سمعت «قصر» وآخرون «مكان المناورات» وآخرون أن «الملك كان في خطر«! تقوم الدولة السلطانية، كما يعكس ذلك الفكر السياسي السلطاني الملازم لها، على ثلاثة أركان أساسية هي: السلطان والحاشية السلطانية والرعية. وبعبارة أخرى يتخللها شيء من التجريد، تتأسس هذه الدولة على «ذات» تتموقع في قمة الهرم المجتمعي، وهي "السلطان"، و"موضوع" لهذا الذات يوجد في أسفل الهرم وهو «الرعية»، وبينهما «وسيط» يصل الذات بالموضوع وينفد أوامرها، وهو «الحاشية السلطانية». تمارس "الذات" سلطتها على "الموضوع" بتحكّمها في "الوسيط" كأداة لتدبير شؤون الحكم، وقناة لممارسة سطوتها وضبط شؤون الرعايا. وإذا كانت الرعايا واضحة في وضعيتها الدونية المبنية على الطاعة والخضوع واستسلام الجسد أمام جبروت "الذات" السلطانية، فإن "الوسيط"، ونتيجة وضعيته بين "ذات" السلطة وموضوعها، يعيش ازدواجية مدوخة تتمثل في خضوعه للسلطة وممارسته لها في آن واحد. هكذا ترى الحاشية السلطانية في ذاتها "موضوعا" لذات السلطان، وترى في الرعايا موضوعا ل "ذاتها". يقدّم لنا الفكر السياسي السلطاني صورة عن "السلطان" ككائن واحد أوحد، فريد من نوعه، ليس كمثله شيء، هو الأول والآخر في مملكته. يتميز بالضرورة عن كل الناس، في مظهره وسلوكه، في جدّه وهزله. ولا يحدّ من سطوته شيء، يعطي وهو القادر على الإمساك، ويعفو وهو القادر على العقاب. مثله مثل الله، لا شريك له في حكم لا يستقيم إلا بالانفراد. من تحصيل الحاصل أن نؤكد أنّ "السلطان" يظل الشخص المحوري الذي تدور حوله كل القضايا التي تطرحها الكتابة السياسية السلطانية، ليس فقط بصفته المستبد القادر على كلّ أنواع التسلط و التنكيل و الإجحاف، أو حتى نزوات خرقاء قد يذهب ضحيتها أفراد وجماعات... إلخ، فكل هذا أمر واقع تتفنن صفحات شتى من كتب التاريخ في عرض تفاصيله، بل إنّ محوريته تزداد دلالة فيما لو تأمّلنا مجموعة من الصور والحالات والأشكال والقواعد والأوضاع المعبرة التي ينطبع فيها استبداد السلطان في شخصه كاسم أو لباس، وفي مجلسه كطقوس ومراسيم أو في لهوه وما يفترض من أدب وقواعد "جدية" لممارسته، أو في ظهوره أمام رعاياه وما يتطلبه من ترهيب وإظهار لجبروت السلطة. و هي كلّها علامات تجعل منه الكائن الأول في مملكته، مطلقا ومفردا في سلطته إلى حد يصبح معه قريبا من تلك الصورة التي رسمها "هيغل" W.F Hegel أو مونتسكيو : Montesquieu ل «المستبد الشرقي». السلطان إذن، كما صوّره أحد الباحثين، من طينة خاصة، يختلف عن سائر الناس، لا يدين بشخصه أو ملكه لأحد، لا يخاف الموت ويتحداها بثبات. يتربع على رأس كل المراتب ويتحكم فيها دون أن تتحكم فيه، أخلاقياته تخرج الأشياء والناس من "طبيعتها"، إذ بفضله يصبح ما هو "طبيعي" "ثقافي"... وهو "فريد" من نوعه، يتموقع خارج "الأسماء" وخارج "أخلاق العامة". طبيعته الحقيقية كلها "عدل" إذ يكفي أن يترك نفسه لطبعه ليعم الخير البلاد والعباد، ينتفي في سلوكه عامل "الزمن" الذي يتحكم في اللحظة الفاصلة بين الفعل ورد الفعل، وهو متجرد من كل ضرورات ومتطلبات "علاقات الرحم" ولا مجال للصداقة معه، بل إن صداقة حميمية بين رجلين من حاشيته تعد "افتتانا عليه وتهديدا له" وهو أيضا "الرقيب" على كل ما ظهر وخفي في مملكته، إذ "العلم" بكل شيء من صفاته و"الخوف" من علمه الشامل هو "صفة" العموم. انطلاقا من هذه "الصورة"، يبدو من حق الملك الطبيعي أن ينفرد في كل شيء، إسما ولباسا ومسكنا ومأكلا، بل إن الجاحظ يذهب بعيدا في تصويره حين يقول : «وأولى الأمور بأخلاق الملك، إن أمكنه التفرد بالماء والهواء، أن لا يشرك فيهما أحدا، فإن البهاء والعز والأبهة في التفرد».