و توفيره بكميات كبيرة تلبي حاجيات المستهلك المغربي. بالعودة إلى كتب التاريخ، يؤكد المؤرخون أن دخول الشاي إلى المغرب كان في عهد السلطان مولاي إسماعيل، و الذي تلقاه ضمن مجموعة من الهدايا التي أرسلها الأوروبيين إلى المغرب يرجون بها طلاق سراح أسرى لهم، و ما إن تذوق السلطان هذا المشروب حتى سحره بلذته إلى درجة نزل عند رغبة الإفرنجيين و استجاب لمطلبهم. هكذا إذن تحول الشاي من هدية سحرت مؤسس الدولة الإسماعيلية بمذاقها الفريد إلى مشروب رئيسي عند المغاربة الذين نسجوا معه قصة وطيدة ترسخت بشكل قوي في عمق الاشعور الجمعي عندهم، إذ صار مشروب الشاي لصيقا بحياتهم اليومية إلى حد الاستغراب، إذ يحضر في جميع وجبات الأكل و عند استقبال الضيوف.. الخ. قد يختلف تحضير هذا المشروب من مدينة إلى أخرى و قد تختلف حتى نوعية الأعشاب الطبية و العطرية التي يتم إضافتها إلى "حبوب أتاي" من منطقة إلى أخرى، إلا أن المسألة المشتركة بين كل المغاربة هو أن هذا المشروب حاضر اليوم في كل طقوسهم و مناسباتهم : في أفراحهم و في أقراحهم و عند كل وقت و في كل حين. و تجدر الإشارة أنه من الأعراف الأصيلة للمغاربة أن يتم تحضير الشاي أمام أعين الحاضرين، فيؤتى بالصينية الفضية تزينها رموز أبدعتها أيدي الحرفيين و بالإبريق المذهب و المنقوش و بالكؤوس المزينة بالأصباغ و الألوان.. و لا يتولى مسؤولية تحضير الشاي شخص عادي بل يتم اختيار الأكبر سنا و الأكثر خبرة للقيام بالمهمة التي ليست بالسهلة. و بهذا المعنى فإن الشاي يلعب دورا سوسيولوجيا في بيوت المغاربة، إذ إنه في الوقت الذي يُحضر فيه الشاي ينشغل أفراد الأسرة في الخوض في الأحاديث و في تبادل الأخبار، الشيء الذي يسهم بشكل كبير في بناء جسور التواصل بين أفراد العائلة الواحدة و توطيد العلاقات الأسرية بينهم في جو مزهو بروح الدعابة و المرح. أما في المناسبات و الاحتفالات، فيحدث كثيرا أن يقضي المغاربة – نساء و رجالا على حد سواء- ساعات طويلة في شرب الشاي، و بين انتظار تحضيره و شربه يكون هناك وقت كاف للحوار و الضحك و المزاح بين الحاضرين، و يمكن أن نستشف في هذا نسقا متماسكا من القيم التي يتم توريثها من جيل لآخر كقيمة التعايش و انشراح الوجه و الابتسامة.. الخ. و غالبا ما تشير كلمة "الصينية" عند المغاربة إلى قيمة "اللَّمَّة" (اجتماع العائلة)، ذلك أنها توحي إلى مشهد التفاف الأهل و الأحباب على "صينية أتاي" بعدما كتبت عليهم الأقدار أن يلتقوا بعد طول فراق، فراحوا يسترجعون هذه الذكرى و هم يستمتعون بشرب هذا المشروب المنعنع الذي صار جزءا من حياتهم. والواقع أن عصر التكنولوجيا و التقنية المتطورة جعل من "الصينية" و "أتاي" و ما يحبلان به من رموز ثمينة ترفا زائدا لا يعتد به هذه الأيام، و صار الشاي يؤتى به جاهزا من المطابخ ضاربين بذلك بقيم اجتماعية ثمينة توارثها أجداد المغاربة منذ سنين خلت.