عندما نسعى كمجتمع إلى السلام، وترسيخ قيم التسامح، والإيمان بالاختلاف مع الآخرين، وتحقيق التقدم... يواجهنا إشكال معقدل يتعلق بوضوح المنطق السياسي في البلاد، حيث يسود الغموض كل ما يتعلق بآليات تفعيل الديمقراطية كمرادف لحكم الشعب، وبمقومات المشروع المجتمعي الذي تطمح الدولة لتحقيقه. ويرتبط هذا الإشكال بإشكاليتين رئيسيتين تتعلق الأولى بضرورة الحسم في مسألة الهوية بشكل نهائي، والثانية بضرورة تحديد طبيعة وأسس العمل السياسي الذي يفرض حالة استعجال لمواجهة ما أسماه عبد الله ساعف ب«الردة السياسية» وما أسماه عبد الهادي خيرات بحالة «احتقان سياسي». ومن أجل ذلك سنتناول هذا الموضوع من زاويتين، نخصص الأولى لمسألة الهوية المغربية وما تواجهه الدولة من إكراهات داخلية وخارجية، والتي تفرض الاعتراف بتعدد الثقافات وتصالح الحضارات وتسعى لبلورة مقومات مجتمع مدني كوني، والثانية للمغرب السياسي وإشكالية تحديد مختلف التداخلات والسلط بوضوح تام وآليات إنتاج النخب. وللتوضيح فقط، إن اختيار الزاويتين كنقطتين أساسيتين في هذا الموضوع راجع إلى إيماننا القوي بتداخل السياسي بالهوية كتراث للمجتمع المغربي وما يرتبط بذلك من بدع مزعومة لا تمت بصلة للمنطق العقلي الديني أو المعرفي. وتبقى الإجابة عن السؤال التالي محورا أساسيا في مجال البحث عن المداخل الضرورية لخلق التصالح بين الهوية ودمقرطة النظام السياسي المغربي وتحديثه: كيف يمكن تحويل مقومات هويتنا إلى موروث مجتمعي في خدمة الديمقراطية والحداثة ومن ثم الاندماج السهل في المنظومة الدولية التي تقدمت كثيرا ثقافيا، وسياسيا، واقتصاديا، وتكنولوجيا، واجتماعيا ؟ 1 - مسألة الهوية والحاجة إلى تحقيق اندماج ثقافي دولي لننطلق من المبادرات العديدة التي نظمها المغرب للتعبير عن إرادة الدولة للتعبير عن قيم التضامن، والتسامح التي يتميز بها المجتمع المغربي والتي كان آخرها حفل التسامح الذي نظم بأكادير يوم السبت 17 أكتوبر 2009، ولنطرح السؤال: هل يكفي تنظيم مثل هذه التظاهرات لتحويل الهوية المغربية إلى نموذج خاص يؤمن بالتفاعل الإيجابي مع ثقافات الآخر، وتصالح الحضارات؟ في اعتقادي، مثل هذه المبادرات لا يمكن أن تكون إلا واجهة إشهارية تعبر عن التقدم في تحقيق مقومات مشروع المجتمع الديمقراطي الحداثي الذي تسعى الدولة لتحقيقه وتثبيته بشكل نهائي. هذا المشروع الذي ينتظر منه أن يساهم بشكل حاسم في استقرار البلاد سياسيا وتحويل المغرب السياسي إلى رافعة قوية للمغرب الاقتصادي والاجتماعي. إنه رهان التقدم في تحويل الدولة إلى ملك جماعي للشعب وانعكاس لتفاعلات فاعليه ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية، أي تحقيق الاندماج التام بين المجتمع والدولة في إطار منطق سياسي سليم تندثر من خلاله الروابط المفتعلة بين العنف والإرهاب والمرجعية الدينية التقليدية ومقاومة الإصلاح ويفتح الباب على مصراعيه للعقل والتفكير العلمي. ما يحتاجه مغرب اليوم هو توضيح الروابط بين الهوية بتقاليدها السياسية والمجتمعية والمقومات الحداثية للنظام السياسي في اتجاه تحقيق التناغم بين فكرة التطابق مع النفس وفكرة التطابق مع الآخر موازاة مع السعي إلى تحقيق اندماج فعلي ودائم في هوية عالمية أساسها اقتسام القيم الإنسانية والتقدم التكنولوجي والاقتصادي وتسخيره لخدمة عولمة التنمية والمساعي الرامية إلى خلق روابط ثقافية مشتركة والجمع بين الشعوب بغض النظر عن اختلافهم. وأعتقد، أن استمرار المغرب في مجهوداته لخلق التراكم الإصلاحي يعتبر شرطا أساسيا لبلوغ هذا الهدف. إن ما راكمه من تجارب سياسية ومجتمعية، وما يعرفه من خطابات معبرة عن الإرادة للدفع بعجلة الإصلاح إلى الأمام، بإمكانه أن يشكل دعامة أساسية لتحويل تراب البلاد إلى جسر للتواصل الثقافي بين شعوب الشمال والجنوب، كما بإمكان تركيا أن تلعب نفس الدور بين الغرب والشرق والعالم الأسيوي. وبهذه الجسور، سيستفيد المغرب لا محالة من تجاوز القضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة التي تدور حول ادعاءات متضاربة لهويات بائسة لا منفعة وراءها وبعيدة كل البعد لما يدعو إليه الدين من قيم التسامج واستعمال الألباب. كما أن من شأن تقوية هذه الجسور أن تجنب العالم بأسره ما عرفه في السنوات الأخيرة من أحداث العنف والاعتداءات والفوضى والاضطرابات المروعة، وكذا صراعات بغيضة. إن تقوية المقومات الثقافية والسياسية لهذه الجسور وخضوعها لمنطق الاندماج سيساهم لا محالة في تفنيد الادعاءات التي تتمادى في ربط المواجهات العنيفة التي يعرفها الكوكب الأرضي بطبيعة الانقسامات الدينية أو الثقافية في العالم، وفي دعم التوجه الذي يعتبر العالم كفدرالية من الأديان والثقافات والحضارات تمكن الفرد من أن يرى نفسه مطابقا لنفسه ومطابقا لثقافة كونية مشتركة بمقومات وقيم حداثية. فبعد أن تجاوز العالم التصنيفات المعتمدة على القوميات والطبقات، عليه اليوم أن يتجاوز وبسرعة فائقة المقاربات الانعزالية التي تسعى إلى ترسيخ وهم التصنيفات الدينية والحضارية وابتداع الطرق لإساءة فهم الأشخاص في العالم. وهنا لا بد من التذكير بالنسبة للمغرب، أن مروجي هذه الأفكار الرجعية ومعرقلي الإصلاحات السياسية - جيوب المقاومة - ، بالرغم من قلتهم مقارنة مع أغلبية الشعب - القوات الشعبية -، لا زالوا يتمتعون بهامش كبير من الحرية لتحقيق أهدافهم ومصالحهم على حساب بناء الوطن المتسامح والمندمج دوليا.