إسمها نجود، فتاة بسيطة صغيرة، تنحدر من محافظة «حجة» شمال غرب اليمن حيث تعيش مع والديها رفقة 16 من الأخوة والأخوات. تعتقد نجود أنها تبلغ من العمر عشر سنوات، ففي بلدها اليمن لا يتوفر السواد الأعظم من أبناء البوادي على وثائق ثبوتية، وغالبيتهم لا أثر لهم في سجلات الولادة. مثل أي فتاة في العاشرة من العمر، تعشق نجود اللعب بين أزقة قريتها، وتحب لعبة القط والفأر مع صديقاتها وأخواتها، والألوان المفضلة لديها هما الأحمر والأصفر، وهي تفضل الشوكولاتة وجوز الهند، وتحب الكلاب والقطط، كما أنها لم تعرف البحر مطلقاً وتحلم بأن تعانق يوما أمواجه. نجود علي رفقة الصحفية الفرنسية ديلفين مينوي، تقربنا من تفاصيل تجربتها الفريدة، التي صاغتها في كتاب عنونته ب«أنا نجود، عممري 10 سنوات، مطلقة» 2 أبريل 2008 حالة من الدوار تصيبني. لم أر قط في حياتي هذا الكم من بني البشر. في الباحة المؤدية إلى المبنى الرئيسي للمحكمة ثمة حشد من الناس جراء تعدد الوافدين عليها. سيل من الخطوات يتحرك في كل الاتجاهات، رجال ببذلاتهم وربطات عنقهم يتأبطون ملفات اصفر لونها، وآخرون يرتدون اللباس التقليدي لسكان القرى بالشمال اليمني. رحاب المحكمة عج أيضا بمجموعة من النساء اللائي يبكين في «هرج ومرج» نتج عنه صراخ لايطاق. تمنيت لو تمكنت من فك طلاسيم ما وددن قوله من خلال حركات شفاههن، غير أن نقابهن المتماهي مع عباءاتهن السوداء لا يجعلك ترى من وجوههن سوى أعينهن الواسعة. يمكن القول إنهن أشبه بقنابل يدوية جاهزة للإنفجار في كل وقت وحين، نساء يتملكهن الغضب كما لو أن إعصارا أتى على كل منازلهن ودمرها بالكامل. خلال أحاديثهن هنا وهناك، أصختُ السمع، لم أتمكن من التقاط سوى بعض الكلمات مثل «حضانة الأطفال»، «العدالة»، «حقوق الانسان»، لا أعرف كثيرا ما الذي يعنيه كل هذا. إلى جانبي كان يقف رجل عملاق عريض المنكبين، يلف عمامته على صدغيه وبيده كيس بلاستيكي مملوء بالوثائق يحكي، لمن يود الانصات إليه، أنه هنا في محاولة لاسترداد الأراضي التي سرقت منه. كان هذا الرجل مثل أرنب تائه كاد أن يطوحني بالسرعة التي كان يجري بها. يا لها من فوضى! لقد تذكرت «القاعة»، ذاك المكان المتواجد في قلب صنعاء، الذي طالما حدثني عنه أبي والذي يرتاده العاطلون عن العمل. هناك كل واحد يفكر في نفسه أولا، والمحظوظ هو من يظفر بفرصة العمل ليوم، مع منطلق بزوغ الشمس مباشرة بعد أذان صلاة الفجر. إن هؤلاء القوم جوعى حتى إن قلوبهم استحالت حجرا، فوقتهم أضيق لينفطر قلبهم على مصير الآخرين. بالرغم من ذلك، تمنيت كثيرا أن يأخذ أحدهم بيدي، أو يغمرني بنظرات عطوفة، أو ينصت إلي ولو لمرة واحدة! غير أنه في الواقع، أحسست كما لو أنني شبح لايراه أحد. بدوت صغيرة في أعينهم وقامتي بالكاد تبلغ مستوى الخصر بالنسبة إليهم. فأنا ما أزال في عقدي الأول، وربما أقل، من يعرف؟ قبل كل هذا، ارتسمت في ذهني صورة مختلفة عن المحكمة، فهي بالنسبة لي مكان هادئ ونقي. بمثابة البيت الكبير، حيث الخير في مواجهة الشر. المكان الذي يمكننا العثور فيه على حلول لكل المشاكل التي تعج بها البسيطة. لقد سبق لي أن شاهدت، عبر جهاز تلفزيون الجيران، المحاكم والقضاة ببذلاتهم الطويلة، الذين يقال عنهم إنهم هم القادرون على مد يد المساعدة لاؤلئك الناس الذين هم في حاجة إلى سند. لابد لي أن أجد واحدا منهم، لكي أحكي له تفاصيل قصتي. إنني متعبة. وأحس بارتفاع درجة الحرارة بسبب الحجاب الذي ارتديه. أخجل من نفسي وأشعر بصداع في رأسي. هل أتوفر على القوة الكافية لكي أستمر؟ لا. نعم. ربما. قلت لنفسي إن الأوان قد فات من أجل التراجع. لقد تجاوزت المرحلة الأصعب. لابد لي أن أتقدم. بعد أن غادرت بيت الوالدين، هذا الصباح، عاهدت نفسي على ألا أعود إليه إلا بعدما أحصل على ما أريده. كانت الساعة حينها تشير إلى العاشرة بالتمام. هيا اذهبي لاقتناء الخبز لأجل وجبة الإفطار، قالت لي والدتي، وهي تمنحني 150 ريالا. بحركة تلقائية عقصت شعري العسلي المجعد والطويل تحت غطاء الرأس الأسود وغطيت جسدي بمعطف طويل، الزي الذي ترتديه النساء اليمنيات للخروج إلى الشارع. سرت لبضعة أمتار وأنا أرتجف، بعدها امتطيت أول حافلة صغيرة تمر عبر الشارع الكبير الذي يؤدي إلى وسط المدينة. غادرت الحافلة في محطتها النهائية. كما تجاوزت الخوف الذي يتملكني بامتطائي وحيدة ولأول مرة في حياتي «طاكسي أصفر».