لا ترمي هذه الورقة إلى تناول تجربة 23 مارس في امتدادها الميداني السياسي، ولا تستهدف القيام بتقييم شامل للتجربة، فهناك بالتأكيد مساهمات ستتناول هذا الموضوع. يهمني بالأساس ملامسة امتدادات الحركة - ضمن حساسية اليسار الماركسي المغربي عامة - في الحقل الثقافي، وعلى وجه التحديد في حقل الممارسة المسرحية، الحقل الأبرز لنشاط اليسار السري المغربي في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. -هل كان التيار الماركسي في تجربة اليسار المغربي مجرد تيار سياسي، أم أنه كان يحمل بالفعل تصورا ثقافيا واضح المعالم والحدود؟ ما الدور الذي أناطه بالفعل الثقافي في مجمل الفعل الحركي الداعم لقوى التحرر؟ كيف تفاعل مع الحقل الثقافي المغربي (بالمعنى الواسع للثقافة) وكيف فهم مكوناته وطرائق اشتغاله؟ هل يمكن الارتكان اليوم إلى القول إن لدينا تراثا ينتمي إلى العائلة الماركسية في المجال الثقافي المغربي، إذا استثنينا الجهود المنهجية التي قام بها بعض المتشبعين بالفكر الماركسي، لإعادة قراءة التراث الثقافي المنحدر إلينا من العصور الكلاسيكية في ضوء إعمال المنهج المادي الجدلي، وإذا استثنينا الانتشار الذي عرفه هذا المنهج في الوسط الجامعي، وفي مجال العلوم الإنسانية بالتحديد؟ إذا كان هناك بالفعل تصور ثقافي متكامل، وضعت أسسه من خلال النقاشات، أو الوثائق، فما هي أهم سماته؟ وما مدى تأثيره الفعلي في الحقل الثقافي المغربي؟ وماذا تبقى منه اليوم؟ تفتح هذه الأسئلة سجلا من الصعب استيعابه في هذه العجالة. ونحن لا نرمي إلى تسطير أجوبة قاطعة عنها، وإنما نضعها في خلفية اشتغالنا، ونأمل أن تشكل عتبة لأعمال قادمة في الموضوع. أما الورقة فتنصرف إلى تناول جزء من الحقل الثقافي المغربي في الفترة التي ازدهر فيها المد اليساري، ونعني به الحقل المسرحي، في محاولة لدراسة العلاقة التي ربطته بهذا المد. (...) امتدادات الفكر اليساري الماركسي في المسرح المغربي: كان اليسار الماركسي المغربي، الناشئ أساسا في الفضاء الجامعي، يضم فعاليات ثقافية من آفاق مختلفة، كان هناك الشعراء، والقصاص، والتشكيليون والموسيقيون، وكان هناك بطبيعة الحال المسرحيون. وقد شكلت المجلات والمواقع التنظيمية المستقلة التي ظهرت منذ النصف الثاني من الستينيات، منابر للتعبير عن حساسية ثقافية جديدة، اضطلعت بها عناوين من قبيل أنفاس، وأقلام و آفاق، ثم في وقت لاحق الثقافة الجديدة وجسور والمقدمة والزمان المغربي... وعلى صعيد التنظيمات الثقافية، شكلت جمعيات مسرح الهواة والأندية السينمائية إطارات لانتظام الممارسة الثقافية المشبعة بالفكر اليساري. وشهدت السبعينيات إنشاء عدد من الجمعيات، أو إعادة توجيه جمعيات قائمة. ويمكن اعتبار الصراع الذي خاضه الهواة في العديد من المحطات ضد السلطة الحكومية الوصية، مؤشرا على مدى تغلغل الحساسية اليسارية في صفوف حركة الهواة. ففي سنة 1976 ناهضت الاتحادات المسرحية الإقليمية سعي الوزارة إلى إنشاء اتحاد وطني تحت اسم الجامعة الملكية لمسرح الهواة، جريا على العادة السائدة في التسميات لدى وزارة الشبيبة والرياضة لهذا النوع من الاتحادات. وانتهى الصراع بتسمية الاتحاد باسم الجامعة الوطنية لمسرح الهواة، التي لم يستمر استقلالها سوى سنة واحدة قبل أن تتمكن الوزارة الوصية من استرجاعها عبر عملية شبة انقلابية. ولم يقتصر تأثير اليسار فقط على المدن التي كانت تقليديا معروفة بتوجهها اليساري (مراكش والدار البيضاء وفاس)، بل امتد التأثير إلى جل المدن المغربية النشطة مسرحيا (وجدة، طنجة، آسفي، أگادير...). وصارت مناسبة المهرجان الوطني لمسرح الهواة فرصة سنوية للتعبير عن غضب ثقافي مفتوح، وتسجيل مواقف صارمة ضد الدولة و»ثقافتها الرجعية». تنامى هذا المد اليساري في الجسم المسرحي المغربي، بتضافر مع ما كان يعتمل في الساحة السياسية والثقافية المغربية منذ نهاية 59 وتزايد موجة القمع والتراجعات المتتالية عن أحلام وشعارات مرحلة الكفاح الوطني من أجل التحرير؛ بدأت تطرح مسألة شرعية الحكم، وقضية استكمال مهام التحرر. وتضافر الوضع الذي أفرزه إعلان حالة الاستثناء مع انتفاضة مارس 65 مع التأثيرات الدولية المتمثلة في تزايد العداء للإمبريالية - كما مثلته حركة الهيبي التي استقر جزء كبير من معتنقيها في ضواحي الصويرة منذ سنة 68، وكما مثلته الحركة الطلابية الفرنسية في الفترة نفسها - وما أعقبها من انتعاش آمال اليسار العالمي بنجاح الثورة الثقافية في الصين في 69 . وجدت هذه القضايا والمؤثرات صداها واضحا في النشاط المسرحي المغربي، من خلال التأثيرات الفنية التي أعقبت مجيء جوليان بيك وفرقة المسرح الحي الأمريكية إلى الصويرة مطرودة من مهرجان أفينيون سنة 68 (وهي القضية التي ما زالت لحد الآن تشكل وصمة عار في جبين تاريخ هذا المهرجان الشعبي الكبير) حيث أسهم احتكاكه ببعض العناصر المنتمية إلى فرقة الصديقي في إفراز فرقة ناس الغيوان ثم فرقة جيل جيلالة اللتين يشكل لونهما الغنائي مزيجا من المسرح والبحث في التصوف ونزعة الرفض التي هيمنت على جزء من الشبيبة المغربية تحت تأثير أفكار حركة الهيبي المعادية للإمبريالية. وفي الوقت الذي كانت تختمر فيه هذه التجربة الغنائية الجديدة التي انفردت بها الثقافة المغربية في الفضاء العربي، والتي تعد امتدادا للحركة المسرحية الهاوية والتجريبية بالأساس، تزايد الاهتمام بالمضامين الثورية والاحتجاجية في الأعمال المسرحية. ويمكننا أن نلاحظ أن الجسم المسرحي الذي كان في فترة الاستعمار يتكون من الحرفيين وطلبة المدارس الوطنية، أصبح الآن يتكون من طلبة الجامعة وبعض الموظفين وخاصة رجال التعليم، فضلا عن عدد من الحرفيين الذين ظلوا مخلصين للممارسة المسرحية الهاوية إلى حد بعيد. وهكذا كانت أصداء الأفكار التي تعتمل في الفضاء الجامعي سرعان ما تنتقل إلى الفضاء الجمعوي وتشكل مادة فكرية للأعمال المسرحية. وكان التداخل بين مختلف المؤثرات الفكرية التي أشرنا إليها أعلاه وراء تحديد ملامح لائحة مغلقة للموضوعات المسرحية التي دأب مسرح الهواة على معالجتها خلال ردح طويل من مرحلة السبعينيات والثمانينيات: موضوع القضية الفلسطينية، وموضوع التجارب التحررية في آسيا وأمريكا اللاتينية ومعاناتها مع الإمبريالية الرجعية (إحباط التجربة الديمقراطية التي أعطت الحكم لليسار في الشيلي، وثورة تشي غيفارا في بوليفيا، والحرب الفييتنامية...)، وموضوع القمع الرجعي في المغرب وتجارب الاعتقال... لكن ملامح التأثير اليساري في الحركة المسرحية المغربية لم تقف عند حد المضامين المعبر عنها في المسرحيات، بل تعدتها إلى بلورة خطاب شامل يحدد فهم طبيعة المسرح ووظيفته. وفي هذا الصدد كان هناك استحضار قوي لعلامات مسرحية دالة في اليسار المسرحي الغربي، مثل إروين بيسكاتور وبرتولد برخت وأوگوستو بوال، من حيث إن الأول وضع أسس مسرح سياسي، والثاني حدد للمسرح وظيفة الإسهام في الرفع من مستوى الوعي الشعبي على طريق الثورة الاشتراكية، والثالث بشر بمسرح للمقهورين. وكان السجال التنظيري الذي غطى قسطا من نهاية السبعينيات ومنتصف الثمانينيات يدور كله في فلك تحديد وعي يساري بالممارسة المسرحية كممارسة تقدمية ومناهضة بؤر الفكر الرجعي في المسرح المغربي، كما مثلتها في أعين اليساريين حينئذ جماعة المسرح الاحتفالي في صف الهواة ، ومجموع المسرح الاحترافي الذي كان ينعت بالمسرح الرسمي. وقد وجد اتجاه المناهضة لبؤر الرجعية تعبيره التنظيمي الأكثر حدة في حركة المقاطعة لتظاهرة المهرجان الوطني لمسرح الهواة الذي كانت تشرف على تنظيمه وزارة الشبيبة والرياضة. وقد تبلورت هذه الحركة في الدورة العشرين من المهرجان التي نظمت بمدينة مراكش سنة 79، وهي الدورة التي سميت بدورة البيانات، كناية عن عدد البيانات التي صدرت إبانها مناهضة أو مساندة. وقبل ذلك، كانت مدينة مراكش قد شهدت تنظيم عدة دورات من ملتقى الحمراء المسرحي بدءا من سنة 1977. وهو الملتقى الذي كانت تنظمه جمعية الضياء، التي سيتضح لاحقا ارتباطها الوثيق مع حركة 23 مارس. وكان الشروع في تنظيم هذا الملتقى مؤشرا على درجة الانفصال التي حرص اليسار المسرحي على تسجيلها، مع المنتجات الثقافية «الرسمية». وقد أعقب مهرجان 79 انتشار صيغة الملتقيات واللقاءات والأسابيع التي أصبح يضطلع بها الهواة أنفسهم بتعاون مع بعض الجماعات المحلية ذات المشارب اليسارية. وهكذا شهدت أگادير إنشاء ملتقاها المسرحي ابتداء من سنة 80 بمساندة من مجلسها الجماعي الاتحادي، وشهدت مكناس نشأة لقائها المسرحي انطلاقا من سنة 85 بدعم من مجلسها الجماعي الاتحادي. كما عرفت المحمدية ملتقاها المسرحي أيضا بدعم من مجلسها الجماعي الاتحادي. لقد صارت هذه التظاهرات تقدم نفسها كتظاهرات شعبية بديلة للتظاهرة الرسمية المتمثلة في مهرجان الشبيبة والرياضة الباهت. ويمكن أن نرى في توقيت هذا التصعيد الذي شهدته العلاقة بين مسرح الهواة والدولة (نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات) تزامنا دالا مع انطلاق النقاش في صفوف حركة اليسار الماركسي حول الشرعية، والذي سيجد تعبيره المباشر بدءا من سنة 83 بشكل صريح، عندما التحق عدد من الأطر الطلابية والحزبية لمنظمة العمل بالجمعيات المسرحية والأندية السينمائية في كل من مراكش والدار البيضاء والرباط. ونجم عن هذا الالتحاق الموجه، نشاط مسرحي واسع النطاق ومتنوع الرؤى والمضامين والمقاربات الفنية والجمالية. وقد توج هذا المجهود سنة 1984 بفوز مسرحية «المفتاح» التي قدمتها فرقة نادي خشبة الحي من مراكش، وكانت من تأطير فنانين مسرحيين لا يخفون انتماءهم إلى منظمة العمل، بالجائزة الكبرى لمهرجان مسرح الهواة في دورته الخامسة والعشرين المنعقدة بالرباط. ولم يكد النصف الثاني من الثمانينيات يبدأ حتى كان أوار معارك السبعينيات قد بدأ يخبو لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية. أما الأسباب الذاتية فهي انصراف كثير من الممارسين الذين لجأوا للعمل المسرحي في السبعينيات إلى الممارسة السياسية المباشرة بعد خروج منظمة العمل إلى الشرعية سنة 83 . وأما الأسباب الموضوعية فهي التغيرات العميقة التي لحقت النسيج الاجتماعي المغربي وتنظيماته الحزبية والجمعوية والأزمة الاقتصادية الخانقة، والسياسة المؤدية إلى وأد الحركة الطلابية وتنظيمها النقابي... غير أن هذا الوجه السلبي تزامن مع وجه إيجابي تمثل في انعقاد المناظرة الوطنية الأولى حول الثقافة المغربية سنة 86 . وقد شكلت هذه المناظرة لأول مرة مناسبة للحساسيات الثقافية اليسارية للتعبير عن نفسها من خلال محفل رسمي. فالمناظرة كانت بدعوة من وزارة الثقافة. وكانت إطارا لفتح النقاش مع الاتجاهات التقليدية حول حدود التوافق الممكنة. وشارك أعضاء وازنون من اتحاد كتاب المغرب الذي كان جبهة من جبهات اليسار بفعالية في إنجاح أشغال المناظرة. وأسفرت تلك الأشغال بخصوص المسرح عن تفعيل واحدة من أهم التوصيات التي ظلت تشغل المسرحيين منذ سنة 73 (سنة انعقاد أول ندوة رسمية حول المسرح المغربي على عهد وزارة المكي الناصري)، وهي إنشاء معهد عال للتكوين الأكاديمي في الميدان المسرحي قصد تأهيل المشتغلين فيه للانتقال نحو الاحترافية الحقة. ففتح المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي أبوابه في شتنبر 1986. وشكل ذلك منعطفا هاما في تاريخ المسرح المغربي، وهو منعطف الانتقال نحو الاهتمام بالمسرح كفن قائم بذاته له قواعده الحرفية وأسسه المهنية. وتوالت الأحداث المسرحية بسرعة فأدت في بداية التسعينيات إلى مبادرة ملكية مفاجئة تمثلت في استقبال بعض المسرحيين الذين عبروا عن امتعاضهم من الوضع المسرحي في برنامج تلفزي بث يوم 27 مارس 91 . ووعدهم بأنه سيسهر على اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالنهوض بالوضع المسرحي بالمغرب، معترفا بشكل غير مباشر أن الدولة قد أهملت هذا الجانب طويلا وأنه حان الوقت لتدارك هذا الإهمال. فانعقدت المناظرة الوطنية الأولى حول المسرح الاحترافي في 14 ماي 92 وكانت منطلقا لحركية جديدة أسفرت عن تأسيس النقابة الوطنية لمحترفي المسرح بإسهام واضح من قدماء الهواة الذين طبعوا مساعي المسرح الاحترافي نحو الهيكلة وتنظيم المهنة بخبرتهم التنظيمية وثقافتهم المسرحية والنضالية. * أستاذ باحث في المسرح والثقافات المحلية هامش: احتفظنا بهذه المقاطع من دراسة طويلة ومفيدة للأستاذ بونيت، نظرا لاشتراطات الملف.