إن صفحات تاريخ الإنسانية تبين بجلاء أن التقليد شكل دائما عرقلة للعلم والتقدم والحداثة. فكم من مفكر وعالم تم اعتقاله أو إعدامه أو اغتياله ظلما بسبب فكره أو اختراعاته أو افتراضاته العلمية. من منا لا يتذكر حدث إعدام كليلي بسبب تأكيده لكروية الأرض ومهاجمة ابن رشد وغيره من الفلاسفة. إن التقليد يقتل الإبداع والمبادرة وبالتالي يكرس التخلف وتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع. ومن هنا بات من الضروري على المجتمعات النامية كالمغرب التصدي لكل أشكال التقليد الغير المعللة علميا من خلال إخضاع كل أمور الدنيا للعقل. إن إخضاع المسلمات الغير المبررة والقضايا المصيرية للأمة للسؤال ستمكن المجتمع من حسم إشكالاته السياسية من خلال اقتناعه بتوجه إيديولوجي فكري يستجيب لتطلعاته وتكوينه وتاريخه الخاص. "" وفي سياق التحولات التي يعرفها العالم والتي توجت بسيطرة العلم والتكنولوجيا والإعلام في إطار العولمة والنجاعة والمردودية الاقتصادية والتقنية، تمكن المغرب من خلق التراكم السياسي والحقوقي والاقتصادي بالرغم من تعقيد العلاقات الدولية. وقد تم بالفعل تدارك النواقص والهفوات التي ميزت المنطق السياسي زمن الصراع. وفي هذا الصدد، يعتبر حدث العودة إلى الفلسفة بإعادة فتح المؤسسات التعليمية المختصة في هذا المجال حدثا بارزا وإشارة سياسية قوية لمنطق سياسي جديد. كما تزامن هذا الحدث البالغ الأهمية مع حاجة البلاد إلى دعم مجتمعي لإنجاح الانتقال الديمقراطي. إن الفلسفة في حد ذاتها ديمقراطية من حيث كونها تنبذ الحقيقة المطلقة، أي الحقيقة الواحدة، مضفية على كل حقيقة طابع النسبية والمنظورية والتعدد. وفي نفس الوقت نجد الديمقراطية ترفض بنفس الكيفية هيمنة الرأي الواحد، مكرسة التعدد والاختلاف. وفي هذا السياق، فبعد النجاح التاريخي للتوافق السياسي والحسم النهائي في مسألة مشروعية المؤسسات، تبين أن الأوراش التنموية الكبيرة المفتوحة في مختلف القطاعات وفي كل الجهات تحتاج الى ارتقاء ثقافي يجنب البلاد الإشكاليات الناتجة عن الإفراط في التأويل وتعدد المداخل التقليدية، ويحيي ثقافة الواجب والحوار والتسامح والمسؤولية. إن ثوابتنا الأساسية وهويتنا العربية الإسلامية تشكل إطارا للتفكير ولطرح السؤال في كل القضايا التي تهم مستقبل مجتمعنا. وقد صدق السيد حرزني، رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، عندما أكد في برنامج حوار ليوم 16 دجنبر 2008 بشأن رفع التحفظات في ميدان حقوق الإنسان أن الدين الإسلامي، كعقيدة صالحة لأي زمان ومكان، قادر لاحتواء كل الإشكاليات المطروحة. وعليه فلا مجال لافتعال الارتباك والإحجام في هذا المجال بل وجب طرح السؤال لتجاوز التقليد ومعاناته الإجتماعية. وهنا وجب الافتخار بالمبادرة الملكية في هذا المجال وخصوصا أن مجتمعنا يحتاج اليوم إلى الدفع بكل المواطنين للإسهام في تنمية وازدهار ثقافة طرح السؤال إلى درجة تصبح ثقافتنا ثقافة السؤال، السؤال الفلسفي الديمقراطي. لقد طرحنا هذا الإشكال في هذا الوقت من باب التعبير عن قناعاتنا بقيمة المكاسب السياسية لمسلسل الانتقال الديمقراطي من جهة أولى وعن الطابع الإستعجالي لدعم الانتقال الثقافي الذي يبني الحقائق من خلال ثقافة السؤال من جهة ثانية. هذا لكون السؤال، بما في ذلك السؤال الفلسفي، له علاقة وطيدة بالديمقراطية الحداثية. وعليه، لا يمكن له أن يزدهر ويتعايش مع منطق التضليل، والتغرير، والشحن، والتسلط، والقهر، والتغليط المقصود، كما لا يمكن له أن يعيش إلا في مناخ ديمقراطي. إن طابع الإستعجال لخلق هذه الثقافة يتجلى في حاجة ديمقراطيتنا الفتية إليها. هذا لكون الديمقراطية لا تحيى إلا في مناخ يسمح بالسؤال والجواب مع حماية حق الاختلاف الموضوعي في إطار مشهد سياسي تصان فيه حرية الرأي والتعبير وتجسد فيه قيم المواطنة البناءة بشكل تفند فيه كل الخطابات العدمية. إن التحول من النقل والتقليد ومنطق المزايدات العدمية إلى العقل والحداثة ليس مطلبا أخلاقيا فقط بل مسألة تشكل جوهر السياسة لكونه سيمكن الأفراد والجماعات من رفض المسلمات والإنفعالات الغير المبررة فكريا وعلميا وبالتالي تقوية المناعة المجتمعية أمام كل محاولات نشر الأفكار الرجعية والعدمية. ففي زمن التكنولوجيا والعلم لم يعد مسموحا في العمل السياسي التمادي في خلق الخطط الممنهجة من طرف تيارات التقليد لحرمان مكونات المجتمع من طاقاته المبدعة والمتنورة لأن ذلك سيحرمه من مقوماته الخلاقة لأمد طويل. لقد تأكد اليوم أن لا حداثة بدون ترسيخ الإيمان المجتمعي بالتغيير والتطور يتجدد من خلالهما السؤال والجواب باستمرار. إن الحداثة تحتاج إلى التأمل في الحياة وتقديرها من خلال التركيز على المقومات التي يملكها الفكر الإنساني وتوظيفها من أجل تقدير الحياة والإنسان معا. إن ما يعرفه المغرب من مبادرات تحديثية حقيقية، تجعل سؤال الفلسفة والديمقراطية مكتسبا راهنيا بالنسبة للمجتمع المغربي بالمقارنة مع الوضع العربي والمغاربي. لقد عبرت الدولة بالفعل وبشكل تراكمي على إرادتها لتحقيق المشروع المجتمعي الذي ينشد التحديث، ويتوق إلى العقلانية، وحرية المبادرة والمسؤولية خصوصا في مجال التنظير الديمقراطي. وعليه، لم يعد اليوم من يواجه الديمقراطية بمفاهيم تراثية ملتبسة يراد أن تقوم مقامه على مستوى الممارسة والخيار السياسيين. لقد تم بالفعل لمس مكامن الضعف في الممارسة السياسية بالمغرب والإعلان الرسمي لتجاوزها. ونذكر على سبيل المثال الإصلاح الديني الذي تقوم به مؤسسة إمارة المؤمنين وعلماءها لتوحيد الخطاب الديني وانقشاع الغموض الذي كان يكتنفه، إضافة إلى الأوراش والبرامج الرامية إلى محاربة الفقر وحفظ كرامة المواطن وتقوية مناعته ضد الفساد [شراء الأصوات]، وإصلاح المنظومة التربوية والمؤسسات التكوينية،... إنها إشارات قوية لخلق التحول التدريجي في منطق الممارسة السياسية من خلال جعل الإختيار في منطق التمثيلية ينبني على الأفكار والبرامج السياسية فقط. وبخصوص محاربة الرشوة والفساد، فما علينا إلا أن نزكي الثقة التي وضعها جلالة الملك في شخص السيد عبد السلام أبو درار لما عرف عليه من مسؤولية نضالية وكفاءة عالية وصدق وطني. إنه تراكم جديد يهدف إلى تقوية الدعائم الأساسية لتخليق الحياة العامة وترسيخ الحقوق الإقتصادية من خلال تعزيز الجوانب التشريعية والقانونية. وفي هذا السياق، أتمنى ان يكون لهذه الهيئة وقع خاص في مجال تخليق عملية الإختيار السياسي في الاستحقاقات الجماعية المقبلة. وأعتقد، أن هذه المبادرات ذات المقاصد الواضحة تتطلب دعما قويا من القوى الحية بالبلاد السياسية منها والمدنية لتثبيت الإطار الأمثل الذي دأبت المملكة على تكريسه لإرساء قيم المساواة والعدالة الإجتماعية والموضوعية السياسية. وهذا هو الأهم إذا أردنا أن يكتب لديمقراطيتنا النجاح النهائي.