تقوم الدولة السلطانية، كما يعكس ذلك الفكر السياسي السلطاني الملازم لها، على ثلاثة أركان أساسية هي: السلطان والحاشية السلطانية والرعية. وبعبارة أخرى يتخللها شيء من التجريد، تتأسس هذه الدولة على «ذات» تتموقع في قمة الهرم المجتمعي، وهي «السلطان»، و»موضوع» لهذا الذات يوجد في أسفل الهرم وهو «الرعية»، وبينهما «وسيط» يصل الذات بالموضوع وينفد أوامرها، وهو «الحاشية السلطانية». بعيدا عن كلّ إسقاط لمفاهيم سياسية وإدارية حديثة على أوضاع سلطانية تقليدية، نشير بدءا إلى أنّ استعمال كلمة «محلي» مقابل «مركزي» هو استعمال إجرائي لا غير، علما أنّنا نجد في تراثنا السياسي عبارات أخرى للدلالة على ما هو «محلي» مقابل المركز السلطاني مثل «القرية» و «القبيلة» و «العمالة» و «المدينة». و هي كلّها عبارات لا علاقة لها البتة بمفاهيم «اللامركزية» و «اللاتمركز» و «الجهوية»، و هي بالمناسبة مفاهيم حديثة على خلاف ما يدّعيه عدد من الفقهاء الإداريين الجدد الذين يتبجّحون بسبقنا للغرب في هذا المجال. يسمح لنا استقراء ما كتب حول «الوظائف المحلية» بالقول إنّ المواضيع ذات الارتباط بالشأن «المحلي» لا ينظر إليها إلا في ارتباطها الشديد بالحضرة السلطانية، و تبعية «الأطراف» للمركز السلطاني.و هو ما يتجلّى على الأقل في مقوّمين أساسيين تقوم عليهما الدولة السلطانية، و هما «المال» و «الجند». فكلّ الوقائع التاريخية المصاحبة لمسار هذه الدولة تؤكّد الدور المركزي الذي كانت تلعبه المصادر «المحلية» في تمويل السلطان و تعزيز قدراته، كما تؤكّد أهمية الموارد البشرية المحلية في تكوين الجيوش السلطانية التي «يستحسن أن تكون من أجناس متفرقة، و قبائل شتى حتى لا يتهيّأ لها اتفاق» من شأنه أن يشكّل خطرا على استقرار السلطة. تقوم حاجة السلطان إلى «الوظائف المحلية» وإلى «النخبة المحلية» التي تتولاّها على ثلاثة أركان. فهي أولا أهم وسيلة من وسائل إظهار السلطةvisibilité du pouvoir وهي ثانيا من أهم قنوات ضمان طاعة الرعايا بسبب تأثيرها المادي والمعنوي، وتمشيا مع القاعدة السلطانية الشهيرة التي ترى «أن التابع يصلح بالمتبوع»، وهي أخيرا مصدر من أهم مصادر تمويل المركز السلطاني. لهذه الأسباب على السلطان أن يتعهد هذه «الخاصة» ويوفيها حقين اثنين : أولهما أن يسمّي أعضائها في «وظائف» حسب مكانتهم لتدبير ما ينعثه ابن الأزرق ب «السياسة اليومية» وثانيهما أن يكافئ من تبقى منهم دون توليه لوظيفة ما. تتأكد أهمية الوظائف المحلية (مثل وظيفة الوالي و العامل و صاحب الشرطة و القائد...) من خلال معطيات عدة، تتمثل في اعتبار نجاح السلطان في اختيار هؤلاء «الأعوان» دليل على حسن تبصره وما عدا ذلك يكون كمن «يسترعي غنمه الذئاب» على حد قول الطرطوشي، كما تتجلّى في المكانة التي تحتلها هذه «الوظائف» داخل حاشية السلطان. و هذا أيضا ما يمكن استنتاجه من خلال تركيز العديد من الأدبيات السياسية على طرق مراقبة «الموظف المحلي» ووسائل اختباره اتقاء لكل الأخطار المحتملة التي يمكن أن تنجم عن ممارساته. ليس غريبا إذن أن يخضع الموظف المحلي لشروط ومواصفات محددة تعكس أهمية الوظيفة التي يشغلها. و يمكننا تصنيف مختلف الشروط والمواصفات في أربع خانات تتوزع بين «الصفة الخلقية» و «الخبرة» المهنية و»مدة» شغل المنصب، و أخيرا بعض «المحددات الشخصية» المتعلّقة بصاحب الوظيفة نفسه. وعلى الرغم من بعض الاختلافات «العرضية» في معالجة الموضوع، هناك وحدة الإطار «الثقافي» الذي يحكم مجمل التصورات. وحتى نتمكن من رصد بعض عناصر هذه الوحدة «البنيوية»، نتحدث لاحقا في نقطة أولى عن «الوظيفة المحلية» في ضوء شروطها واختيار من يتولاها، وفي نقطة ثانية عن تدبير هذه الوظيفة ووسائل مراقبة واختبار صاحبها.