«عرف العالم العربي تجربة جمعوية قديمة استمرت حتى اليوم في بعض الحالات، تنضاف لهذا الواقع الجمعوي التقليدي والمتجدد توجهات جمعوية جديدة تسعى، لا الى تقديم المساعد وعرض خدمات، بل الى تعبئة المواطنين بخصوص قضايا متنوعة ولكي تصبح شريكة للسلطات العمومية في اختيارات ومواكبة التطور. بصفة عامة، هل يمكن اعتبار تزايد وظائف المنظمات غير الحكومية في البلدان العربية بصدد إحداث تغيير عميق بخصوص الديمقراطية، محاربة البيروقراطية، اللامركزية تطلعات المجتمع؟». في هذا الاتجاه يسير الموضوع التالي عن المنظمات غير الحكومية والحكامة في العالم العربي (1). طفرة الثمانينات للمنظمات غ.ح في اليمن نجد أن الجمعيات العاملة في مجال معالجة الفقر يختزل دورها في «المناولة» ولا يمكنها صياغة رؤاها الخاصة عن الفقر ووسائل التخفيف منه، وهذا بسبب تبعتها المالية تجاه مانحين دوليين وبسبب الاطار السياسي التقنيني المفروض من طرف الدولة. هذه الحالة لا تنطبق على المنظمات غير الحكومية الفلسطينية المهتمة بهذا المجال. توجد خصوصيات أنماط العمل «الحركات الاجتماعية الجديدة» مثل «سياسة الترشيد» و«سياسات التأثير»، في نمط عملها. هكذا تقترح المنظمات غير الحكومية الفلسطينية قيما جديدة للسياسة الصحية، تنأى عن الرؤية التراتبية، المتمركزة والتقليدية. انها تدعو الى علاقات جديدة بين الطبيب، الممرض، عامل الصحة، المريض و «الجماعة». بيد أن هذه الوضعية شجع عليها غياب الدولة في وقت ما. إلا أن قيام السلطة الفلسطينية غير هذه التوزيعة بتدخلية مفرطة. فقد سعى المانحون كما السلطة الفلسطينية الى إزالة الطابع السياسي عن المنظمات غير الحكومية الفلسطينية ومنعها من ان تكون طرفا كاملا في تحديد السياسات العمومية. تظل حصيلة المنظمات غير الحكومية العربية بخصوص تأثير في المسألة الديمقراطية، بصفة عامة باهتة أو غير كافية بالنظر الى الامل المعقود على الفضائل «السحرية» للجمعيات المدنية، من طرف فاعلين مجردين من كل سوء نية، إلا أن لخيبة الامل تلك كتأثير إيجابي التذكير ان منظمات المجتمع المدني، لاسيما المنظمات غير الحكومية، لا يمكنها لوحدها ضمان دمقرطة مجموع المنظومة السياسية والاجتماعية، لسبب بسيط وهو ان هذه الوظيفة لم تكن هي سبب وجودها الاصلي (بالمناسبة تجدر الاشارة إلى أن عبارة «مجتمع مدني» دخلت الى العالم العربي أواسط الثمانينيات. وقد حققت نجاحا مباشرا تقريبا داخل النخب السياسية والفكرية، بالنسبة للقادة السياسيين، ساعد وجود منظمات المجتمع المدني على نوع من الاعتراف الدولي على الصعيد الديمقراطي، وقد ساعدهم ذلك على إعطاء شريحة من معارضتهم نشاطا ملحوظا. أما منظمات المجتمع المدني للخدمات فساعدتهم على تقليص الطلبات الاجتماعية التي ليس بإمكانهم تلبيتها. بالنسبة للمعارضين السياسيين، ساعد العمل داخل منظمات المجتمع المدني على الولوج الى الساحة العمومية والسياسية والقيام بأدوار سياسية كانت محدوديات العرض السياسي المقنن تمنعهم من القيام بها. كانت إحدى خلاصات المانحين هي انهم إذا رغبوا في المساعدة على الديمقراطية ودمقرطة البلدان العربية، فإن المساعدة باتجاه منظمات المجتمع المدني وحدها ليست بالضرورة الحل الافضل، هذا بالإضافة الى الاحتراز من رؤية رومانسية لهذه الاخيرة. انطلاقا من فكرة أن وجود مجتمع مدني قوي لا تفضي بالضرورة الى ظهور الديمقراطية، لاحظ غيلان دونوه، في هذا الصدد انه في جميع البلدان العربية حيث تقدمت، كان المسار قد بدأ بمبادرة من الحكومة لا في أعقاب ضغوطات المجتمع المدني. الملاحظة الثانية المستمدة من هذه الحصيلة المتناقضة للمنظمات غير الحكومية العربية هي التالية: في إطار منظومة اجتماعية، تربوية، أسرية، دينية، سياسية، تميزها علاقات تراتبية وسلطوية، من الصعب ان يرى مجتمع مدني ديمقراطي ومزود بمزايا «دمقراطية» ان يرى النور. تلك إحدى الملاحظات التي يراها محمد سيد سعيد من أجل تأكيد حجية نظرته التشاؤمية للعلاقات بين «المدني» و«السياسي» في العالم العربي. افتقاد خصوصيات المجتمع المدني النموذجي: إن إحدى النقائص الأربعة الهيكلية للمجتمع المدني في العالم العربي هي عدم وجود ثقافة سياسية للحل السلمي للنزاعات، مما يتسبب في صراعات داخلية متعددة داخل المنظمات، بحيث يدفع ذلك الى شلل العمل وتسهيل وضع الدولة يدها على الجمعيات أحيانا وتستغل الانقسامات الداخلية. فخصوصيات العلائق الاجتماعية والسائدة داخل البلدان العربية، والكوابح الموجودة أمام الحرية الفردية، السياسية أو الاجتماعية، تشكل، من جهة أخرى، أحد أسس حجية هؤلاء الذين يعتقدون انه لا يمكن ان يكون هناك مجتمع مدني في البلدان السائرة في طريق النمو بصفة عامة. في هذه البلدان قد يكون المجتمع تحت هيمنة الدولة، بحيث انها قد لا تتمكن من المساعدة على إبراز مجتمع مدني حقيقي، ذلك ان هذه الاخيرة لا توجد إلا في استقلالية تجاه الدولة. مع ذلك يبدو من الصعب الانخراط في هذه الاطروحات الوجودية والمتطرفة، ذلك انه منذ أمد بعيد، كشفت أعمال علماء السياسة بخصوص الواقع الاجتماعي والسياسي لبلدان الجنوب ان هذه النظرة بخصوص دولة قد تكون قد احتوت المجتمع، تبدو نظرة مغلوطة وأقل إقناعا، بالنظر لديناميات العمق التي «تحرك» بلدان الجنوب وللخصوصيات الحقيقية للدول في البلدان السائرة في طريق النمو، ليس فقط أن هذه المجتمعات تبرهن على قدرة التدبير الذاتي واتخاذ مسافة بينها وبين الدولة، بل لأن الدولة نفسها على الرغم من سلطويتها المظهرية، هي دولة «فاترة وهشة»، لذلك لا تمتلك قدرات إيديولوجية، سياسية، إدارية، وحتى ردعية لتحسين هيمنتها. يبدو لنا ان هذا التحليل الذي أنجزه روني أوطايك بخصوص الواقع السياسي والاجتماعي الافريقي، يمكنه ان يطبق بخصوص البلدان العربية المعاصرة. من ثم من الممكن القول ان المجتمعات المدنية العربية موجودة، على الرغم من انها لا تمتلك جميع خصوصيات ومميزات المجتمع المدني النموذجي. المعنى المقصود من مجتمع مدني هو القدرات التنظيمية الذاتية لمختلف المجموعات الاجتماعية حول مصالح جماعية مشتركة، بغية الدفاع عنها تجاه السلطات العمومية وتجاه مجموعات اجتماعية أخرى لها مصالح متباينة. اعتمادا على هذا التعريف لتشكيل المجتمع المدني من منظمات متعددة غير الجمعيات والمنظمات غير الحكومية. إحدى أولى منظمات المجتمعات المدنية سيما في أوربا هي النقابة. بيد أنه تحديدا، بالنسبة لهذا المعيار المتعلق «بالتنظيم» الذاتي يتحدد الفرق مع منظمة المجتمعات المدنية للبلدان العربية. في الواقع ان المنظمة العربية غير الحكومية هي قبل كل شيء منظمة «شبه إدارية»، بالطبع هناك استثناءات لحسن الحظ. يتعلق الامر بالمنظمات الدفاعية التي أشرنا إليها من قبل. فهذه الاخيرة على الرغم من عدم ترابطها مع قواعد اجتماعية، فإنها تمكنت من الحصول على نجاحات مهمة. والنجاح الاكيد كان هو جعلها من مسألة حقوق الانسان موضوعا لا محيد عنه في النقاش السياسي العربي. لكن هذا النوع من التنظيم لا يمكن ان ينسينا ان السمة المميزة للمنظمات المدنية العربية هو طابعها شبه العمومي. لفهم هذا الامر يجب ان لا ينساق الباحثون والملاحظون الخارجيون مع تأثير منظورية الجمعيات الدفاعية، الاكثر نشاطا على المستوى الدولي وكذلك التي حظيت بدراسات أكثر، بحيث انها هي المنظورة أكثر والاكثر سهولة للوصول إليها من طرف الباحثين. صحيح كذلك انها تتقاسم الخطاب السائد اليوم على الساحة الدولية. حاصل الامر ان الاعمال والمداخلات المقدمة في هذا الكتاب لم تشد عن هذا التأثير «الخادع أو بمثابة سراب». نادرة هي المداخلات التي اهتمت بالجمعيات الصغيرة للأحياء، المتخصصة في المساعدة الاجتماعية والتدبير الحضري، أو جمعيات الوسط القروي التي تقدم تكوينات مهنية. لهذه الجمعيات الصعب الولوج إليها، كذلك ميزة أولى تتمثل في كونها تتموقع على حاشية الاجهزة الادارية ويتم تنشيطها من طرف موظفين متقاعدين، او من طرف أعيان ومنتخبين (مستشارين، برلمانيين، منتخبين محليين، إلخ)، مرتبطين بحزب أو سلطة. يبدو نموذج المنظمات غير الحكومية المغربية المهتمة بالتدبير الحضري نموذجا بارزا من وجهة النظر هذه. تتواجد هذه المنظمات في الاحياء الشعبية أو العشوائية الحضرية، ويسيرها عدد من نخب هذه الاحياء: موظفون، عسكريون وكذلك مضاربون عقاريون. وظيفة هؤلاء هي حماية السكان من تدمير محتمل لمساكنهم من طرف الادارة والضغط عليها لتزويد أحيائهم بالتجهيزات الحضرية الضرورية. تلك هي خصوصيات الجزء الاكبر من الجمعيات والمنظمات غير الحكومية في العالم العربي (وكذلك النقابات ومنظمات أخرى مثل الاندية والوداديات). أحيانا تتمكن بعض من هذه المنظمات من الاستقلال بذاتها، بل من الدخول في علاقة صراعية مع السلطات العمومية. وهي مساندة من طرف حركات اجتماعية مهمة، أو تشرف عليها قوى سياسية مهمة مثل الاسلاميين. (يتبع) { هامش: (1) كتاب جماعي بعنوان: Organisations non Gouvernementales et gouvernance dans le monde arabe