وهكذا استفادت النخب الاجتماعية (الأعيان) من تعليم تطبيقي يهدف إلى تكوينها تكوينا منظما في ميادين الإدارة والتجارة، أما التعليم الموجه لجماهير المدن الكادحة وجماهير البادية المتخلفة فكان يقتصر على المهن اليدوية حسب الوسط الاقتصادي مع جعل اللغة الفرنسية لغة ستمكن من ربط التلاميذ بفرنسا وتاريخها. بهذا المنطق، اقتصر هدف فرنسا في تكوين نخب الأعيان لمساعدتها على تدبير شؤون البلاد التجارية والإدارية وضبط الأمن العام (دور الوساطة الضيقة)، وإخضاع قوة عمل عامة الشعب لمنطق خدمة مصالحها الاقتصادية والسياسية. وفي نفس الوقت تم الاستغناء عن التعليم الأهلي لأن فرنسا كانت تعتبره منبعا للاضطراب الاجتماعي (صنع رجال صالحين لكل شيء ولا يصلحون لأي شيء، مهمتهم تنحصر في المطالبة). بهذا المنطق المدروس، تمكنت فرنسا من ملاءمة التعليم لمصالحها من خلال قيامها بتشخيص للطبقات الاجتماعية وتسخيره لخدمة مصالحها الاستعمارية (جماعات دنيا نصف مستعبدة، الشعب المكون من الفلاحين، ورعاة، وعمال منتظمون في اتحادات مهنية أو غير مهنية، وهناك البورجوازية التجارية والقروية، وفي أعلى السلم هناك «رجال المخزن» الذين يديرون البلاد، و«رجال الدين» الشرفاء، والعلماء، والمتصوفين، وأصحاب الزوايا). ومن أجل تحقيق أهدافها كاملة، حرصت سلطة الحماية على إبعاد النخب المغربية عن الأفكار الغربية العلمانية، وذلك من خلال اتخاذ إجراءين مهمين أولهما الإبقاء على الشباب في المغرب وعدم السماح لهم باستكمال دراستهم في الخارج إلا إذا كان الأمر يتعلق بطلاب الشعب العلمية والتقنية، وثانيهما، الحفاظ على الروح الدينية في المدارس الثانوية والخاصة بالمغاربة. إنه إجراء يراد به إبقاء المثقفين المغاربة في إطار وضعيتهم التقليدية تجنبا لإدخال الفكر الحداثي للمدارس وما من شأنه أن يحدث من ثورات في المجتمع المغربي (خلق شروط استمرار الفكر الديني التقليدي السائد). وبعد أكثر من خمسين سنة عن استقلال المغرب، أعتقد أن مشكل التعليم لا زال يحتفظ براهنيته. وبالرغم من محاولات عديدة لإصلاحه، والتي توجت بالميثاق الوطني للتربية والتكوين وما واكبه من إصلاحات إدارية وهيكلية مهمة، لازالت التقارير تصنف المغرب في مراتب متأخرة لا تليق بموقعه الجغرافي، وتتناقض مع الإرادة السياسية لبناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي. حسب تقديرنا الخاص، فالمجهودات المبذولة لتحديث وتطوير المنظومة التعليمية لازالت بعيدة عن عتبة متطلبات القرن الواحد والعشرين ولم تلمس عمق الإشكالات المتراكمة. فتقييم نتائج «أجرأة» الميثاق السالف الذكر من طرف الباحثين، والتي تم نشرها في تقرير الخمسينية كان سلبيا. الإشكاليات ذات الأولوية بقيت مطروحة وبدون معالجة: العلاقة بين التربية والتعليم والاقتصاد لازالت مختلة، وبرامج ومخططات محو الأمية لم يكتب لها النجاح، والمدرسة المغربية بقيت على هامش اهتمامات المجتمع والأسر، وعلاقات الفاعلين في الحقل التربوي لازالت تشكو من الضبابية والغموض. فموازاة مع المجهودات في مجال تعميم التمدرس، تشكو المدرسة من نسب عالية من الهذر المدرسي، وضعف المستوى التعليمي للتلاميذ، وارتفاع نسب التكرار خاصة عند بلوغ المستويات المفصلية بين الابتدائي، والإعدادي، والثانوي، والجامعي. إجمالا، ما قامت به الدولة في مجالات تطوير الموارد البشرية، والمادية، والمالية (إضافة 7000 منصب شغل إضافي للتدريس، الزيادة في الميزانيات السنوية، وتطوير الجوانب البيداغوجية بمراجعة المناهج والبرامج، نهج حكامة لا متمركزة جهويا وإقليميا ومحليا،...) لم يتحول إلى دعامات وأسس لخلق وتفعيل حكامة تربوية قادرة على الاستجابة لرهان التحديث والإسهام في الإسراع في وثيرة بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي. في اعتقادي، رفع رهان التحديث يبقى مرتبطا إلى حد بعيد بمدى قدرة المنظومة التربوية على تعميم طرق وآليات التربية العلمية على كافة الفضاءات التربوية. إنه رهان خلق التقائية تامة ودائمة لكل المتدخلين في هذا المجال الحيوي من آباء، وأمهات، ومدرسين، ومنظمات المجتمع المدني لتحويل هاته الطرق والآليات والمناهج التربوية إلى دليل محفوظ بحكم الممارسة في أذهان كل الساهرين المباشرين وغير المباشرين عن تربية الأجيال. إنه في الحقيقة حلم تحويل حياة المجتمع إلى مسلسلات دائمة للتربية والتعليم والتكوين من خلال ضمان النجاعة العلمية لفضاءات التربية بشكل متزامن: في الأسرة، والشارع، والمدرسة، والإعدادية، والثانوية، والجامعة، والإدارة العمومية والخاصة، والحزب، والنقابة، والجمعية، والتعاونية،... في الحقيقة يبقى من العار أن نعيش في القرن الواحد والعشرين، زمن التدفق المعرفي، ظاهرة مغادرة الأطفال للمدرسة دون مؤهلات (400000 مغادرة سنة 2007)، وتفاقم ظاهرة التكرار، واستمرار ارتفاع نسبة الأمية، وبدون تعليم أولي عصري،... إن رفع تحدي إنجاح التأهيل والقدرة على التنافس يتطلب ترسيخ قيم المواطنة، والانفتاح، والرقي، وحرية الفكر، والتحصيل، والفكر النقدي، واحترام الاختلاف من خلال إعادة الاعتبار للمؤسسات والفضاءات التعليمية وتحويلها إلى آليات حقيقية للتنمية البشرية. وهذا لن يتأتى إلا من خلال تجاوز المنطق التدبيري الكلاسيكي واعتماد ثقافة التعاقد لتجديد الثقة في مدرسة للجميع، ومدرسة في صلب اهتمام الجميع. إن اتخاذ قرار تنصيب المجلس الأعلى للتعليم سنة 2006 عقب صدور تقرير البنك الدولي سنة 2005، ووصفه للوضع التعليمي في البلاد بالمزري في تقريره الأول حول إنجاح المدرسة (حصيلة متباينة : إنجازات حقيقية واختلالات ما تزال قائمة منظومة بأداء لم يرق بعد إلى مستوى الانتظارات إشكالية الحكامة على مختلف المستويات انخراط المدرسين أمام ظروف صعبة لمزاولة المهنة نموذج بيداغوجي أمام صعوبات الملاءمة والتطبيق الموارد المالية وإشكالية تعبئتها وتوزيعها مسألة التعبئة والثقة الجماعية في المدرسة)، لا يمكن أن يعبر إلا على شفافية الدولة في تعاطيها مع هذا المشكل المزمن. انه اعتراف بتعقيد الوضع التعليمي في البلاد نتيجة ثقل التراكمات السلبية منذ القدم وحاجته إلى إصلاحات حقيقية ومستعجلة. إن تعبير جلالة الملك محمد السادس عن قلقه بشأن السياسية التربوية والذي دفعه إلى اعتبار المسألة التعليمية هي القضية الأولى بعد قضية الوحدة الترابية، أبان بالواضح عن أهمية ودور هذا القطاع في بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي الذي يريده جلالته. لقد كان خطاب العرش سنة 2007 حاسما في اعتبار التعليم والتربية من الأوراش التي ينبغي أن تحظى بالأولوية، أولوية تحتاج إلى إجراءات مصاحبة في المجال الصحي (الرفع من نسبة التغطية الصحية)، وتنمية الدخل الفردي. إنه رهان الرفع من مستوى المؤشرات الثلاثة التي تعتمد عليها المنظمات الدولية لترتيب البلدان في مجال التنمية البشرية. وأمام هذا الاهتمام البالغ بالقضية التعليمية، جاءت الحكومة الحالية بخطة للتدخل تميزت عن ما سبق من محاولات الإصلاح بابتداع مصطلحين بارزين ألا وهما مصطلح «الاستعجال» ومصطلح «التنزيل». وتلازم هاذين المصطلحين في هذه الفترة بالذات، أعطانا انطباعا وكأن وزير التعليم استغل الطابع الإستعجالي كذريعة لفرض التنزيل. وفي انتظار النتائج الإستعجالية والتي أعتقد، في حالة تحقيقها، أنها لتربحنا بعض الوقت لفتح المجال لبلورة مخطط على المستوى المتوسط والبعيد، نكتفي في هذه المرحلة بالتنبيه أو التذكير، من باب المسؤولية الوطنية، أن المخطط الاستعجالي المنزل قد تجاوز المبادئ الموجهة من أجل أثر أقوى وأكثر استدامة للإصلاح التي ركز عليها المجلس الأعلى للتعليم وخصوصا المبدأ الثاني الذي يؤكد على التطبيق المتناسق للمقاربة التصاعدية، المنطلقة من المؤسسة والمستوى المحلي (الجماعات المحلية) إلى المستوى الجهوي والوطني، في رسم الأهداف والتخطيط ورصد الموارد اللازمة. لقد فرض الاستعجال خلق هيئة قيادية، ومنسقيات وطنية بعدد المشاريع، وفرق عمل مركزية وجهوية، بالموازاة مع الهياكل الإدارية الموجودة وما تزخر به من تجارب وخبرات، لأجرأة تنزيل المخطط. ولكي لا نكون متشائمين، وفي انتظارنا لما سيأتي من إصلاحات، لن نتجرأ منذ البداية بوصف منطق الإصلاح ب«منزلة بين المنزلتين» كما ورد في كتاب المفكر عبد الله العروي «من ديوان السياسة». ولكن، يبقى من واجبنا أن ننبه كذلك أن حلم تحقيق تلاحم فعلي ودائم للدولة بالمجتمع قد أنهكته وضعية «المنزلة بين المنزلتين» في كل شيء. لقد عاش المغاربة يتخبطون في زخم التطورات العالمية بشخصية مركبة كما قال «بول باسكون». عاشوا كمجتمع شبه رأسمالي، وشبه إقطاعي، وشبه اشتراكي، وشبه حداثي،... إنها مخلفات منطق الازدواجية الديماغوجية التي صنعتها سلطة الحماية وكرسها النظام المخزني ما بعد الاستقلال. وأمام ما استوعبناه من إشارات ايجابية تعبر عن إرادة الدولة في العهد الجديد لتحديث نفسها وتحديث المجتمع، وما تتبعناه من تسخير للمال العام لخدمة الطبقات الشعبية المهمشة (محاربة الفقر والهشاشة)، ومن ترتيبات تدخل في مجال إصلاح الشأن الديني، نعيد طرح إشكالية تفكيك وإعادة بناء أصالتنا وهويتنا عبر بوابة التعليم والتربية هذه المرة. وللتذكير فقط أننا قد سبق لنا أن تطرقنا لهذا الموضوع في مقال سابق على صفحات هذه الجريدة تحت عنوان «في الحاجة إلى بناء أصالة معرفية في خدمة الحداثة في مغرب القرن الواحد والعشرين». وعندما نطرح هذه الإشكالية، نطرح بالموازاة بعض النقط المصاحبة التي نعتبرها مقدمات لفتح النقاش في هذا الشأن: - النقطة الأولى: عندما نتكلم عن مسألة البناء الفكري والمعرفي للأصالة المغربية لدعم الحداثة لا نعني بذلك دعوة إلى «التوفيق» بين القديم والجديد، بين «الأصالة» و«المعاصرة»، بل نعني بذلك القيام بغربلة علمية وفكرية للتراث الموروث وتسخيره لبناء شخصية مغربية حداثية قوية ومندمجة عالميا. - النقطة الثانية: إثارة قضية «الأصالة والمعاصرة» لا يجب اعتبارها إشكالية رئيسية ستستبد بتفكيرنا الحديث والمعاصر. - النقطة الثالثة: إن الأصالة والمعاصرة مفهومان لا يتعارضان، ولا يجب أن نضع الأولى مقابل الثانية كضد أو نقيض من باب احترامنا للتاريخ وحركة الفكر. - النقطة الرابعة: يجب الحسم اجتماعيا مع من يعتبرون التراث الموروث بكل أشكاله «سيدا» علينا معتمدين على كل الوسائل لتنويم المجتمع و«سجنه» فيه. - النقطة الخامسة: إن القيام بعملية تفكيك وإعادة بناء الحاضر بقديمه وجديده بمستوييه المادي الاجتماعي والروحي الفكري بطريقة منهجية علمية سيؤدي إلى اختفاء قضية «الأصالة والمعاصرة» بشكل نهائي. ستندثر نهائيا كل نوازع الهروب إلى الوراء بدعوى الأصالة، والفرار إلى الأمام بدعوى المعاصرة. - النقطة السادسة: أمام ما تعيشه المنظومة التعليمية من مصطلحات جديدة ك«الاستعجال»، و«التنزيل»، و«منسقيات عمل مركزية جديدة»، وغزارة «المذكرات الوزارية»،... ، ندعو، في حالة ما إذا مكننا المخطط الاستعجالي الحالي من ربح الوقت اللازم، إلى فتح ورش دمقرطة التعليم عبر التعبئة الشاملة في التخطيط والإنجاز، ومن تمكين أبنائنا من الحصول على حد أعلى ممكن من الثقافة العامة الوطنية، ومن التباري الديمقراطي الشفاف من أجل الولوج إلى مختلف التخصصات، ومن الحرية في اختيار التوجهات السياسية والفكرية، ومن اكتساب المهارات التقنية والفكرية والفنية والمهنية، ومن ممارسة السياسة وإفادة الوطن، والاستفادة من خيراته في إطار احترام مبدأ «تساوي الفرص». وفي الختام نقول أن دافعنا الأساسي لطرح الإشكالية السالفة الذكر، واستحضار النقط أعلاه، لا يمكن أن يخرج عن نطاق أملنا الكبير في خلق التقائية وطنية لكل المساعي الرسمية وغير الرسمية لبناء نموذج مجتمعي مغربي وعربي وإسلامي يعالج كل الثقوب السوداء التي أحدثتها الأصوليات المعاصرة في ذاكرتنا. إنها دعوة للقيام بمعالجة عقلية طريفة للتراث والدين قائمة على مكاسب العقل الحديث وصورة المجتمع المدني وبخاصية مبدأ الحرية وأخلاق المواطنة الكونية، ولعقلنة منظومتنا التعليمية والتربوية بشكل تمكن أبناءنا والأجيال القادمة من الاستفادة من فضاءات تربوية تستجيب لمتطلبات العصر، وقادرة على رفع تحدي حماية قيم الحداثة والتقدم بشكل دائم.