ما يطبع السلطان المتحرر مبدئيا في أفعاله هو حرية جسده، وما يطبع الرعية المنصاعة مبدئيا لأوامره هو موت جسدها. وما بين الحياة والموت، يعيش الوزير وضعية خاصة تطبعها ازدواجية الجسد، المحاصر بين هوامش الانسياب وضرورات الانضباط. لا تحتمل طبيعة هذه المرتبة الزلات والغفلة ولا النسيان والإهمال، ويدرك الوزير جيدا نوعية المكان الذي يشغله، والجسد «المزدوج» الذي يحمله معه، نتيجة وضعية وسط بين رأس الهرم وقاعدته. فهو يمارس سلطته على القاعدة كما تمارس القمّة سلطتها عليه. و هي وضعية من شأنها أن تخلق لدى الوزير إحساسين مختلفين، بل و متناقضين: إحساس بالهيمنة و التملّك التفوق و الوصاية على من دونه من الرعايا، و إحساس بالخوف و الحذر و الحيطة و الدونية ممّن فوقه. أمام الملك تصبح حركاته محسوبة و إفرازات جسده مضبوطة، و أمام الرعية يصول و يجول مستعيدا حريته المكبوتة. من أرنب وديع أمام السلطان يتحوّل إلى أسد مغوار أمام الرعية. يقول الماوردي ملخصا هذه الوضعية : «وأنت أيها الوزير أمدك الله بتوفيقه، في منصب مختلف الأطراف، تدبّر غيرك من الرعايا وتدبر بغيرك من الملوك، فأنت سائس ومسوس، تقوم بسياسة رعيتك وتنقاد لطاعة سلطانك. فتجمع بين سطوة مطاع وانقياد مطيع، فشطر فكرك جاذب لمن تسوسه، وشطره مجذوب لمن تطيعه وهو أثقل الأقسام الثلاثة محملا وأصعبها مركبا لأن الناس ما بين سائس ومسوس، وجامع بينهما ولك هذه الرتبة الجامعة». هكذا يتمّ تشبيه السلطان بالطيب والرعية بالعليل والوزير بالسفير بين الطيب والعليل، وإذا كان ابن الخطيب، وهو الذي اختبر الوزارة في أحلك أيامها، يتوسع في الحديث عن علاقة الوزير بنظرائه أعضاء الحاشية وما يلفها من كيد وسعي، فإن الماوردي يتوسع في ذكر علاقة الوزير بملكه واضعا له مجموعة من الأخلاقيات تقيه من كلّ مكروه سلطاني محتمل، و هي أخلاقيات تتمحور كلّها حول مبدأ «الحذر» من السلطان، «فهو وتّاب بقدرته، متحكّم بسطوته، يميل به الهوى فيقطع بالظن، و يؤاخذ بالارتياب، فالثقة به عجز و الاسترسال معه خطر، و قد قيل: ثلاثة لا أمان لهم، السلطان و البحر و الزمان». و لحذر الوزير من الملك وجهان، أوّلها «أن لا يعول على الثقة في إذلال و استرسال...» و بالتالي يكون عليه أن « يقبض نفسه» إن قدّمه و «يتواضع له» إن عظّمه، و «يحتشم» إن آنسه و «يلن» إن خاشنه و «يصبر على تجنيه» إن غالظه...و الوجه الثاني من حذر الوزير مع ملكه يتمثّل في «مسايرته» له حيث يصبح امتدادا ليده، وأداة لتحقيق ما يروم إليه، « فيساعده على مطالبه، و يوافقه على محابه و مشاربه، و لا يصدّه عن غرض...». و بمثل هذا السلوك، يكون الوزير قد وضع مسافة «وقائية» من شأنها أن تحميه من كلّ غضب سلطاني لا يعلم توقيته إلاّ السلطان نفسه. لو كانت «العامة على علم بمحنة الوزير السلطاني لانشرحت أساريرها وحمدت الله على جسدها الواضح الطيع. ذلك أن «جسد الوزير» أو «صاحب السلطان» عامة جسد مزدوج، يعاني ثنائية مدوخة، فهو لا ينمو حرا طليقا مثل جسد السلطان، و لا هو ينمحي كلية مثل أجساد أيها الناس.