مجلس الحكومة يصادق على مقترحات تعيين في مناصب عليا    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    الكلاع تهاجم سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين المدانين في قضايا اعتداءات جنسية خطيرة    حقوق الضحايا ترفض التشهير وتطالب بحفظ كرامة ضحايا الاعتداءات الجنسية بالمغرب    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    المغرب يفاوض الصين لاقتناء طائرات L-15 Falcon الهجومية والتدريبية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في استشراف الأفق القادر على تحقيق الديمقراطية الفعلية: المداخل الممكنة لإنجاز الانتقال الديمقراطي بالمغرب

في الاعتقاد ليست هناك وصفة واحدة جاهزة لتحقيق الانتقال الديمقراطي في بلد معين، فالنظريات السياسية والتجارب التاريخية، لا تقدم نموذجا واحدا وموحدا للانتقال الديمقراطي، فالاختلاف كبير ومتضارب بين منظري الحداثة السياسية والتنمية السياسية ورواد مقتربات الانتقال، ونماذج تحقيق الديمقراطية متعددة ومختلفة.
لكن المتفق حوله، والذي يعد بمثابة مسلمة أن الانتقال الديمقراطي يطرح في جوهره السعي إلى الانتقال من نموذج سياسي غير ديمقراطي في عموميته إلى نموذج سياسي ديمقراطي في مؤسساته وممارساته، لا يتوقف عن إثارة القواعد الديمقراطية وضوابطها في مختلف الممارسات وسلوكيات الفاعلين، وترسيخها وتدعيمها. وهو الأمر الذي يتطلب تبني القواعد الحداثية على مستوى تكوين المؤسسات السياسية، والعلاقات بينها، وعلى مستوى الممارسة السياسية الرسمية وغير الرسمية، أي تلك المتعلقة بصناعة السياسات العمومية وتنفيذها، وتلك المتعلقة بالفاعلين غير الرسميين في مجال التأطير والتوجيه والتعبير عن المطالب والمشاركة السياسية داخل المؤسسات أو خارجها.
هذا ما يطرحه الانتقال الديمقراطي في عموميته، أما الانتقال على مستوى بلد معين، فإن أول ما يطرحه هو مسألة النموذج الكفيل بتحقيق طموحات الانتقال ، بعبارة أخرى، من أولى الإشكاليات التي يثيرها سؤال الانتقال الديمقراطي، إشكالية النموذج السياسي أو الأفق الذي تسعى إليه النخبة السياسية والفاعلين، والقادر على تحقيق الديمقراطية الفعلية والحقيقية، تبعا لمقومات البيئة السياسية الوطنية، ولطريقة الانتقال.
التوافق حول نموذج سياسي أساس أي انتقال ..
فمسألة الأفق السياسي المشترك، أو الاتفاق حول نموذج سياسي لتحقيق الانتقال إلى الديمقراطية تعد أساسية في أية عملية انتقال، لأنها تتيح توحيد الرؤى والأهداف، وتوحيد الجهود والوسائل وتكامل المبادرات، وتسهيل التفاعل السياسي.
والسؤال المطروح، هل فكرة الانتقال الديمقراطي التي طرحت في المغرب في أواخر التسعينيات من القرن الماضي انطوت على نموذج سياسي مشترك بين الفاعلين السياسيين الرسميين وغير الرسميين، قادر على تحقيق الديمقراطية وتحويل صفة النظام السياسي المغربي من نظام غير ديمقراطي إلى نظام ديمقراطي، بعبارة أخرى، ما هو النموذج السياسي الصالح الذي يتوافق مع مقومات الدولة، القادر على تحقيق الديمقراطية على أرض الواقع؟
أعتقد أن فكرة الانتقال الديمقراطي في المغرب ربطت أساسا، بإشراك المعارضة السابقة في التسيير الحكومي، وفي مجموعة من المؤسسات والمجالس الاستشارية، وبمجموعة من الإصلاحات السياسية والقانونية والحقوقية وحتى الاقتصادية، والتي تبدو في ظاهرها أنها تنحو نحو الحداثة السياسية، لكن في عمقها، وفي طريقة صناعتها وتسويقها تطرح عددا من الإشكالات، على رأسها أن عددا من الإصلاحات تمت بطريقة تقليدية، تستحضر المشروعية الدينية للملك، والرمزية التقليدية وتنسب في مجملها إلى المؤسسة الملكية.
وفي إطار النقاش حول فكرة الانتقال الديمقراطي لم يطرح الفاعلون السياسيون الرئيسيون بوضوح النموذج السياسي المشترك الكفيل بتحقيق الانتقال، السؤال المطروح هو: ما هو هذا النموذج المشترك بين الملك والأحزاب السياسية والنخب الأخرى الفاعلة؟
نجاح الانتقال وتحقيق الديمقراطية، يتطلب من بين ما يتطلبه الوضوح في الرؤية والوسائل، إذ يصعب تحقيق الانتقال في ظل سيادة الغموض والضبابية وعدم الحسم في النموذج؟
طرحت بعض الأحزاب السياسية وبعض الأكاديميين نموذج الملكية البرلمانية، في الكثير من الأحيان باحتشام وتردد. قد يبدو هذا النموذج قادرا على تحقيق الانتقال في المغرب، ويتوافق مع التطور المنتظر والمأمول للنظام السياسي المغربي، لكن، هل يشكل هذا المثال، نموذجا سياسيا مشتركا بين أغلبية الفاعلين السياسيين؟ بين الملك والأحزاب السياسية والنخب، يبدو أن هذه الفكرة استبعدت من النقاش حول إنجاز الانتقال في المغرب، ومازالت مستبعدة ولم تطرح بوضوح، ولا نقصد طرحها كنموذج يجب تطبيقه هنا والآن، لكن على الأقل كنموذج يسعى إليه جميع الفاعلين السياسيين، ويعملون بشكل تدريجي من أجل ترسيخ مقوماته.
البعض يعتبر هذا النموذج لم يحن الوقت بعد للنقاش حوله، والبعض الآخر يعتبره مغامرة في الوقت الحاضر، والبعض الآخر يتستر خلف شعار المشروع الحداثي الديمقراطي. ويبدو أن لا أحد من الفاعلين السياسيين يريد تبني هذا النموذج بوضوح -أو نموذج آخر-ويعمل من أجل تحقيقه، ويرتاح أغلب الفاعلين للاستفادة المتبادلة من هذه الوضعية، لاسيما أن جرأة المقترحات في المغرب غالبا ما تؤدي إلى الإقصاء.
إن كان الأمر كذلك، فما جدوى الحديث عن الانتقال الديمقراطي؟ هل يمكن تصور تحقيق هذا الأخير دون نموذج؟ وهل يمكن تحقيق الديمقراطية بالنموذج السياسي المطبق حاليا في المغرب؟ هل نموذج الملكية التنفيذية التي تشرف على صناعة السياسات وتتدخل في تنفيذها، وتحتكر المبادرات الإستراتيجية الكبرى، وتتدخل في السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتتدخل مركزيا ومحليا، ويباركها في ذلك أغلب الفاعلين السياسيين، يمكن أن يكون نموذجا صالحا لتحقيق الانتقال ؟
هذه بعض الأسئلة التي تطرح على مستوى غياب أفق سياسي مشترك قادر على تحقيق الانتقال في المغرب، ومن جانب آخر تطرح أسئلة أخرى تتعلق بماذا قدمه الفاعلون السياسيون في المغرب لتحقيق هذا الشعار ولترجمة النموذج الصالح لتحقيق هذا الخيار.
ماذا قدم الفاعلون
لصالح الانتقال ؟
إن الانتقال يحمل في جوهره تراجع ما هو تقليدي لصالح ما هو حديث على مستوى تكوين المؤسسات وممارسة السلطة على الأقل، فماذا قدم الفاعلون السياسيون المغاربة لصالح المقومات الحداثية أو لصالح ترسيخها.
إن الرمزية التقليدية لا زالت موظفة في أغلب القرارات، وتزداد إثارتها في كل حين، والحكومة مازالت تتشبث في برنامجها وسياساتها بالتعليمات الملكية، وأغلب الأحزاب السياسية تدافع عن المرجعية التقليدية ومظاهرها، وحتى عدد لا يستهان به من الأكاديميين يعتزون في تحليلاتهم بفوائد هذه المرجعية، وبما تقدمه من «خيرات» سياسية وحقوقية واجتماعية واقتصادية لصالح المجتمع.
إن الجوانب التقليدية في النظام السياسي المغربي مستمرة، وتعززت أكثر في ظل فكرة الانتقال ، فهل يمكن تحقيق الديمقراطية مع تنامي ما هو تقليدي وتأثيراته العميقة، واكتساحه لجل المجالات ولأغلب القرارات؟
إن من بين المداخل الأخرى لتحقيق الانتقال الديمقراطي، تبني الدفاع عن الشروط الضرورية لإنجاح هذا الانتقال خطابا وممارسة، والذي يفترض بالضرورة الوعي بهذه الشروط، وتوفر إرادة ترسيخها وتدعيم تطبيقها.
شروط و مقومات الانتقال ..
أي انتقال يتطلب توفر مجموعة من المقومات والآليات لإنجاحه، وترجمته على أرض الواقع. وإن كان بعض الباحثين والمفكرين يميزون بين الشروط الأساسية، والشروط المدعمة، فإن التجارب الديمقراطية تثبت التكامل بين شروط سياسية، تهم البنيات السياسية الرسمية وغير الرسمية، والممارسة السياسية، سواء تلك التي تهم صناعة القرار أو تلك التي تهم الضغط والتأثير فيه، وشروط مدنية واجتماعية ترتبط أساسا بمستوى الدخل والرفاهية الاجتماعية، وبالثقافة والقيم السائدة في المجتمع، وهو ما يعني عدم اختزال الانتقال الديمقراطي في إجراءات سياسية وانتخابية.
إن الانتقال الديمقراطي عملية متعددة الأبعاد، نعم، تركز بشكل أساسي على المؤسسات والآليات السياسية، لكن لا يمكن لهذه الأخيرة أن تستقيم وتكون في خدمة المشروع الديمقراطي طالما لم تتوفر حدود دنيا من الشروط المدنية والاجتماعية، فعلى سبيل المثال يصعب تصور إنجاز انتقال ديمقراطي في ظل سيادة علاقات اجتماعية قائمة على الإقصاء، واحتقار الآخر واعتبار فئات اجتماعية مواطنين من الدرجة السفلى بحكم عرقهم أو دينهم أو نوعهم أو وضعهم الاجتماعي، كما يصعب إنجاز انتقال ديمقراطي سليم في ظل غياب المساواة أمام القانون، أو في ظل سيادة التبعية الاقتصادية المفرطة لفئات اجتماعية عريضة، التبعية التي تفتح المجال واسعا أمام المنتفعين من السياسة لتمرير وتحقيق مخططاتهم المناقضة للديمقراطية (شراء الأصوات الانتخابية، شراء المعارضة داخل المجالس، شراء الصمت وعدم الاحتجاج...).
لا تسمح هذه الورقة بالحديث بتفصيل عن مختلف الشروط المدنية والاجتماعية المدعمة للانتقال الديمقراطي، لكن الفكرة التي أود التركيز عليها هي أن إنجاز انتقال ديمقراطي سليم يجب ألا يختزل في إجراءات سياسية ومؤسساتية وقانونية فقط، إن الأمر أعمق من ذلك. من بين هذه الشروط المدنية، يمكن الإشارة إلى، تحقيق أغلب الفئات الاجتماعية لمستوى من الدخل يمكنها من العيش الكريم ويخلصها من التبعية المذلولة لأشخاص آخرين، وسيادة المساواة في العلاقات الاجتماعية والمعاملات، وسيادة المقاولات المواطنة، وانتشار الوعي بفكرة الدولة كمؤسسة حاضنة لجميع المواطنين، أي دولة الجميع وليس دولة شخص أو فئة أو نخبة...
بالإضافة إلى الشروط المدنية، فإن إنجاز الانتقال الديمقراطي يتطلب بالدرجة الأولى شروطا سياسية، يمكن تصنيفها إلى قسمين، الأول يهم المؤسسات السياسية، والثاني يتعلق بالممارسة السياسية. فيما يتعلق بالشروط المؤسساتية، فإن الانتقال الديمقراطي يتطلب إصلاح وتغيير نمط تكوين المؤسسات الممارسة للسلطة والحكم، والانتقال من نمط غير تنافسي أو شبه تنافسي إلى نمط تنافسي، بحيث يصبح تكوين المؤسسات السياسية مستندا إلى نتائج صناديق الاقتراع وليس إلى أي اعتبار آخر، نتائج تسمح بالتناوب وتبادل الأدوار بين المعارضة والأغلبية بشكل سلس، وتتيح تنافس برامج متعددة، وتمكن من تحمل كل فاعل لمسؤوليته السياسية والانتخابية.
كما يتطلب على مستوى تكوين المؤسسات والعلاقات القائمة بينها تمايزا بنيويا وتخصصا وظيفيا يسمح بالانتقال من تداخل السلط وعدم الفصل وغموض العلاقات بينها، إلى نوع من فصل السلط وتحديد العلاقات القائمة بينها بوضوح، والذي لا يمنع نوعا من التعاون بينها، وتخصصا واضحا في الاختصاصات والوظائف.
الانفتاح والتمايز والتخصص في تكوين المؤسسات السياسية وفي ممارساتها، يستتبع ويتوقف على ضرورة توفر تعددية حزبية فعلية متجذرة في المجتمع، تقوم بوظائفها في التأطير وتجميع المصالح والتعبير عنها، وانتخابات دورية متخلصة من كل المؤثرات السلبية المباشرة، بالإضافة إلى انتشار ثقافة سياسية قائمة على المشاركة الواعية في مختلف صورها، ومتشبعة بفوائد ممارسة السياسة.
أما على مستوى الممارسة السياسية، فإن الانتقال الديمقراطي يقتضي تبني مجموعة من الشروط والإجراءات، يمكن الإشارة إلى المقومات التالية:
- الانفتاح في ممارسة السلطة وصناعة السياسات العامة، الذي يرتبط بالانفتاح في تكوين المؤسسات السياسية، حيث يكون تصور وصناعة السياسات العمومية مفتوحا أمام بدائل متعددة، وخاضع لتأثير مدخلات متنوعة، مؤيدة أو معارضة، يسمح بتطبيق برامج حزبية، مستندة على نتائج صناديق الاقتراع، مما يجعل عنصر الفعالية والنجاعة هو الحكم بين مختلف البرامج والأحزاب السياسية؛
- مأسسة صناعة القرارات والسياسات، وهو ما يعني تراجع المؤثرات الذاتية والتوجيهات الشخصية في عملية صناعة السياسات وتنفيذها، حيث عملية صناعة القرارات تتم من طرف المؤسسات السياسية المعنية وداخلها، وتكون خاضعة لشروط النقاش والمساومة، والتنافس، والمسؤولية عليها
- العقلانية في اتخاذ القرارات وصناعة السياسات، حيث تكون هذه الأخيرة خاضعة لمنطق العائد والتكلفة، كمعيار أولي ووحيد يحكم هذه العملية، دون استحضار واستهداف أهداف أخرى، معلنة كانت أو خفية، فمعيار العقلانية واكتساحه للمجال الاقتصادي والإداري ثم السياسي يعد من الأسباب الرئيسية التي كانت وراء تطور الدول الديمقراطية، ونتساءل هنا هل السياسات العامة التي اتخذت ونفذت في ظل عهد شعار الانتقال الديمقراطي في المغرب، توخت هدف المقارنة بين العائد والتكلفة؟
ولتتجسد هذه المقومات على مستوى البنيات السياسية الرسمية، لابد من استحضار وتطبيق نفس الشروط على مستوى البنيات السياسية غير الرسمية؛ الأحزاب السياسية، والنقابات، وجمعيات المجتمع المدني، إذ لا يمكن تصور فعالية برامج حزبية دون وجود ممارسة ديمقراطية داخل الأحزاب، سواء تعلق الأمر بتكوين الأجهزة أو اتخاذ القرارات الداخلية، أو باقتراح البدائل الممكنة والحلول الواقعية للمشاكل القائمة، كما يصعب تحقيق تداول سلس للبرامج على مستوى الأجهزة التنفيذية، في ظل تغييب الأحزاب السياسية في علاقاتها المتبادلة لبراغماتية التنافس وخصوصية الصراع، وفي ظل سيادة الإقصاء وعدم الإيمان ببعضها البعض، وفي ظل غياب النسبية والواقعية. لاشك أن العملية السياسية ستكون معوقة في ظل وجود أحزاب، تتبنى الإقصاء في خطابها وممارستها، وتدعي امتلاك الحقيقة المطلقة. فاستحضار هذه الشروط والوعي بها وتطبيقها الجدي، ولو تدريجيا، يمكن أن يشكل مدخلا رئيسيا لإنجاز الانتقال الديمقراطي.
فالمداخل الأولية لإنجاز الانتقال الديمقراطي في المغرب، يمكن إيجازها في العناصر التالية:
- الأفق السياسي المشترك بين مختلف الفاعلين.
- الإيمان بشروط الانتقال الديمقراطي والوعي بها.
- تبني تطبيق هذه الشروط على مستوى تكوين المؤسسات وعلى مستوى الممارسة السياسية، سواء تعلق الأمر بالأبنية الرسمية أو بالأبنية غير الرسمية.
- التركيز على تعميق الوعي بأهمية الديمقراطية ومزاياها، وإبراز دلائل واقعية على ذلك، وإظهار دلائل تدعم الجدوى من ممارسة السياسة، وهو ما يقتضي التركيز على إعادة صياغة تمثل النخبة والجماهير لمفهوم الدولة والقطع مع «مفهوم المعمرين» لهذه الأخيرة، الذي مازالت ترسباته مستمرة في الكثير من سلوكيات الفاعلين، والتركيز على المساواة والمواطنة والمشاركة.
ما هي أسباب هذه التعثرات؟
المتتبع للحياة السياسية المغربية في السنوات الأخيرة، تواجهه عدد من المظاهر المتناقضة مع الديمقراطية، والمتنافية مع آمال وطموحات الانتقال، وهي مظاهر تمس تكوين المؤسسات والانتخابات، والممارسة السياسية الرسمية (السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية...)، وغير الرسمية (الأحزاب السياسية...)، كما تمس سلوكيات النخبة، والثقافة السياسية.
وأعتقد أن هذه التعثرات، أثيرت في العديد من المناسبات من طرف الأكاديميين وبعض السياسيين، وهي متعددة ولا يمكن تناولها بتفصيل في هذه الورقة، لكن يمكن الإشارة إلى أبرز الاختلالات التي تتناقض تناقضا صارخا مع طموحات وشروط الانتقال الديمقراطي.
- استمرار التحكم الملكي في تكوين مؤسسة الحكومة في التعيين والتعديل والإقالة.
- استمرار الحضور التكنوقراطي في التشكيلات الحكومية، وبلغة الوضوح، الانتقال الديمقراطي يفترض تدعيم الحضور الحزبي والمشاركة الحزبية في الحكومة، حتى تتحمل مسؤوليتها أمام الناخبين، والسؤال المطروح، هل فعلا هناك إرادة للتغيير على هذا المستوى؟
- تأثير المعطى الشخصي في تكوين المؤسسات، لاسيما الدور الكبير الذي أصبحت تلعبه «الأوليغارشية الملكية»، (أصدقاء الملك، والمستشارون...).
- تهريب صناعة السياسات والقرارات خارج المؤسسات، التي يفترض فيها أن تمارس هذه الصلاحيات، على رأسها الحكومة والبرلمان.
- استمرار تأثير وهيمنة المتغير الفردي في صناعة السياسات العامة.
- ضعف استحضار العقلانية في صناعة السياسات، وربط هذه الأخيرة بمعطيات مصلحية لنخب معينة، أو بخدمة مشروعيات تقليدية.
- مباركة الأحزاب السياسية لمختلف هذه المظاهر المتناقضة مع الديمقراطية.
- غياب أفق سياسي ديمقراطي مشترك بين الفاعل الرئيسي في الحقل السياسي المغربي، وباقي الفاعلين.
هذه بعض مظاهر تعثر إنجاز الانتقال الديمقراطي، وربما في تشخيص الأسباب، قد تتعدد هذه الأخيرة كما تعددت مظاهر التعثر، وربما قد لا يتفق الباحثون حولها، تبعا لاختلاف زوايا المعالجة، ودون أن أسرد جميع الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي يمكن أن تكون وراء تعثر الانتقال الديمقراطي في المغرب، أركز على سبب رئيسي مباشر، يتعلق بمجال التغيير الذي ركز عليه الفاعلون في تبنيهم لفكرة الانتقال الديمقراطي، فهل الإصلاحات التي اتخذت تمس عمق الانتقال الديموقراطي؟
لست من هواة الأفكار العدمية، وعلم السياسة يفترض حدا أدنى من التفاؤل، لكن الموضوعية تقتضي القول أن جميع الإصلاحات التي شرع في تنفيذها في ظل شعار الانتقال الديمقراطي لم تمس جوهر ممارس السلطة في المغرب، ولم يحدث تغيير في نمط تكوين المؤسسات، وطرق اتخاذ القرارات وصناعة السياسات، فكيف يمكن تحقيق انتقال ديمقراطي دون تغيير نمط ممارسة السلطة! إن جميع الأنظمة السياسية التي نجحت في تحقيق الانتقال الديمقراطي، أنجزت ذلك عبر تغيير نمط ممارسة السلطة؛ تغيير طريقة تكوين المؤسسات السياسية من الانغلاق إلى الانفتاح، وتغيير طرق صناعة السياسات، بصورة تجعل الممارس للسلطة يتولى هذه المهمة استنادا إلى صناديق الاقتراع، ومسؤول عنها أمام ممثلي الشعب والناخبين.
أستاذ العلوم السياسية بالكلية المتعددة التخصصات -الناظور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.