فذهب جساس وقومه بقطعان إبلهم ليردوا ماء. فلما وصلوا إلى غدير، نفاهم قوم كليب عنه. فساروا بعيدا، حتى وصلوا إلي غدير آخر ينحدر من جبال اليمن، فمنعهم إياه، فمضوا حتى نزلوا واد ظنوا بماء، واتبّعهم كليب وحيه حتى نزلوا عليه، فمر عليه جساس ومعه ابن عم له، وقال: - طردت أهلنا عن المياه حتى كدت تقتلهم عطشا. فقال كليب: - ما منعناهم من ماء إلا ونحن له شاغلون. فقال له: - هذا كفعلك بناقة خالتي. فقال له: - أوقد ذكرتها؟ أما إني لو وجدتها في غير إبل مرة لاستحللت تلك الإبل بها. أتراك مانعي أن أذب عن حماي؟ فعطف عليه جساس بفرسه وطعنه برمح فأنفذ حضنه [الحضن مادون الإبط إلى الكشح]. فلما دنا منه الموت، وكان ساقطا على الأرض، قال كليب: - يا جساس، اسقني من الماء. فقال: - ماعلقت استسقاءك الماء منذ ولدتك أمك إلا ساعتك هذه. فالتفت كليب إلى ابن عم جساس، وقال له: -يا عمرو، أغثني بشربة ماء. فنزل إليه عمرو وأجهز عليه وجز رأسه، ثم ابتعد الرجلان بفرسيهما. ولما رأت أخت لجساس من بعيد أن أخاها مقبل على فرسه وقد بدت ركبتاه، قالت لأبيها مرة: - إن ذا لجساس آتى كاشفاً ركبتاه فقال: - والله ما خرجت ركبتاه إلا لأمر عظيم. فلما جاء جساس قال له: - ما وراءك يا بني؟ قال: -ورائي أني قد طعنت طعنة لتشغلن بها شيوخ وائل زمنا. فسأله: - الويل لأمك، أقتلت كليبا؟ فقال: -نعم. فقال: - إذن نسلمك بجريرتك، ونريق دمك في صلاح العشيرة والله لبئس ما فعلت! فرقت جماعتك وأطلت حربها وقتلت سيدها في شارف من الإبل، والله لا تجتمع وائل بعدها ولا يقوم لها عماد في العرب ولقد وددت أنك وإخوتك كنتم متم قبل هذا [مابي إلا أن تتشاءم بي أبناء وائل]. فأقبل قوم مرة عليه وقالوا: - لا تقل هذا ولا نفعل فيخذلوه وإياك. ولما جاء خبر مقتل كليب، اجتمعت نساء تغلب للمأتم، وكانت معهم جليلة زوجة كليب وأخت جساس، فقلن لأخت كليب: - رحلي جليلة من مأتمك، فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب. فقالت لها: - يا هذه اخرجي عن مأتمنا فأنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا. فخرجت جليلة وهي تجر أعطافها، فقالت لها أخت كليب: -رحلة المعتدي وفراق الشامت. ويل غداً لآل مرة من السكرة بعد السكرة. فبلغ قولها جليلة فقالت: -وكيف تشمت الحرة بهتك سترها وترقب وترها؟ ولما سارت جليلة إلى أبيها، عرف ما تحمله، فسألها: -ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: -ثكل العدد وحزن الأبد وفقد حليل وقتل أخ عن قليل وبين ذين غرس الأحقاد وتفتت الأكباد. فقال لها: - أو يكف ذلك كرم الصفح وإغلاء الديات؟ فقالت: -أُمنية مخدوع ورب الكعبة، فلن تدع لك تغلب دم ربها. فخرج مرة من الحي الذي أقام به طويلا مع تغلب، وخرج معه قومه، ثم أرسل إلى ابنه همام فرسه مع جارية، وأمره أن يلحق بقومه على وجه السرعة. وكان همام بن مرة ينادم المهلهل أخا كليب وعاقده ألا يكتمه شيئاً. وكانا جالسين لما ظهرت الخادمة، فعرفها همام ونهض من مجلسه ليرى ما تحمله من خبر، فعلم منها أن جساس قتل كليبا وأنه يلزمه أن يلحق بقومه. فأخذ همام الفرس وعاد إلى صاحبه الذي سأله: - ما شأن الجارية؟ وما بالك؟ فقال: - اشرب ودع عنك الباطل. قال: - وما ذاك؟ فقال: - زعمت أن جساساً قتل كليباً. فضحك المهلهل وقال: - همة أخيك أضعف من ذلك. فسكت ثم أقبلا على شرابهما، فجعل مهلهل يشرب شرب الآمن، وهمام يشرب شرف الخائف، ولم تلبث الخمر أن صرعت مهلهلا، فانسل همام وأتى قومه من بنى شيبان وقد قوضوا الخيام وجمعوا الخيل والنعم ورحلوا حتى نزلوا بما يقال له النهى. ورجع المهلهل إلى الحي سكران فرآهم يعقرون خيولهم ويكسرون رماحهم وسيوفهم فقال: - ويحكم ما الذي دهاكم؟ فلما أخبروه الخبر، قال: - لقد ذهبتم شر مذهب. أتعقرون خيولكم حين احتجتم إليها؟ وتكسرون سلاحكم حين افتقرتم إليه؟ فانتهوا عن ذلك، ورجع إلى النساء فنهاهن عن البكاء وقال: - استبقين للبكاء عيوناً تبكى إلى آخر الأبد. ولما أصبح، غدا إلى أخيه فدفنه، وقام على قبره يرثيه، وما زال المهلهل يبكي أخاه ويندبه ويرثيه بالأشعار وهو يجتزئ بالوعيد لبنى مرة حتى يئس قومه وقالوا: - إنه زير نساء، ولا تشغله الحرب. ولما علمت بنو مرة ما كان منه، همت بالرجوع إلى الحمى، وبلغ ذلك المهلهل فانتبه للحرب وشمر ذراعيه وجمع أطراف قومه، ثم جز شعره وقصر ثوبه وآلى على نفسه ألا يهتم بلهو ولا يشم طيباً ولا يشرب خمراً ولا يدهن بدهن حتى يقتل بكل قطرة دم من كليب رجلاً من بنى بكر بن وائل. وحث بنى تغلب على الأخذ بالثأر، فقال له أكابر قومه: - إننا نرى ألا تعجل بالحرب حتى نعذر إلى إخواننا فبالله ما تجدع بحرب قومك إلا أنفك ولا تقطع إلا كفك! فقال: - جدعه الله أنفاً وقطعها كفاً والله لا تحدثت نساء تغلب أني أكلت لكليب ثمناً ولا أخذت له دية. فقالوا: - لا بد أن تغض طرفك وتخفض جناحك لنا ولهم. فكره المهلهل أن يخالفهم فينفضوا من حوله فقال: -دونكم ما أردتم. وانطلق رهط من أشراف تغلب حتى أتوا مرة، فذكروه بقرابة الدم الذي تجمعهم، وقالوا له: - إنكم أتيتم أمراً عظيماً بقتلكم كليباً بناب من الإبل وقطعتم الرحم ونحن نكره العجلة عليكم دون الإعذار وإننا نعرض عليكم إحدى ثلاث، لكم فيها مخرج ولنا مرضاة. إما أن تدفعوا إلينا جساساً فنقتله بصاحبنا فلم يظلم من قتل قاتله، وإما أن تدفعوا إلينا هماماً فإنه ند لكليب، وإما أن تقيدنا من نفسك يا مرة فإن فيك رضا القوم. فسكت مرة طويلا قبل أن يقول: - أما جساس فغلام حديث السن ركب رأسه فهرب حين خاف، فوالله ما أدري أي البلاد انطوت عليه، وأما همام فأبو عشرة وأخو عشرة ولو دفعته إليكم لصيح بنوه في وجهي وقالوا: دفعت أبانا للقتل بجريرة غيره، وأما أنا فلا أتعجل الموت وهل تزيد الخيل على أن تجول جولة فأكون أول قتيل! لكن هل لكم في غير ذلك؟ هؤلاء بنيّ فدونكم أحدهم فاقتلوه وإن شئتم فلكم ألف ناقة تضمنها لكم بكر بن وائل. فغضبوا وقالوا: - إنا لم نأتك لترذل لنا بنيك ولا لتسومنا اللبن. ورجعوا فأخبروا المهلهل، فقال: - والله ما كان كليب بجزور نأكل له ثمناً. وصاروا يلحون في طلب جساس الذي اختفى في الصحراء، فأرسل له أبوه مرة: - الحق أخوالك في الشام. فامتنع جساس، فألح عليه أبوه فسيره سراً في خمسة نفر، وبلغ الخبر مهلهل، فانتدب ثلاثين رجلاً من شجعان تغلب، فساروا مجدين، فأدركوا جساساً فقاتلهم قتالا شديدا، ولم يبق من فرسان تغلب غير رجلين، فجرح جساس جرحاً شديداً مات منه، وقتل أصحابه فلم يسلم غير رجلين أيضاً، فعاد كل واحد من السالمين إلى أصحابه ليخبرهم. فلما سمع مرة بقتل ابنه جساس قال: - إنما يحزنني إن كان لم يقتل منهم أحداً. فقيل له: -إنه قتل بيده خمسة عشر رجلاً ما شركه أحد منا في قتلهم، ومن بينهم قائدهم. فقال: -ذلك مما يسكن قلبي عن جساس. ثم أرسل مرة إلى مهلهل: - إنك قد أدركت ثأرك وقتلت جساساً فاكفف عن الحرب، ودع اللجاج والإسراف، فهو أصلح للحيين وأنكأ لعدوهم. فلم يجب إلى ذلك. فقالوا له: - فما تريده؟ فأجاب: - أريد كليبا حيا. فاستمرت الحرب بين تغلب وبكر، أبناء وائل، طيلة أربعين عاما. وكانت المعارك تتعاقب موقعة بعد موقعة، ولم يكن يظهر لها في الأفق أي مخرج. وفي موقعة القصيبة، وكانت الدائرة على بكر، قتل همام بن مرة أخو جساس، فمر به المهلهل مقتولاً فقال له: -والله ما قتل بعد كليب قتيل أعز عليّ فقداً منك. هكذا قتل همام. وكان همام، قبل ذلك، قد اتخذ غلاما من تغلب ولدا له، دون أن يعلم منحدره. فلما التحق الجمعان في القصيبة، شعر همام بالعطش فعاد إلى المكان الذي ترك فيه قربة الماء، فأخلى سلاحه وجعل يشرب حين هاجمه الغلام وقتله ثم لحق بقومه تغلب. ثم إن بنى بكر اجتمعوا إلى الحارث بن عباد، وكان من أحلم أهل زمانه وأشدهم بأساً، وقالوا له: -قد فني قومك! فأرسل ابن أخيه إلى مهلهل وقال له: -قل له: إني قد اعتزلت قومي لأنهم ظلموك، وخليتك وإياهم، وقد أدركت ثأرك وقتلت قومك. فهمّ المهلهل بقتل الرسول، فقال له رجل من سادة قومه: - لا تفعل فوالله لئن قتلته ليقتلن به منكم كبش لا يسأل عن خاله من هو؟ وإياك أن تحقر البغي فإن عاقبته وخيمة وقد اعتزلنا عمه وأبوه وأهل بيته. فأبى مهلهل إلا قتله، فطعنه بالرمح فخر صريعا تحت أقدامه، ثم قال له: -بؤ بشسع نعل كليب! فلما بلغ قتله الحارث، قال: -نعم القتيل قتيل أصلح بين ابني وائل. فقيل له: - إنما قتله بشسع نعل كليب. فلم يصدقهم على ذلك، وبعث إلى مهلهل رسولا آخر: -إن كنت قتلت بجير بكليب، وانقطعت الحرب بينكم وبين إخوانكم فقد طابت نفسي بذلك. فأرسل إليه مهلهل: - إنما قتلته بشسع نعل كليب! فغضب الحارث ودعا بفرسه وكانت تسمى النعامة فجز ناصيتها وهلب ذنبها، ثم ارتحل مع قومه لمواجهة المهلهل، حتى نزل على ابن همام، فقال له: -إن القوم مستقلون قومك وذلك زادهم جرأة عليكم فقاتلهم بالنساء. فسأله بن همام: -وكيف قتال النساء؟ فقال: -قلد كل امرأة إداوة من ماء وأعطها هراوة، واجعل جمعهن من ورائكم، فإن ذلكم يزيدكم اجتهاداً، وعلموا قومكم بعلامات يعرفنها، فإذا مرت امرأة على صريع منكم عرفته بعلامته فسقته من الماء ونعشته، وإذا مرت على رجل من غيركم ضربته بالهراوة فقتلته وأتت عليه. فأطاعوه، وحلقت بنو بكر يومئذ رؤوسها استبسالاً للموت، وجعلوا ذلك علامة بينهم وبين نسائهم. ثم اقتتل الفرسان قتالا شديداً، وانهزمت بنو تغلب ولحقت بالظعن بقية يومها وليلتها فطاردتهم بكر، وكان الحارث يبحث بين الأسرى عن المهلهل وهو لا يعرفه، قوقف أمامه وقال له: - دلني على المهلهل. قال المهلهل: - ولي دمي؟ فقال: -ولك دمك. قال: -ولى ذمتك وذمة أبيك؟ قال: -نعم، ذلك لك. قال المهلهل: -فأنا مهلهل خدعتك عن نفسي والحرب خدعة. فقال: - لك ذلك، لكن كافئني بما صنعت لك بعد جرمك ودلني على كفء لابن أخي. فقال: - لا أعلمه إلا امرأ القيس بن أبان. فلما حصل على أوصافه، قصد الحارث امرئ القيس بن أبان فشد عليه فقتله. فلما رجع المهلهل بعد الأسر إلى أهله، جعلت المرأة تسأل عن زوجها وابنها وأخيها، والغلام عن أبيه وأخيه، ثم إن مهلهلاً قال لقومه: - لقد هزمونا، لكن الحرب سجال، وعليهم ستدور الدائرة. فلما رأى ما كان من حال قومه، قال: - قد رأيت أن تبقوا على قومكم فإنهم يحبون صلاحكم وقد أتت على حربكم أربعون سنة وما لمتكم على ما كان من طلبكم، فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت تمل من طولها، فكيف وقد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد ورب نائحة لا تزال تصرخ في النواحي ودموع لا ترفأ وأجساد لا تدفن وسيوف مشهورة ورماح مشرعة وإن القوم سيرجعون إليكم غداً بمودتهم ومواصلتهم وتتعطف الأرحام حتى تتواصوا أما أنا فما تطيب نفسي أن أقيم فيكم ولا أستطيع أن أنظر إلى قاتل كليب وأخاف أن أحملكم على الاستئصال وأنا سائر عنكم إلى اليمن. ثم خرج المهلهل حتى لحق بأرض اليمن. أما جموع تغلب التي ملت الحرب فصالحوا بكراً، ورجعوا إلى بلادهم وتركوا الفتنة ولم يحضر المهلهل صلحهم ثم اشتاق هذا الأخير إلى قومه فرجع نحوهم حتى قرب من قبر أخيه كليب، فلما رآه خنقته العبرة، فعاد للحديث عن الحرب، لا يهم بصلح ولا يشرب خمراً ولا يلهو بلهو ولا يحل لأمته ولا يغتسل بماء حتى كان جليسه يتأذى منه من رائحته. وفي ليلة، وخلافا للصلح الذي عقدته تغلب مع بكر، أغار المهلهل غارة على بنى بكر فظفر بواحد منهم بسمى عوف فأسره وأحسن إساره. فاجتمع شبان من الحي، وشربوا عند المهلهل في بيته الذي أفرد له، فلما أخذ فيهم الشراب تغنى مهلهل بشعر ناح فيه على أخيه. فلما سمع عوف ذلك غاظه، فقال: - لا جرم إن الله على نذراً إن شرب عندي قطرة ماء ولا خمر حتى يورد الخضير [ناقته]. وكان الخضير يرعى بعيدا ولا يشرب شيئاً قبل سبعة أيام. ففهم القوم ما يرمي إليه عوف من قوله، وقالوا له: - بئس ما حلفت! فبعثوا الخيول في طلب البعير فأتوا به بعد ثلاثة أيام، وكان المهلهل مات عطشاً.