نسيج مجتمعي متشابك ومهترئ، لم يعد يعكس الدينامية التي تحلى بها العمل الجمعوي في المغرب، في فترات الستينات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي،حيث كانت الجمعيات الثقافية هي البوابة والعتبة والإطار الطبيعي الذي يقود إلى العمل السياسي وما سواه، بل إن الكثير من الجمعيات الوطنية كانت في حقيقتها منتديات سياسية، وإن كانت بجناح ثقافي، منها وفيها انبثق وتأسس المشروع السياسي المغربي على قاعدة الغنى والتعدد. لقد مرت مياه كثيرة تحت الجسر كما يقال، وأغرق المجال الجمعوي بجمعيات «موديرن» كما كانت قد أغرقت في السابق بذلك اللون القميء الذي أسمته الذاكرة الجمعوية المغربية التقدمية ب«الجمعيات الصفراء» والتي كانت تستيقظ فجأة من سباتها بلكزة من وزارة الداخلية، كي تنال الدعم، وكي تنجز «الملاحم» في دور الشباب التي كانت بمثابة ملحقات تابعة لوزارة الداخلية. وتطور الأمر مع جمعيات السهول والوديان التي نالت في ذلك الوقت الكثير من التقريع ومن التهجم، قبل أن تأتي موضة جمعيات التنمية المستدامة والشراكات مع الفضاء المتوسطي. في المغرب الآن، طبقا للإحصاءات الرسمية، ما يقارب 40 ألف جمعية. إنه رقم كبير، يفرض أن يكون الأداء الجمعوي والفاعلية على قدر «أهل العزائم» من هذه الجمعيات. ماذا يراد اليوم بالعمل الجمعوي في المغرب؟ وهل يراد له أن يكون صيغة متقدمة لحركية ولمضمون اجتماعي متجدد؟ أم إن الدولة لا تكف عن مراقبة المجال الجمعوي، في ظل «الكوننة» أو إلزامية الكوننة على مستوى قيم حقوق الإنسان والديمقراطية.. عزيز لزرق: جمعيات بملاعق ذهبية في الفم من هذا المنظور، يرى الباحث والمترجم المغربي عزيز لزرق أن تنامي العمل الجمعوي في المغرب لا بد من النظر إليه نظرة مختلفة، بالنظر إلى السياق التاريخي المتجدد الذي تنشأ فيه هذه الحركة الجمعوية الجديدة في المغرب، وهي متغيرات تشير، في أغلبها، إلى الدور المضاد الذي تقوم به هذه الجمعيات في لبوسها الجديد، ومنه، على وجه الخصوص، لجم دور المعارضة في المغرب والقضاء على شوكة المعارضة، وبالتالي الوصول إلى خلق جمعيات أخرى ذات استراتيجية مختلفة، أحد مطامحها إفراغ العمل الجمعوي من بعده السياسي الذي كان لازمة في العمل الجمعوي في فترات الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضي. وحول أفق العمل الجمعوي في ظل هذا النسيج المهلهل وغير المتجانس، يعتقد عزيز لزرق أن الجمعيات في المغرب لم تعد، كما كانت، هي لسان المعارضة في المغرب، بل يمكن القول إن الميت الأكبر في هذه المعادلة الجديدة هو السؤال السياسي، وبالنظر إلى أن الجمعيات الجديدة اكتست بعدا مدنيا، فإن هذا البعد المدني قد لا يكون، على المستوى الموضوعي، تحولا إيجابيا، حتى وإن كانت انشغالات الجمعيات الجديدة تجنح نحو اهتمامات أخرى من قبيل محو الأمية أو البيئة أو التنمية، إلا أن الوعي الجمعوي الذي مصدره المواطن لم يعد يجنح صوب تكريس ثقافة في المجتمع، في حين نجد أن الدولة قد تحولت، مع مرور الوقت، إلى الآلية الوحيدة التي تؤطر الجماعات البشرية، وبالتالي فإنها قد نجحت في القضاء على علاقة الجمعيات بالسياسة. ويرى لرزق أن هذا الفصل، على المستوى الإجرائي، حتى وإن كان مطلوبا فإنه في الحالة المغربية يؤدي إلى تكريس المزيد من هيمنة الدولة على حساب الفرد. ولا يعدم الباحث عزيز لزرق الإشارة إلى المنجز الكمي والنوعي للجمعيات المغربية الجادة، لكنه يرى أن الخطاب حول العمل الجمعوي في المغرب قد تم تدويله أو «دولنته»، وبالتالي أصبحت الدولة هي نفسها حاملة لخطاب جمعوي متقدم بصرف النظر عن جدية هذا الخطاب ومصداقيته، نتيجة للإكراهات التي تمارسها المنظمات الدولية والمنتظم الدولي على البلدان العربية، ومنها المغرب، من أجل إقرار إصلاحات تمس قوننة المنظومة المحلية بما ينسجم والقانون الدولي العام. لكن هذه الظاهرة أفرزت، في الوقت نفسه، جمعيات يتزعمها مرتزقة وانتهازيون يتبنون خطابا متقدما ودوليا حول المجتمع المدني وحقوق الإنسان، لكنهم يتخذونه ذريعة من أجل الحصول على المساعدات الدولية مقابل برامج ومشاريع وهمية أو لا علاقة لها مطلقا باحتياجات المبالغة أو تأتي ضمن آخر القائمة في انتظارات مواطنين همهم الأساسي هو الصحة والطعام والطرق المعبدة. وأكد لزرق أن المجتمع المغربي قد عرف تحولات كبيرة، تلك التحولات التي تحتاج منا اليوم إلى دراسات سوسيولوجية ونفسية كبيرة، لم ينجز منها شيء، بينما تتكرس، في لازمة ظاهرة، ثقافة الجزاء، والجزاء الفردي على وجه الخصوص، في مقابل قيم التطوع التي كانت أحد محركات العمل الجمعوي في المغرب ومدامك قوته. ويرد تسيد هذه القيمة إلى منطق السوق الذي أصبح لغة مشتركة في جميع المجالات، الاجتماعي منها والسياسي والثقافي، بعد أن كانت مجرد لغة في دواليب الاقتصاد. وأشار إلى أن الكثير من الجمعيات الجديدة هي، في الأساس، جمعيات نخب مدعومة من طرف الطيف الفرانكفوني في البلاد، وأمكن لهذه الجمعيات أن تقدم خدمات على المستوى القريب، لكنها أبعد من أن تكون صاحبة برنامج مفصل ودقيق، لتبقى في النهاية جمعيات ولدت بملعقة من ذهب في الفم، لا منخرطين ولا قاعدة جماهيرية، أقرب إلى تجمعات صالونية ليس إلا. قيم جديدة مغايرة يرى الباحث في شؤون الجمعيات في المغرب فوزي بوخريص أن المغرب يشهد، بعد مرور نصف قرن على ظهور قانون الجمعيات، اعترافا رسميا متزايدا بالدور المهم الذي تقوم به الجمعيات في تحريك عجلة التنمية وفي بناء الديمقراطية. هذا الاعتراف يكشف عن ذاته من خلال الأدوار المختلفة ومتفاوتة الأهمية، التي بدأت الدولة توكلها إلى الجمعيات: على مستوى الواقع (أوراش التنمية في كل مكان بالبلاد...)، وعلى مستوى النصوص القانونية والتنظيمية (الميثاق الجماعي الجديد، ميثاق التربية والتكوين، مبادرة التنمية البشرية...الخ)، بعد أن كانت، إلى وقت غير بعيد، المنظمات غير الحكومية الدولية والمنظمات التابعة للأمم المتحدة وسفارات بعض دول الشمال وحدها المهتمة بالدعم التقني والمادي للجمعيات. ويؤكد بوخريص أن المغربي أضحى يفضل اليوم أكثر فأكثر المشاركة الاجتماعية، وخاصة المشاركة في العمل الجمعوي، ربما أكثر من المشاركة السياسية المباشرة، حيث بدأت الجمعيات تستقطب بشكل متزايد فعاليات في صفوفها. فقد كشف البحث الوطني حول القيم، الذي أشرفت عليه مجموعة من الباحثين المغاربة، أن نسبة الذين عبروا عن رغبتهم في الانخراط في الجمعيات تتراوح ما بين 32% و41%، في حين انحصرت هذه النسبة في 10% فقط في ما يخص الحزب السياسي و12% بالنسبة إلى النقابة. لكن بوخريص يسجل، بالمقابل، غياب استراتيجية واضحة ومندمجة لدى الدولة أو لدى باقي الفاعلين العموميين الآخرين للتعامل مع الجمعيات، أو لدى الجمعيات ذاتها للتعامل مع باقي شركائها... وترجع هذه المفارقة، في نظره -في جزء منها على الأقل- إلى النقص الملاحظ على مستوى فهم طبيعة هذه الظاهرة المتنامية، والتحولات التي تشهدها، والأدوار الجديدة التي بدأت تضطلع بها، خاصة خلال العقدين الأخيرين. وفي حديثه عن قيم العمل الجمعوي، يؤكد فوزي بوخريص أن الأساسي في القيم، باعتبارها مثلا عليا، هو أنها تقود وتوجه السلوك والفعل الاجتماعي، الفردي والجماعي.. وهي بذلك تخترق كل المؤسسات وكل الأنشطة الاجتماعية... هناك حضور قوي للقيم في الجمعيات، بل يمكن القول إن القيم تشكل أساس الفعل الجمعوي، قيم التعاون، التضامن، التطوع، التضحية، الاستقلالية، حرية (الاختيار، «التأسيس»، الانضمام والانسحاب)، اللاتمييز (تعتبر باطلة الجمعية المؤسسة على أساس تمييز معين)، احترام الاختلاف، إلخ.. إن تطور المجتمعات والتنظيمات الاجتماعية يفترض تطورا وتحولا على صعيد القيم أيضا. هكذا يلاحظ اليوم ميل الجمعيات إلى تبني قيم جديدة مغايرة للقيم التي تأسس عليها الفعل الجمعوي، والتي شكلت لزمن طويل هوية الجمعية، حيث يلاحظ اليوم نزوع الجمعيات نحو المهنية (قيم الفعالية في التدبير، الإدارة الرشيدة، الجودة في الخدمات إلخ)... لكن الملاحظ أن هناك صعوبة تعترض الفاعلين الجمعويين على مستوى التوفيق بين قيم الفعالية والمردودية والاحترافية والجودة في الخدمات، والتي تحيل على عالم المقاولة، وبين قيم التضامن والتطوع والتضحية والتعاون والاستقلالية، التي تمثل جوهر الفعل الجمعوي. إذ غالبا ما تتم التضحية بهذه القيم الأخيرة من أجل الأولى. ويذهب بوخريص إلى أن الجمعيات قد تشكل أداة هائلة للتغيير الاجتماعي أو، بعتبير طوكفيل، «أداة هائلة للفعل». هذه الأداة يمكن أن تصبح أكثر عطاء وأكثر قدرة على القيام بالمهام المنوطة بها (التعبئة، التأطير، الاقتراح، الضغط والمرافعة، بناء المشاريع وتدبيرها، الخ) إذا ما تمت تنميتها وتحسين أدائها،. وبكلمة واحدة تقوية قدراتها. الديموغرافيا الجمعوية في المغرب لا شك أن العمل الجمعوي شهد خلال السنوات الأخيرة تطورا ملحوظا على المستوى الكمي. ولعل من المظاهر التي تجسد فيها هذا التطور، مظهر الديمغرافيا الجمعوية . لكن رغم ذلك لا يمكننا أن نحدد بدقة عدد الجمعيات، كما لا يمكن توزيع عددها حسب مجالات الاهتمام، وحسب المجالات الجغرافية والحضرية، وذلك لصعوبة الحصول على الإحصاءات الرسمية. ففي المغرب ثمة مؤسسات تحتكر جميع المعلومات الخاصة بالجمعيات، خاصة وزارة الداخلية والأمانة العامة للحكومة ووزارة العدل.. خلال اللقاء الوطني الذي نظمته وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن لعرض استراتيجيتها حول دعم النسيج الجمعوي وتأهيل الجمعيات، قدمت رقم 38500 جمعية بالمغرب، وقامت بمحاولة لتحديد وتصنيف مجالات تدخلها، والتي حددتها في حوالي 13 مجال تدخل أهمها: التنمية والعمل الاجتماعي، حقوق الإنسان، تنمية البنيات التحتية، الأنشطة الثقافية والفنية، محاربة الأمية، الأنشطة التجارية، رعاية الأشخاص المعاقين، حماية البيئة، النهوض بأوضاع المرأة. وإذا كان أليكس دو طوكفيل قد اعتبر أن «تزايد عدد الجمعيات هو دليل على عافية المجتمع»، ففي مجتمعنا المغربي من الصعب الحسم في مسألة ما إذا كانت تعكس الديمغرافيا الجمعوية وما تشهده من تحولات، اتجاهات المجتمع وتعبر عن حاجاته الفعلية، أو على الأقل بعضا منها، وبالتالي الحسم في ما إذا كان تنامي عدد الجمعيات وتنوع مجالات الفعل (التنمية، حقوق الإنسان، الاهتمام بالفئات المحرومة: المرأة، المعاقين، الأطفال في وضعية صعبة...) صادرا بالضرورة عن وعي الفاعلين الجمعويين بحاجة المجتمع إلى التنمية والديمقراطية. لا شك أن التحولات السوسيوسياسية التي شهدها المجتمع المغربي منذ بداية الثمانينيات (سياسة التقويم الهيكلي وتقلص دور الدولة في المجال الاجتماعي، ثم توسع الهامش الديمقراطي.. ) ساهمت في «الانفجار الجمعوي» الذي ميز سنوات التسعينيات. لكن المؤكد أن سهولة الولوج إلى تمويل المشاريع كان حاسما في استقطاب النخب المحلية والوطنية للاشتغال في الحقل الجمعوي. ثم هل هناك توزيع متكافئ للديمغرافيا الجمعوية على مستوى التراب الوطني؟ ألا تظل الظاهرة الجمعوية حضرية بامتياز؟ ثم ألا ترون أن أغلب الجمعيات مركز في محور الرباط- البيضاء؟ ولا بد من الإشارة إلى أن كل حديث عن الأرقام يبقى نسبيا، إذا لم يأخذ بعين الاعتبار ما يحدث على مستوى الواقع، إذ إن العديد من الجمعيات لا توجد إلا على مستوى الورق، والكثير من الجمعيات ممثلة في شخص أو شخصين، ولا تحتكم إلى مقتضيات القانون في عملها، وأخرى تحولت إلى مكاتب للدراسة متخصصة في اصطياد التمويلات والممولين، باسم المهمشين، المقصيين والذين في وضعية هشاشة.