احتضن فضاء «الباطوار» (مجازر الدارالبيضاء القديمة)، فعاليات معرض «في صحراء الحداثة: التخطيط الاستعماري وتوابعه». ضم المعرض مجموعة من الصور والأشرطة الوثائقية والرسومات الهندسية.. الغرض منها التعريف والوقوف على مساهمة الدار البيضاء في الحداثة الأوربية على مستوى المعماري. مناسبة المعرض، الذي امتد لمدة شهر، شارك في إنجازه وتنشيط فقرات برامجه كل من « casamémoire»، جمعية الباطوار، وزارة الثقافة، معهد «كوت»، المركز السينمائي المغربي...، حيث شكل فرصة لنقل ظروف التطورات الجديدة للدارالبيضاء التي عرفتها منذ ظهور تخطيطات معمارية جديدة، واقتراح الدارالبيضاء كأرض لتجارب عمرانية وهندسات حديثة. لقد حاول المعرض، أن يظهر البدايات الأولى لمجموعة من المدن، من خلال توضيح الظروف المجتمعية التي تحكمت وتسببت فيها الهجرة القروية الكثيفة نحو المدن منذ سنة 1945 .. هذا الواقع، فرض على المهندسين المعماريين التفكير في البحث عن أرضية لإجراء التجارب المعمارية.. هكذا بدأ البحث عن أرضية معمارية، وعمل صناع الحركة التحديثية للمدن على تطوير نمط جديد من السكن لأكبر عدد من السكان يتميز بسرعة تشييده، باقتصاد وملاءمة، لاحتياجات الساكنة الجديدة. من هنا أصبحت مدينة الدار البيضاء مختبر تجارب ونموذجا يحتذى به على المستوى العالمي. من فكرة توفير السكن للجميع، سيعطي ميشيل إيكوشار، المسؤول عن قسم التعمير، (« 1905 1985» مهندس فرنسي مسؤول عن العمران الاستعماري في المغرب من 1946 إلى 1952 . أنجز تصميم توسع الدارالبيضاء سنة 1952، ثم تابع ممارسة مهنته في باكستان ولبنان)، حيث يعتبر إيكوشار، المهندس الذي أعطى الانطلاقة لبرنامج السكن الاجتماعي «بكريان سنطرال» وسيدي عثمان والحي الحسني وحي العنق بهدف إعادة إيواء ساكنة دور الصفيح. هكذا، تجسدت الفكرة الأساسية في الخمسينيات في تشييد مساكن تلائم طريقة عيشهم، إذ يبقى الفضاء الخاص محميا من الخارج ومنتظما حول فناء داخلي. وهذا تفسره مرجعية تصور ميشيل إيكوشار لمدينة مستوحاة من المساكن التقليدية، حيث أسفرت المشاريع العمرانية الأولى المنجزة، سنة 1958 بكاريان سنطرال، عن تشييد منازل مكونة من غرفتين وفناء، والتي أطلق عليها فيما بعد اسم «شبكة إيكوشار». لكن سرعان ما قام السكان بتعلية المساكن وسد المنافذ، وبالتالي تقلصت الإضاءة والتهوية الضروريتان للسكن الصحي، فيما اقترح مهندسون معماريون آخرون بديلا لهذا السكن الأفقي المستلزم لفضاء شاسع، واستوحوا من ميثاق أتينا (1) ، تصورا لمساكن جماعية مركبة فوق بعضها بعضا وتتوفر جميعها على فناء.. وبفضل إقامة البناية حسب الاتجاه الأكثر ملاءمة والفضاء المهيء حولها، تمكن المهندسون المعماريون من توفير التهوية الطبيعية والإضافة في كل أرجاء المسكن. هكذا أنشأت ورشة «أتبات إفريقيا» بكاريان سنطرال بنايات «سيميراميس» و«خلية النحل». وما يبرز اختيارهم حسب رؤيتهم، كون هذا النوع من السكن المركب يشبه القصبات، وأن 80% من سكان الدار البيضاء أتوا من ربوع تضم قصبات. ففي حي كريان سنطرال تم اقتراح أشكال جديدة للمساكن التقليدية التي تتوفر على فناء، كانت موجهة في الأصل إلى الساكنة القروية التي استقرت بضواحي المدينة. في سنة 1955، اعتمد المهندسان المعماريان السويسريان هينتش وستودر على مبدأ نفسه لإنشاء حي سيدي عثمان. وسينتشر هذا البناء ذو الأشكال المتميزة ويعمم في كل أرجاء العالم ويحتل مكانة من بين أعظم التشييدات البارزة في القرن العشرين. هكذا، وبفضل التصميم المسنن للبنايات، تمكن السكان من الحصول على اتجاهين مختلفين لوصول أشعة الشمس. ووفر التركيب الأفقي مزيدا من الفضاء الأرضي الذي يعتبر مناسبا للاستمتاع بالخضرة والترفيه وعقد الجلسات. لكن انطلاقا من سنة 1959، اكتشف المهندسان المعماريان أزاكوري وباسيانو طريقة ثالثة للسكن ب «الدرب الجديد» الذي أطلق عليه فيما بعد اسم «الحي الحسني». وتتمثل في توفير تنوع أكثر في المساكن التي تمت ملاءمتها مع مستويات مختلفة من الدخل... في سنة 1950 ، تقرر تشييد «حي العنق» بمدينة الدار البيضاء لإعادة تسكين الساكنة اليهودية و40.000 ساكن، حيث تم بناء هذا الحي وفق نموذج ميثاق أتينا، معتمدا على قائمين متينين موجهين حسب اتجاه الشمس والريح للاستفادة من التهوية الطبيعية والصحية. وفي خلاصات لهذه التجارب.. شهدت هذه العمليات الخمس، على فترة تميزت بوفرة الإنتاج والتصورات المعمارية التي عرفتها الدارالبيضاء، حيث كان الغرض من خلال هذه الأشكال الجديدة إيجاد حلول لمشكلة السكن. في سنة 2009، وبعد تعاقب جيلين من الساكنة، تطورت هذه البنايات وطرأت عليها تحولات.. هنا ندرج الاستنتاجات التي أصبحت عليها هذه الاشكال الهندسية، حيث أصبح سكان «كريان سنطرال» يحتلون السكن الأفقي الذي كان معدا في البداية للساكنة القروية، وتزايد عدد التعليات إلى أن اختفى الشكل الأصلي للمساكن. كما قامت ساكنة كلا النوعين من البنايات «خلية النحل» أو «سيميراميس» بإغلاق الفناء للاستفادة من الفضاء لأجل توفير مكان أكبر للعيش داخل منازلهم. ونفس الملاحظة عرفها حي «سيدي عثمان»، فأصبحت البناية تشبه تدريجيا قصبة حقيقية... وإذا كانت الغاية هي إنشاء مساكن «ملائمة للسكان»، وإذا كان ساكنوها قد أدخلوا عليها تعديلات.. فهل فقدان الشكل الأصلي يعني نجاح الفكرة أم فشلها؟ هل كان معماريو تلك المرحلة يعتقدون أن السكان سيحتفظون بنمط العيش ذاته رغم تعاقب الأجيال؟ هل كان ينبغي إعادة بناء مساكن ذات فناء تقليدي في أشكال جديدة أم اقتراح مساكن أكثر حضرية وفسح المجال أمام قدرات الإنسان على التكيف؟ هل كانت الساكنة ترغب في الإقامة من جديد في مسكن قروي أم كانت تفضل سلك سبل أخرى لتعيش حياتها الجديدة داخل المدينة؟ كيف نحكم على عمل شهد عدة تغيرات؟ هل نأخذ بعين الاعتبار الشكل الأصلي أم الشكل الذي أنتجته هذه التحولات؟ هل حافظت البنايات على شكلها الأصلي تقريبا لأنه تمت ملاءمتها لحاجيات السكان أم لصعوبة تغييرها؟ ماذا نفعل بهذه المواقع التجريبية؟ هل نعيدها إلى حالتها الأصلية لتبقى شاهدة على الفترة التي شيدت فيها؟ هل نعتبر أن التحول الذي شهدته حقق أخيرا الغاية الأصلية المتوخاة من السكن الملائم؟ هل يدرك سكانها أنهم يعيشون ببنايات وجهت تاريخ الهندسة المعمارية؟ هل معرفة ذلك مهم؟ ... من على حق؟ هامش: (1) - ميثاق أثينا: في إطار المؤتمرات الدولية للهندسة المعمارية الحديثة، سنة 1933 ثم إعداد ميثاق أثينا. وهو الميثاق الذي وضع أسس الرؤية المعمارية التقدمية للمدن والتي تحددها الوظائف الأربع الأساسية: السكن، العمل، التكاثر والتنقل. ويقترح المهندس لوكوربوزيي فكرة نموذج جديد للمدن المؤسسة لخدمة المصالح الجماعية. وتعطي هذه الانجازات المرتقبة والتي يتطلب إنجازها توظيف وسائل جذرية. الأولوية للبعد الوظائفي عن طريق تدبير أكثر صرامة وعقلانية للسكن والمجال.