«سعيد بالمساهمة في هذا الموسم الثقافي الرائد الذي يمثل منذ أكثر من ثلاثة عقود، جسرا بين المغرب وباقي العالم من هذه المدينة الاصيلة التي هي نفسها وليدة لقاءات حضارات وثقافات: المغربية / الافريقية / الأوربية. سعيد بالمساهمة في هذا النقاش حول إشكالية التعاون الاقتصادي والمالي المخصص للبلدان النامية وخاصة الافريقية منها.... التعاون في ظل العولمة واعتبار الازمة المالية والاقتصادية التي يخترقها العالم اليوم. إن طرح هذه الاشكالية يقتضي الرجوع الى الوضع السائد قبل انطلاق الازمة (أي 2007/2006) ويقتضي منا فهم واستيعاب طبيعة الازمة باعتبارها ثاني أزمة منذ 80 سنة طالت الاقتصاد العالمي (اوأول أزمة كبرى للعولمة) تتلخص السمات الاساسية قبل الازمة في النقط التالية: الانخراط النظري للدول المتقدمة والمؤسسات التمويلية الدولية بما يسمى بالتزام الالفية الهادفة الى تقليص درجة الفقر بالعالم خاصة بافريقيا (الملتقيات الدولية: نيويورك، مونتيرى،جوهنسبورغ) في آفاق 2015. في هذا الاطار برز على المستوى الافريقي مشروع NEPAD القاضي باستملاك البلدان الافريقية لمكونات المشروع التنموي عبر تحسين الحكامة. 2 بداية ارتفاع ملموس ونشر لوتيرة النمو في العديد من البلدان النامية ومنها الافريقية بفضل انخراط بعضها في منطق الاصلاحات والتحكم في الاطار الماكرو اقتصادي، أو بسبب مفعول ارتفاع أسعار المواد الاولية .3 مع بداية 2007/2006 نلاحظ تجليا واضحا لعاملين اثنين. ارتفاع أسعار النفط والمواد الأولية: سيكون لها انعكاس على البلدان المنتجة ومنها الافريقية وعلى حساب البلدان المستورة ومنها كذلك العديد من البلدان الافريقية. ارتفاع أسعار المواد الغذائية الذي سيكون له تأثير سلبي على جل البلدان النامية وخاصة الفقيرة بسبب عجزها الغذائي. وسيتضح أن ارتقاء الطلب لدى البلدان المنبثقة وعلى رأسها الصين هو الذي يكون المصدر الاساسي لأزمة الطاقة والازمة الغذائية التي عرفها العالم آنذاك. كما ان ارتفاع أسعار مواد الطاقة والمواد الاولية سيكون له تأثير كبير في موقع القارة الافريقية التي أصبحت موضع منافسة كبيرة بين الولاياتالمتحدة وأوربا والصين. ومع كل ذلك بقيت الولاياتالمتحدة القطب الاساسي للاقتصاد العالمي والمدير الاول لحكامته في مجال التمويل والمبادلات، وفي كل النقاشات الاقتصادية ومن بينها ما يهم قضايا البيئة، حيث بقيت متشبثة بتوجهات أرثودكسية. في هذا المناخ انفجرت الازمة الحالية والاقتصادية صيف 2008 وهي لاتزال تخترق العالم الى الآن، ومن المؤكد الى غاية 2010. أزمة كبيرة، انطلقت من القطب الاساسي للاقتصاد العالمي (الولاياتالمتحدة) وانطلقت من القطاع المالي بارتباط مع الفقاعة العقارية، ثم امتد مفعولها الى أوربا فالبلدان المنبثقة. وخرجت من الدائرة التمويلية لتطال دائرة الاقتصاد العيني أو الحقيقي من خلال مظاهر الانكماش والبطالة، وتدني الاسعار وانحدار تيارات التجارة الخارجية وتقلص في وتيرة النمو التي أصبحت سالبة لدى العديد من البلدان. وفي مرحلة ثالثة مست الازمة من خلال شيوعها، توازنات البلدان النامية وخاصة الافريقية بفعل تقلص صادراتها ومداخيلها من تحويلات المهاجرين وتيارات الاستثمارات والاعانات المالية الموجهة لها. إذا كانت الازمة تتجلى اجتماعيا في تفشي البطالة وعطالة الآلية الاقتصادية داخل البلدان المتطورة، فإنها في البلدان النامية وخاصة الافريقية تطرح من خلالها مخلفاتها الخطيرة قضية وجود الانسان ذاته، إذ يتولد عنها تفاقم الفقر المدقع والسائد مسبقا. وإذا كانت مواجهتها في البلدان المتطورة تفرض تعبئة آلاف الملايين من الدولارات لإنقاذ المنظومات التمويلية وآلاف البلايين للدفع بعمليات الانتعاش، فإن حماية البلدان النامية من مخلفاتها تقتضي إيجاد آليات تعاون وتضامن قصد الحفاظ على القدرة الشرائية، الحفاظ على لقمة العيش وتوقيف مسلسل التفقير ولتساهم هذه البلدان في إعادة تحريك الانشطة الاقتصادية بالعالم. واضح ان الاعتناء بإنقاذ المنظومات البنكية وإعادة انتعاش الاقتصاد الحقيقي في البلدان المتطورة ساهم في إدخال التزامات الألفية الى طي النسيان، وأدى الى تراجع المساعدات المالية الموجهة لها.وهذا في حد ذاته يكون خطرا على مستقبل الاقتصاد العالمي في المدى البعيد، خاصة إذا ما اعتبرنا أن اتساع الفوارق في المداخيل داخل المجتمعات المتطورة، خاصة الولاياتالمتحدة، هو الذي يمثل السبب الحقيقي للأزمة المالية لأنه هو الذي دفع بالمؤسسة السياسية للتواطؤ مع المنظومة التمويلية سامحة بهذه الاخيرة بأن تبادر بتوزيع الاقتراضات بدون ضوابط كأداة لتحريك النشاط الاقتصادي. كذلك الأمر على المستوى العالمي، فتفاقم الفوارق يؤدي الى انحسار الطلب. وهكذا فإذا كانت معالجة الانكماش الحالي قد فرضت انخراط الحكومات وحتى الليبرالية منها في البلدان المتقدمة في مقاربات كينزية كانت تبدو منذ فترة قصيرة متقادمة، فإن معالجة الازمة في عمقها الكوني تتطلب توسيع مجال هذه المقاربة على المستوى العالمي، الشيء الذي يتطلب تحويل أموال المساندة من البلدان المتطورة الى البلدان النامية وخاصة الافريقية. نقترح طرح آثار الازمة على هذه البلدان على المدى القصير (الذي يهم الازمة ذاتها) وعلى المدى المتوسط والبعيد الذي يهم ما بعد الازمة. فعلى المدى القصير برزت ضرورة إقرار برنامج استعجالي لفائدة القارة الافريقية في اجتماع وزراء المالية الافارقة بدار السلام في مارس 2009 بحضور لافت للمدير العام لصندوق النقد الدولي وطبعا للمدير العام للبنك الافريقي للتنمية. وجاء اجتماع مجموعة العشرين يوم 2 أبريل 2009 بلندن ليشير الى ضرورة الاهتمام بمخلفات الازمة على البلدان الفقيرة بجانب إقرار أدوات سياسة الانقاذ والانتعاش في البلدان المتقدمة. وأخيرا وافق المجلس الاداري لصندوق النقد الدولي في دورته نهاية يوليوز على منح قروض إضافية في حدود 17 مليار دولار الى 80 بلدا فقيرا، ثلاثة أرباع هذه البلدان، افريقية، اعتمادا على إصدارات لحقوق السحب الخاص DTS ومقابل بيع جزء من مخزون الصندوق من الذهب. بجانب ذلك أقر البنك العالمي والبنك الافريقي للتنمية برامج تمويلية مصاحبة لهذه البلدان في مواجهتها لإكراهات الازمة. واضح ان حضور صندوق النقد الدولي في هذه المبادرة عبر مديره dsk مستحدثة يجب الانتباه لها، خاصة إذا اعتبرنا ان المهمة التقليدية لهذه المؤسسة هي التدخل لمواجهة اختلالات ميزان الأداءات خارج كل اعتبار تنموي. لكن يجب أن نعترف في ذات الوقت بمحدودية كل هذه المساعدات بالمقارنة مع آلاف البلايين الموظفة لصالح إنقاذ البنوك وانتعاش الآلية الاقتصادية في البلدان المتقدمة، بل هي بعيدة كل البعد عن مستوى القروض المقدمة من طرف صندوق النقد الدولي نفسه الى البلدان المنبثقة التي وجدت نفسها في وضعية حرج بفعل الازمة مثل بلدان أوربا الشرقية أو أندونيسيا أو أكرونيا. فهذا البلد الاخير حصل لوحده على 16 مليار دولار من هذه المؤسسة. وهل يليق أخلاقيا ان نقارن ما سيسلم للبلدان الافريقية في خمس سنوات (18 مليار دولار) مع 65 مليار دولار التي احتال عليها الوسيط النصاب medoff ولو أن ذلك أدى به لينهي حياته في السجن. لكن المهم هو المدى المتوسط والبعيد أي المستوى الثاني. أي ما بعد الازمة وما موقع البلدان النامية وخاصة التي تهمنا المتوسطية والافريقية في عالم ما بعد الازمة. إن هذه الازمة كثيرة.. وككل الازمات الكبيرة ستكون لها آثار ومخلفات ونتائج عميقة تمس مجريات القرن الواحد والعشرين، إذ أن سنة بداية الازمة كانت هي المنطلق الحقيقي لهذا القرن. الازمة سيكون لها نوعان من النتائج: 1 انبثاق مصدر الانطلاقة الجديدة للاقتصاد العالمي والتي ستعتمد على قوى محركة جديدة مرتبطة بتكنولوجيات واعدة في مجال الطاقات البديلة والبيئة. بجانب الانتقال الديمغرافي الذي يعرفه العالم، سيدخل هذا الاخير انتقالات طاقوية وبيئية. والمطلوب أن تكون البلدان النامية حاضرة في هذه الانتقالات. 2 النتيجة الثانية تهم الحكامة الاقتصادية والسياسية بالعالم. إذ سينتقل العالم من وضع أحادية القطب الى وضع تعدد الاقطاب وبعبارة أدق من هيمنة قطب وحيد (الولاياتالمتحدة) الى حضور وازن لقطبين (G2) الولاياتالمتحدة والصين: وستنتقل الريادة من مجموعة الثمانية الى مجموعة العشرين، الشيء الذي يكرس الموقع الجديد للبلدان المنبثقة. فما هو موقع مجموعة 172 التي تضم باقي العالم: البلدان النامية وضمنهاكل المكونات الافريقية، أي ما يمكن أن نسميه بالعالم الثالث الجديد بعد ان انمحت وحدة العالم الثالث الذي برز في الستينات بفعل ترسيخ ظاهرة الانبثاق (انبثاق الصين والهند والبرازيل الخ... وقد نضيف إليها روسيا ) (ما يسمى ببلدان البريك). وكيف يمكن لهذا العالم الثالث الجديد ان يدفع بالدول المتطورة والمنبثقة لإدماج قضايا التنمية ومحاربة الفقر في أجندة النقاشات والمفاوضات الدولية؟ إن تحسين الموقع التفاوضي للبلدان النامية يفرض أساسا ان تنخرط هذه البلدان عن وعي في منطق الاصلاحات المؤسسية والاقتصادية بهدف تحسين شروط الحكامة والتدبير الداخلي. كما ان عليها ان تنخرط كذلك بعزيمة في منطق التآزر والتعاون الاقليميين عبر محاربة التقزيم والتفرقة، عبر إنشاء مجموعات إقليمية متضامنة قادرة على مخاطبة تحديات العولمة ومستلزمات التعددية القطبية التي ستصبح محور الحكامة بالعالم. هذا هو الرهان المطروح علينا نحن المغاربيون / العرب والمتوسطيون والمنتمون للقضاء الأورومتوسطي، وهذا هو الرهان بالنسبة لكل المكونات الافريقية، لكي لا تبقى افريقيا مرادفة للبؤس وللفقر،. ولكي لا تبقى موضع منافسات بين الاقطاب السائدة، بل لتصبح طرفا فاعلا في معادلة التحولات الاقتصادية بالعالم. بذلك أن نكون على موعد مع المستجدات التي ستفرزها الازمة وما بعدها.