فوزي لقجع نائب أول لرئيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم    توقيف شخص بتهمة الوشاية الكاذبة حول جريمة قتل وهمية    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بانتصار دراماتيكي على ريال مدريد    الأمن يصيب جانحا بالرصاص بالسمارة    مراكش… توقيف شخص للاشتباه في تورطه في قضية تتعلق بإلحاق خسارة مادية بممتلكات خاصة وحيازة سلاح أبيض في ظروف تشكل خطرا على المواطنين.    بنكيران يتجنب التعليق على حرمان وفد "حماس" من "التأشيرة" لحضور مؤتمر حزبه    الدوري الماسي: البقالي يحل ثانيا في سباق 3000 متر موانع خلال ملتقى شيامن بالصين    الرصاص يلعلع في مخيمات تندوف    قتلى في انفجار بميناء جنوب إيران    الكرفطي ينتقد مكتب اتحاد طنجة: بدل تصحيح الأخطاء.. لاحقوني بالشكايات!    بنكيران: "العدالة والتنمية" يجمع مساهمات بقيمة مليون درهم في يومين    المباراة الوطنية الخامسة عشر لجودة زيت الزيتون البكر الممتازة للموسم الفلاحي 2024/2025    الكلية متعددة التخصصات بالناظورتحتضن يوما دراسيا حول الذكاء الاصطناعي    أدوار جزيئات "المسلات" تبقى مجهولة في جسم الإنسان    أخنوش يمثل أمير المؤمنين جلالة الملك في مراسم جنازة البابا فرانسوا    مناظرة جهوية بأكادير لتشجيع رياضي حضاري    تتويج 9 صحفيين بالجائزة الوطنية الكبرى للصحافة في المجال الفلاحي والقروي    العثور على جثة بشاطئ العرائش يُرجح أنها للتلميذ المختفي    بواشنطن.. فتاح تبرز جاذبية المغرب كقطب يربط بين إفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة    جديد نصر مكري يكشف عن مرحلة إبداعية جديدة في مسيرته الفنية    الجامعي: إننا أمام مفترق الطرق بل نسير إلى الوراء ومن الخطير أن يتضمن تغيير النصوص القانونية تراجعات    إطلاق مشروعي المجزرة النموذجية وسوق الجملة الإقليمي بإقليم العرائش    مؤتمر "البيجيدي" ببوزنيقة .. قياديان فلسطينيان يشكران المغرب على الدعم    برهوم: الشعب المغربي أكد أنه لا يباع ولا يشترى وأن ضميره حي ومواقفه ثابتة من القضية الفلسطينية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    بدء مراسم جنازة البابا في الفاتيكان    جيدو المغرب ينال ميداليات بأبيدجان    المغرب يرفع الرهان في "كان U20"    المغرب يرسّخ مكانته كمركز صناعي إفريقي ويستعد لبناء أكبر حوض لبناء السفن في القارة    البشر يواظبون على مضغ العلكة منذ قرابة 10 آلاف سنة    هولندا.. تحقيقات حكومية تثير استياء المسلمين بسبب جمع بيانات سرية    شبكات إجرامية تستغل قاصرين مغاربة في بلجيكا عبر تطبيقات مشفرة    تصفية حسابات للسيطرة على "موانئ المخدرات" ببني شيكر.. والدرك يفتح تحقيقات معمقة    من تندرارة إلى الناظور.. الجهة الشرقية في قلب خارطة طريق الغاز بالمغرب    تتويج الفائزين في مباريات أحسن رؤوس الماشية ضمن فعاليات المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب 2025    جلالة الملك يهنئ رئيسة جمهورية تنزانيا المتحدة بالعيد الوطني لبلادها    كرانس مونتانا: كونفدرالية دول الساحل تشيد بالدعم الثابت للمغرب تحت قيادة الملك محمد السادس    ماذا يحدث في بن أحمد؟ جريمة جديدة تثير الرعب وسط الساكنة    بدء مراسم تشييع البابا فرنسيس في الفاتيكان    ولاية أمن الدار البيضاء توضح حقيقة فيديو أربعة تلاميذ مصحوب بتعليقات غير صحيحة    لقاء يتأمل أشعار الراحل السكتاوي .. التشبث بالأمل يزين الالتزام الجمالي    الشافعي: الافتتان بالأسماء الكبرى إشكالٌ بحثيّ.. والعربية مفتاح التجديد    المرتبة 123 عالميا.. الرباط تتعثر في سباق المدن الذكية تحت وطأة أزمة السكن    المعرض الدولي للنشر والكتاب يستعرض تجربة محمد بنطلحة الشعرية    الصين تخصص 6,54 مليار دولار لدعم مشاريع الحفاظ على المياه    الهلال السعودي يبلغ نصف نهائي نخبة آسيا    وثائق سرية تكشف تورط البوليساريو في حرب سوريا بتنسيق إيراني جزائري    الجهات تبصِم "سيام 2025" .. منتجات مجالية تعكس تنوّع الفلاحة المغربية    العالم والخبير في علم المناعة منصف السلاوي يقدم بالرباط سيرته الذاتية "الأفق المفتوح.. مسار حياة"    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    متدخلون: الفن والإبداع آخر حصن أمام انهيار الإنسانية في زمن الذكاء الاصطناعي والحروب    الرباط …توقيع ديوان مدن الأحلام للشاعر بوشعيب خلدون بالمعرض الدولي النشر والكتاب    كردية أشجع من دول عربية 3من3    دراسة: النوم المبكر يعزز القدرات العقلية والإدراكية للمراهقين    إصابة الحوامل بفقر الدم قد ترفع خطر إصابة الأجنة بأمراض القلب    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نص قصصي.. أن يتربص عند الزاوية 180
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 13 - 11 - 2009

للرجل وجه ليلي تستره ظلمة الليالي الندية الرطبة الحارة القارسة.
يحل صاحب الوجه بعد غروب شمس كل يوم، يجر وراءه كلبا يتحرك بطيئا كأنه مجبر على السير، يتمركز في مرصده، يتربص عند نقطة تقاطع درب طويل ضيق وزقاق غير سالك ؛ يتدثر بمعطف طويل يكاد يلامس قدميه، يتأبط هراوة - ويا ليته تأبط في صغره محفظة - يضيق عينيه، يلتقط صور مرئيات تتجمع في البؤبؤ، ما من طيف يمر في مجال بصره يفلت من ضبط هويته - بشرا كان أو حيوانا.
يخطو خطوات بطيئة، يتفقد المنطقة ويبدأ عمله: يتربص بساكنة الدرب وضيوفهم، يتسقط ثرثرتهم وما يصدر عن ألسنتهم الطويلة بخصوص الوضع السياسي والاجتماعي، انتهاك الحقوق، استغلال النفوذ، الشطط في استعمال السلطة، الصيد في أعالي البحار، أراضي الأحباس، مقالع الرمال والرخام، ومواضيع يحشرون أنوفهم فيها بينما الأجدر بهم تشجيع الفريق الوطني وارتياد ساحات المهرجانات الفنية وتجريب حظوظهم مع اليانصيب ورهان سباق الخيول والكلاب.
بعد السير جيئة وذهابا، يستقر عند نقطة تقاطع الدرب والزقاق ? عند الزاوية 180 درجة - وتبدأ العينان تمسحان المنطقة.
* * * * *
بدا الليلة على غير عادته مهموما مرهقا وشعر بدبيب يسري في مجموع أوصاله. انفتح فمه، حين داهمته نوبة تثاؤب - فغطاه براحة يده كي لا يدخله الشيطان. أخرج من جيب معطفه صرة صغيرة من البلاستيك الشفاف، ونشر سطرا من السعوط على امتداد أصبع الإبهام. بدأ يتنشقه تارة من التجويف الأيمن من منخره وتارة من التجويف الأيسر - مطبقا مبدأ التناوب -. وساعة وصل السعوط إلى منحه توالى العطس فانتفض وانهزم النوم الذي يثقل جفنيه.
كيف اهتدى إلى هذه الحيلة لمغالبة النعاس وتمديد يقظته؟
(كان سكان الدرب يجودون عليه بما يتيسر لهم عند بداية كل شهر، فقد وجدوا من يسهر على راحتهم وهم نيام، يقيهم شرور السطو على أشيائهم المنشورة فوق السطوح. وكانت الإكراميات تكفيه طيلة أيام الشهر لاقتناء، كل يوم، قنينة خمر رخيص أو ربع لتر ماء الحياة، يخففه بالماء، فتنعشه الجرعات المتتالية ويظل مستفيقا طيلة الليل.
لكن دوام الحال من المحال: لقد تبين لساكنة الدرب أن الرجل يتربص بهم، يتسقط أحوالهم بل هناك من أسرَّ إليهم جازما بتورطه في الوشاية ببعض الشبان حد محاكمتهم ? فبادروا إلى مقاطعته، ووصل الأمر بأحدهم أن سماه (سحت الليل) ناصحا إياه اللجوء إلى من عيَّنه حارسا ليليا كي يؤدي له أتعاب مهمته القذرة !
تزامن هذا المستجد مع شكوك بدأت تساوره. تُرى هل استنفد المدة الافتراضية لمهنته؟ وإلا ما معنى عدم انتظام حضور كفيله (الزواق) صبيحة كل يوم للتزود بأحوال الدرب وساكنته؟ بادر إلى الاتصال به طارحا عليه وضعيته الجديدة، محاولا إقناعه بإخلاصه في العمل وبجهوده لتطوير أسلوبه حيث لم يعد يتربص بالساكنة والاعتماد على البصر فحسب، بل اجتهد ودرب سمعه حتى صار بمقدوره التقاط حديث مهموس على بعد كذا سنتمتر... وحديث مسموع على بعد كذا متر.
لم يعلق (الزَّواق) على المعلومة واحتفظ بها لأهميتها - ربما تنفعه فهو يطمح في الترقي إلى منصب المشيخة - لكنه ارتأى أن يستعرض معلوماته مقابل جهل محدثه وأوضح له أن ما يقوم به يصطلح عليه ب: «السمعي البصري».
ردَّدَ (سَحْت الليل) عبارة «السمعي البصري» بتسكين حرف الصاد ثم تساءل: «البصري أسمع به، فمن هو السمعي؟»
عند هذا الحد بادر (الزَّواق) إلى الانصراف قائلا: «لقد تغيرت الأحوال !». لم يستوعب (سحت الليل) مضمون العبارة كما لم يستوعب ما يتناقله الناس وما تذيعه وسائل الإعلام من قبيل: العهد الجديد، الديمقراطية، حقوق الإنسان، المجتمع المدني، المجالس الاستشارية... وهلم جرا.
هو السند ينقطع. لكن في انتظار القادم من أيام، لم يعدم حيلة لمواصلة عمله الليلي وعوَّض المشروب الروحي بالسعوط فهو أقل تكلفة وذو فعالية لمغالبة النعاس).
* * * * *
عاوده الارتخاء وثقل الجفنين وانضاف إحساس دغدغ مشاعره فخفق قلبه: لماذا يتذكر صاحبته الليلة؟ أهو بشير فأل حسن ينبىء باقتراب التقائهما مجددا بعد فراق غير معلن ومن جانب واحد؟ هل أخطأ وتركها فريسة هواجس؟ لم يكن لائقا التصرف بطريقة تجعلها هزأة بين أناس الدوار الذين لا هَمَّ لهم سوى القيل والقال، بل كان المفروض أن ينفصل عنها بحسب ما تقتضيه الأعراف بدل هجرها بشكل لا يمكن وصفه، ساعة انفضاح أمره، سوى بالنذالة. ربما لن تتشبث به فلها قدرة عجيبة على اصطياد من تهواه نفسها وقد سبق لها أن مرت بتجربة زيجتين انتهتا برحيل الزوجين إلى دار البقاء، ولم تنجب منهما.
لا شيء يربطه بها سوى الفاتحة قرأها دزينة رجال من الدوار، وأيضا ما تفرضه طبيعة ما هو ثنائي: المذكر والمؤنث ؛ الفاعل والمفعول ؛ التابع والمتبوع ؛ الجار والمجرور ؛ آه المجرور ! كثيرا ما تؤرقه تعليقات ساخرة بخصوص تبعيته للمرأة حدَّ ستميته (رجل ميرة) فاندثر لقبه. ولإغاظتهم كان يرد عليهم: هي لا لاَّكم. ويتمادى في استفزازهم بمناداتها: لالَّة ميرة.
حقا، هي امرأة ذات خاصيات كما للبشر: صارمة وحاسمة في اتخاذ القرارات ؛ طَيِّعة متى أحست بالافتقار إلى ذلك الشيء ومتسلطة متى شبعت منه حدَّ التخمة ؛ دمَّاعة نوَّاحة في المآتم حتى ليكاد البعض يجزم باقتراب نضوب مصادر دموعها، لكنها تتميز بقدرة خارقة على التحكم في إيقاف دموعها في الوقت المناسب ؛ طاقتها تتجدد باستمرار وبصورة يصعب معها تحديد مصدرها، خاصة حين ينتابها هوس الرقص وتصير مملوكة لشيطانه. كلما طرقت أذنيها موسيقى شعبية، تطرح كل شيء جانبا وتنخرط في رقص هستيري لا يحررها منه سوى انكتام إيقاع البندير وجرَّة الكمنجة.
إلى متى يظل ملتصقا بها كالمجرو؟
فكَّر وقدَّر. وحين واتته الفرصة قرَّر: موسم الحرث على الأبواب وأرض لالاَّه بحاجة إلى البذور والسماد ؛ زودته بمبلغ مالي وعليه الذهاب إلى مركز التعاونية الفلاحية قصد ضبط الحاجيات وتصفية ديون سابقة، غير أن الرجل بات مقتنعا باستحالة استمرار صاحبته في استغلال أرض الجموع، فحق الاستغلال أصبح ضمنيا في خبر كان بعد رحيل زوجها الثاني إلى دار البقاء، فالأرامل لا حق لهن بالانتفاع من أراضي الجموع ? إن لم يكن لهن ولد ? وصاحبته يسري عليها مضمون ظهير صادر عن السلطات الرسمية منذ سنة 1919. وبالنسبة إليه، لا يمكنه الاستفادة فهو دخيل على الدوار لا ينتمي إلى الجماعة السلالية.
صبيحة اليوم المقرر لتنفيذ المهمة، امتطى بغلا وكانت وجهته صوب طريق أخرى... الطريق المؤدية إلى المدينة. لقد قرر أن يضع حدا فاصلا بين الجار والمجرور.
* * * * *
المدينة أخيرا، ولكل داخل دهشة ! هو الكرنفال عينه إذ يتجمع بساحة المدخل الشرقي للمدينة كل ما يحيل على تناقضات بمواصفات خاصة: يتعايش في الساحة جميع أصناف الدواب، مختلف وسائل النقل، حلقات الفرجة، عربات يعرض أصحابها وجبات سريعة يتهافت الوافدون عليها كما يتهافت أناس آخرون في أماكن أخرى على «ماكدونالدز» لا مجال للمساومة ولا للاختيار فالبطن لا ترحم.
ضوضاء البشر، زعيق الأبواق، النهيق والصهيل... أشياء تصم الآذان، فيضطر كل متحاورين اثنين إلى اعتماد إشارات التخاطب بدل لغة منطوقة. هناك طائفة من البشر لا شغل لها، هل هي طائفة النشالين؟ مهما تكن درجة الاحتياط الاستباقي مرفوعة إلى حدودها القصوى، فالنشالون لا يعدمون حيلة للإيقاع بالضحايا.
يسير الرجل ممتطيا بغله لا يدري إلى أين يتجه، بل لا يدري حتى مبتغاه وكاد يندم على فعله، غير أن إحساسا عنيفا ? لا قبل له بمقاومته ? بدأ يسيطر عليه وبعث الثقة بنفسه وشجعه على المضي في المغامرة مهما تكن تبعاتها: لقد تحرر من التبعية وانفصل عن لالاَّّه.. عن الجار ؛ استقل بذاته وما عاد إمَّعة.
بدا شبه نائم، غائصا في ذكرياته حدَّ أنه ترك العنان للبغل كي يسير حسب هواه أو كان يزجره كما كان أجداده القدامى يزجرون الطير في الأيام الخوالي.
فجأة، ينعطف البغل وسار يخترق أحد الشوارع الراقية، فيما الرجل غير عابئ بنظرات المارة فهم لم يألفوا مشهدا كهذا... مشهد بهيمة تحتك بسيارات الكات كات. وبلغت دهشتهم ذروتها بعدما توقف البغل: باعد قائمتيه الخلفيتين ثم بدأ يشرشر... ويبعر !
استفاق الرجل من شروده حين توقفت سيارة إحدى المصالح ووجد نفسه محاصرا من طرف أشخاص أنجزوا محضرا ثم حجزوا البغل واقتادوه إلى المحجز البلدي.
أهو الحظ بجانبه أم العناية الإلهية تحيطه برعايتها؟ وإلا بماذا يفسر وجود شخص ضمن من حاصروه، شخص يتحدر من قبيلته، خفف عنه وطأة ما أصابه؟ بعد عناق، شرح له ابن قبيلته ما يمكن عمله بخصوص البغل، إن هي إلا إجراءات بسيطة تتلخص في أداء ذعيرة لاسترداده، وعليه أن ينسى الموضوع الليلة على الأقل ? إذ سيحل ضيفا عليه.
* * * * *
سار الضيف رفقة مضيفه باتجاه ضاحية المدينة، وبدأ انبهاره بالشوارع الراقية يتلاشى وانمحت من ذاكرته أضواء النيون وواجهات المتاجر والعمارات، وصدمه واقع آخر تمثله الضاحية ببنايات عشوائية وبراكات وساكنة تفتقر إلى أبسط ظروف العيش. لم يجد أي فرق بين الضاحية وبين الدوار، وعاوده الحنين إلى لالاَّه، وبدا كمن انعقد لسانه. لكن مضيفه تمكن من حل عقدة لسانه وجره إلى الحديث عن ارتحاله: لماذا ومتى وكيف؟ حيث تبين له أن الرجل، رغم تردده، سائر حتى الوصول إلى نقطة اللاعودة.
وداخل برَّاكة المضيف كان كل ما لذَّ وطاب. وكلما انصرم جزء من الليل، تزداد الجلسة سخونة وتكاشف الرجلان ولعبت الكأس لعبتها حتى صار إحساسهما أشد رهافة، حدَّ أنهما تعانقا أكثر من مرة وهما يجهشان بالبكاء. وكانت قمة البوح لما تذكر الضيف العناية الإلهية ولقاء ابن قبيلته، وقال: حمدتك يا رب وشكرتك. لكن مضيفه أفصح له أن العناية الإلهية جنبته مأساة كان بالإمكان حدوثها لواحتك البغل بسيارة إحداهن مريضة نفسيا و(مقرقبة) فلن تتردد في دهسهما معا، هو والبغل. أما إذا كان المعتدى عليه رجلا فتلك قصة أخرى.
وتبدى المضيف لضيفه أكثر كرما عندما وعده بالبحث عن برَّاكة يشتري رقمها ليضمن بقعة أرضية ضمن بقع من المنتظر توزيعها في إطار مخطط لإعادة إسكان قاطني دور الصفيح. كما وعده بالتدخل لدى رئيسه ليسمح له بالعمل حارسا ليليا، فسعادته يتحدر بدوره من نفس منطقتهما. وحتى إشعار آخر، عليه أن يستقر بفندق مخصص لإيواء البشر والبهائم على حد سواء.
وقبل أن يخلدا إلى النوم، سلم الضيف إلى مضيفه ما بحوزته من مال واستأمنه عليه إلى حين شراء رقم براكة.
* * * * *
ما تزال صورة لالاَّه تنطبع على مخيلته بإلحاح. بالتأكيد لن ترضى بالإهانة فإحساسها شديد الرهافة إزاء وضعيات تنعكس على نفسيتها حد الانجراح، ولن تجد ما يخفف عنها وطأة الإهانة سوى الاستنجاد بقاموس السب والشتم تختار منه ما هو أفظع من الجرح، ترسله إليه عبر الهواء. وأكيد أيضا أنها ستحن إليه ساعة إحساسها بالجوع والرغبة في ذلك الشيء، وستشتاق إليه ليضبط لها الإيقاع بغاية تسخينات تمهيدية تُدخلها متاهة تلك الرغبة
وتشرع في الرقص بطريقة تصطلح عليها الشيخات: «مشطة وقدم» (تعتلي جفنة معدنية
مقلوبة ؛ تلف منديلا حول ردفيها ؛ تحرر تشعرها ؛ ترفع ذيل القفطان كاشفة عن ساقيها ؛ ترفع مؤخر قدمها اليمنى ؛ تضغط على أصابع القدم منحنية بجذعها إلى الأمام ؛ تنزل بكامل ثقلها وترتطم القدم بصفحة الجفنة ؛ تتكرر العملية بالقدم الأخرى ؛ تتوالى الحركات بإيقاع سريع موزون يضبطه صاحبها بجرة الكمنجة.
هل بلغت الحرارة ذروتها؟ تتباطأ حركة القدمين كما يتباطأ الارتطام بصفحة الجفنة ؛ تحس بجسدها على وشك الانهيار ؛ تنزل: تخطو خطوة أولى... ثانية ؛ ينفتح فمها وتسترخي شفتها السفلى منثنية باتجاه الذقن ؛ تتسارع دقات القلب ؛ ترتد بجذعها إلى الوراء ؛ تزفر ؛ يجف لسانها ؛ (أين غاب الريق؟) ؛ تضع كفها أسفل السرة وتخرج كلماتها متقطعة وتردد لازمة إحدى العيطات: ه...ذا مر...يض !
وكما لو أصابت العدوى صاحبها، يخفف ضغط أصابعه على وتر الكمنجة إلى أن ينكتم أنينها ؛ تنساب كلماته متقطعة بصيغة مواساة: ش...فاه الل...ه !
إذا الصداع يتربص بالرأس... والصاعقة تستهدف القمة دوما... فما بال القاع؟
أقلت القاع؟ منه يبتدئ الاهتياج والفوران... وينفث البركان غضبه !
وتضيف الجيولوجيا: وينبعث اللهب !
آه اللهب... لهب الجسد !)
* * * * *
بداية انبلاج أولى خيوط الصبح و(سحت الليل) متمدد يرنو إلى السماء: ما تزال نجوم تتوسط القبة تغمز من بعيد. وإذ شاهد نجما يسَّاقط، دبت في جسمه رعشة وانبعث من مخزون ذاكرته ما يتناقله اللسان الشعبي: (سقوط نجم ينبئ برحيل شخص ما إلى دار البقاء). تتوالى الصور في ذهنه بتواتر تختزل ظروف إقامته بالفندق: ما كان بمقدوره الخلود إلى النوم نهارا بعد ليالي التربص عند الزاوية 180 درجة. تعج الساحة بكافة أصناف البهائم والدواب. الحدادون يطرقون الحديد، يطوعونه لصنع حدوات الدواب. طنين يلازم رأسه حتى ليكاد ينفجر. مع مرور أيام تشبَّع مخه بالضوضاء وتآلف وإيقاع المطرقة والسندان. والبغل؟ ما يزال محتجزا واسترداده رهين بشراء رقم براكة. فمتى يوفي الزَّواق بوعده؟
بعينين مغمضتين، صار يحدق إلى النجوم المتراقصة فتبدت له هابطة تقترب منه، تجذبه إلى الأعلى، تصَّاعد به، ترحل به إلى هناك... إلى الدوار... إلى حيث التي تقول له ساعة هيجانها: هذا مريض ! وما قالت له يوما: (مريضة ما قادَّة).
يشتاق إليها اللحظة. نبضات قلبه بطيئة كما النجوم تتباطأ هابطة به فوق حقل محاط بشموع مضيئة، بطول أشجار الصفصاف. تبدت له لالاَّه تعتلي جرارا يتوسط الحقل، فاتحة ذراعيها تستعد لاحتضانه فيما هو يزدرد ريقه بصعوبة. ألقى عليها من فوق نظرة أخيرة وانسدت عيناه وخرج من حنجرته ما يشبه حشرجة: لالَّة... أنا... مري... !
* * * * *
غرق الدرب في سكون قبل أن يقطعه شغب أطفال يطلون من الأبواب، يستغربون لمشهد ما ألفوه: كان الرجل الليلي ممدودا على ظهره، تتقاطع يداه على صدره، بينما الكلب يحوم حوله يُرقِّص ذيله. بقي الأطفال حيارى خائفين وهم ينوون عبور الدرب ليلتحقوا بمدارسهم ? ربما يقطع عليهم الطريق ? صمموا على السير جماعة بشكل قوس والاستعداد لمحاصرته ? إذا لزم الأمر ? وإغلاق الدائرة عليه بشكل كماشه. لكن الكلب بدا وديعا لا يزال يُرَقِّص ذيله ? كأنه يضرب في الصفر ما اختمر في أذهانهم - ؛ دار دورتين حول الرجل، لممدود ووقف عند رأسه. رفع إحدى رجليه الخلفيتين ثم بدأ ي.... !
- ربيع: 2009 -


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.