إسمها نجود، فتاة بسيطة صغيرة، تنحدر من محافظة «حجة» شمال غرب اليمن حيث تعيش مع والديها رفقة 16 من الأخوة والأخوات. تعتقد نجود أنها تبلغ من العمر عشر سنوات، ففي بلدها اليمن لا يتوفر السواد الأعظم من أبناء البوادي على وثائق ثبوتية، وغالبيتهم لا أثر لهم في سجلات الولادة. مثل أي فتاة في العاشرة من العمر، تعشق نجود اللعب بين أزقة قريتها، وتحب لعبة القط والفأر مع صديقاتها وأخواتها، والألوان المفضلة لديها هما الأحمر والأصفر، وهي تفضل الشوكولاتة وجوز الهند، وتحب الكلاب والقطط، كما أنها لم تعرف البحر مطلقاً وتحلم بأن تعانق يوما أمواجه. نجود علي رفقة الصحفية الفرنسية ديلفين مينوي، تقربنا من تفاصيل تجربتها الفريدة، التي صاغتها في كتاب عنونته ب«أنا نجود، عممري 10 سنوات، مطلقة» غشت 2008 تناولت «بيتزا»، كان ذلك قبل أيام بأحد المطاعم العصرية جدا، حيث يوجد نادلون يضعون قبعات على رؤوسهم ويتسلمون الطلبات بصراخهم في ميكروفونات. ياله من ذوق عجيب! كانت مقرمشة، مثلما قطعة خبز كبيرة، موضوعة عليها أشياء جميلة تعطيك الرغبة في تناولها: طماطم، ذرة، قطع دجاج وزيتون. على الطاولة المحاذيةلنا، كانت نساء بمناديل تشبهن نساء «يمن تايمز». كن أنيقات ويتناولن طعامهن مستعينات بسكين وشوكة. حاولت تقليدهن وتقطيع ال«بيتزا» مثلهن، غير انه لم يكن ذلك بالسهل في المنطلق.. من جانبها تمكنت هيفاء من ان تلمح فتاة صغيرة وقد افرغت قنينة صلصة طماطم ببهارات بكاملها فوق صحنها. حاولت هيفاء هي الأخرى أن تفعل مثلها غير انه بعد وضعها لقمة بفمها التهبت حنجرتها واحمرت عيناها. ومن حسن الحظ أن نادلا رمقها فقدم لنجدتها، مانحا ايها قنينة ماء من الحجم الكبير! ومنذ حينها أصبح هذا بمثابة لعبة نستأنس بها. فعندما نكون رفقة والدتي نساعدها في اعداد وجباتنا، كن نتشبه بزبناء ال«بيزيريا»، اللواتي تأتين لاختيار وجباتهن المفضلة. ماذا يمكنني أن أقدم لك، تقول لي هيفاء، وتعد طاولة الأكل في الغرفة الرئيسية بالبيت. دعيني، افكر، اليوم اريد «بيتزا» بالقشدة، اقول لها. الحقيقة أن كوني رددت كلمة «قشدة»، فذلك لأنني حين كنت أقلب كيس التموين، لاحظت انه هو ما تبقى لنا لتناوله.. إلى طاولة الأكل، تصرخ هيفاء، وهي تدعو باقي افراد الاسرة للالتحاق بي. وما أن تمكنا من تهيئ وجبتنا البسيطة، حتى بدأنا نسمع طرقات متتالية قادمة من جهة باب المنزل. نجود، هل ما زلت تنتظرين صحافيين؟ يسألني محمد. لا، ليس اليوم. اذن، ربما يتعلق الامر بشاحنة الماء قدمت لملء الخزان. لكن من عادتها أن تأتي في الصباح.. نهض وهو يقلب حاجبيه ويستمر في مضع قطعة خبز. وبعد ذلك توجه بخطوات مسرعة نحو الباب الحديدي. من هذا الذي يمكنه أن يأتي في مثل هذا الوقت لزيارتنا في عز قيظ صيف غشت؟ ففي مثل هذه الحرارة المرتفعة عادة ما تكون الزيارات في نهاية اليوم. لم يتأخر في إطلاق صرخة . تحركنا بأكملنا من أمكنتنا. فارس! يصرخ محمد. لقد عاد فارس! انه فارس، اخي الذي أكن له محبة كبيرة والذي لم أعاود رؤيته منذ اربع سنوات خلت! تسمرنا جميعنا الى جانب الحائط وأيادينا ترتجف، أما والدتي فقد توجهت نحو مدخل البيت.لنلتحق بها جميعا في خطو واحد، فيما كانت الصغيرة روضة تحاول ان تتجاوزنا وهي تتسلل بين أرجلنا.أما ممر البيت الضيق، فلم يبدو أبدا بعيدا بالنسبة إلينا كما حدث اليوم. شاب في مقبل العمر يقف الى جانب مدخل البيت، يبدو جلده أصبح اسمر اللون بفعل لفحات الشمس.. لقد تغيرت ملامح فارس، أصبح ممشوق القوام. لم يعد فارس، ذلك الفتى المراهق كما في الصورة التي كنت غير ما مرة أتمعن في تفاصيلها خوفا من أن أنسى ملامح وجهه. كان من المفروض علي أن أرفع عيني إلى الأعلى كي أراه جيدا، اصبحت نظراته اكثر صلابة و جبهته أيضا تخترقها خطوط قاتمة مثل والدي. لقد أصبح رجلا الآن. فارس! فارس! فارس! تصرخ والدتي وهي تمسك بعمامته البيضاء لتعانقه بقوة. لقد افتقدناك، قلت له وأنا اعانقه بدوري. أما فارس، فقد وقف صامتا، فهو يبدو متعبا، بنظرات فارغة، وغير سعيدة... فارس! فارس! تردد روضة بشكل اتوماتيكي، دو ن أن يتناهى الى علمها أن هذا الرجل الماثل امامها لن يكون سوى أخيها الأكبر، الذي غادر البيت حينما كانت طفلة في اسابيعها الأولى.. فمنذ مكالمته الهاتفية السريعة من المملكة العربية السعودية، عامين بعد هروبه من البيت، لم نكن نتوصل بأي خبر عنه. وكان، اتصاله بنا أحد المساءات الشهر الماضي مباغتا، وحينما تعرفت والدتي على صوته في الجانب الآخر من الخط الهاتفي، أطلقت صرخة سعادة مدوية. كنا وقتها جميعنا نتسابق على الهاتف، الذي كان ينتقل من يد ليد لكي نتمكن من سماع صوته، كان يبدو بعيدا، غير أن معرفتي بأنه لايزال على قيد الحياة، شيء أثلج صدري. هل كل شيء على مايرام هناك، كان يسأله والدي متسرعا بصوت منكسر وعينين ممتلئتين بالدموع. كان والدي يريد ان يعرف كل شئ عن فارس. لصالح من يشتغل؟ هل هو مرتاح أم لا؟ هل له أجر جيد؟ وكان اخي فارس يجيبه غير ما مرة بسؤال كان يتملكه: وانتم كيف حالكم؟ وهو ينطق جملته كان يشدد على «انتم»، قبل ان يواصل: انا قلق جدا على أسرتي، سمعت اشياء كثيرة، ارجوكم، أبلغوني، هل كل شئ على أحسن مايرام...