ثم أضاف الكاهن: - ومن كان منكم ذا حاجة ووطر وسياسة ونظر، وصبر على أزمات الدهر، فليلْحَقْ ببطن مَرً. ومن كان يريد الراسيات في الرحل، المطعمات في المَحْل، فليلحق بيثرب ذات النخل. ومن كان يريد منكم الخمر والخمير، والديباج والحرير، والأمر والتدبير، فليلحق ببصرى وحفير، وهي أرض الشام. ومن كان منكم يريد الثياب الرقاق والخيول العتاق، والكنوز والأرزاق، فليلحق بالعراق. ثم خرج عمرو بن عامر وولده من مأرب، وخرج منها كل من كان من الأزد يريدون أرضا تجمعهم يقيمون بها، والله أعلم بعددهم، وعدد خيولهم وجمالهم وثيرانهم وأبقارهم ودواجنهم. وفي الطريق كانوا يستولون على المياه ويغيرون على القبائل. وكانوا، في هذه الأثناء، يرسلون المستطلعين ليأتوهم بأخبار إخوانهم. فأرسلوا واحدا إلى همذان فأخبرهم بعدم كفاية الماء لإرواء ماشيتهم، وآخر إلى عمير فأخبرهم بأنها تفتقر إلى المرعي والماء لتجمعهم كلهم. وسار عمرو وقومه حتى إذا كان بين الأزل وربزة، فأقام هنا فترة ليريح الخيول والماشية، ثم تسلقوا الجبال ونزلوا عند تهامة وقت المغيب، وكانت خامدة. فأغاروا عليها وظلوا فيها ردحا من الزمن. ولما لم ترقهم الأجواء، قرروا عدم البقاء. ثم ساروا إلى الحجاز، وانتشروا من هناك في أماكن مختلفة، حسب اختيار كل واحد منهم. وكما قال لهم أخ عمرو الكاهن، البعض توجه إلى السراة، بينما فضل البعض مكة ونواحيها، فيما توجه بعضهم إلى الشام أو اليونان. فلما كانوا على مرأى مكة، بعث عمرو بن عامر إلى سكانها رسولا قال لهم: - يا أهل هذه المدينة، لقد تركنا ديارنا. ومن حينها لم تزل كل القبائل تكرم وفادتنا حتى نرسل مستطلعينا ليعثروا على أرض نقيم عليها. فاجعلوا لنا مكانا بينكم حتى يأتي المستطلعون الذين أرسلناهم نحو الشمال والشرق. فإذا وجدنا مكانا يليق بنا، تركناكم. ونحن نتمنى عليكم أن تكرمونا. لكن رجال «جرهم» رفضت استضافتهم، مقللين من من قدر الوافدين عليهم، وقالوا: - لا نريدكم بيننا، ولن نقاسمكم المراعي والمشارب. إنصرفوا عنا لحال سبيلكم. فأخبرهم عمرو بن عامر أنهم، هو وقومه، مضطرين للإقامة بينهم إلى أن يعود المستطلعون. فإن استقبلوه برضاهم، فسيترجل عن حصانه ويشكرهم ويقاسم المرعى والمشرب. أما إن رفضوا، فسيقيم عندهم ولو كرهوا، وعوض أن يقاسمهم الماء والمرعى لن يشربوا إلا المياه الموحلة. وأنهم إن حاربوه سيحاربهم، وسيسبي نساءهم ويقتل رجالهم ويغنم سلاحهم ولن يسمح للناجين أبدا بالعودة إلى مكة. فأصرت «جرهم» على الرفض، وبدأت تعد العدة للقتال. آنذاك، خرج مضاض بن عمرو عن قومه، قائلا: - لقد حذرتكم.. ثم اختلف أبناء إسماعيل مع جرهم، واعتزلوهم. فبدأت الحرب بين جرهم واليمنيين لمدة ثلاثة أيام، لتنهزم جرهم، ويبدأ عمرو بن عامر في تنفيذ تهديده، فقتل الرجال وغنم السلاح وسبى النساء، وجعل خزاعة تستقر في مكة، ثم تابع طريقه إلى الشمال. فجاء أبناء إسماعيل إلى خزاعة وطلبوا السماح لهم بأن يقيموا بجوارهم، فاستجابت خزاعة لطلبهم، وأقاموا في أطراف المدينة. أما مضاض، فرحل مع قومه عن مكة قبل أن تبدأ الحرب بين جرهم وأهل اليمن، وأقام بوادي بنواحي اليمن. ولما علم أن خزاعة استقبلت أبناء إسماعيل، طلب بدوره أن يقبلوه بينهم، نظرا لشوقه العارم إلى مكة، وذكرهم أنه كان يعارض الحرب وأنه حاول أن يجنب قومه تلك المواجهة. لكن خزاعة رفضت، ومنعته من دخول العكبة قائلة: - من يدخل مكة منكم، فقد أهدر دمه. وبعدما انتصرت خراعة واستقرت بمكة، توجه الأوس والخزرج إلى يثرب وأغاروا عليها، ثم استقروا بها. وحسب ما يرويه أهل اليمن، كان عمرو بن عامر وقومه قد حولوا جميع القبائل العربية، قبيلة قبيلة، إلى لقمة سائغة، فأغاروا عليها، ونهبوا خيراتها. وبينما كان عمرو بن عامر يواصل طريقه نحو الشمال، مصحوبا برجال قبيلته ورجال من الأزد، وتحديدا من فخذة غسان، تركهم ليتوجه إلى سورية، فاستقر به المقام هناك، منحه امبراطور بيزنطة السلطة على جميع عرب الشام. وكان الحارث، ابن عمرو، هو أول من جلس على عرش بلاد الشام، ومؤسس مملكة الغساسنة التي تمتد إلى حدود الأردن، حيث أقام العديد من المباني في أطراف اليرموك والجولان وضواحي دمشق والنواحي. وكان بعض الأزد، من بني عمومة الغساسنة، قد توجه العراق واستقر بها، فجعلهم ملك الفرس سادة على العرب هناك. ++++ بعدما احتل عمرو بن عامر مكة، سقط عمرو بن عامر، أب خزاعة، مريضا، فأشير عليه: - يوجد بالبلقاء بأرض سورية نبع إذا استحممت بمائه تبرأ. فتوجه إلى ذلك النبع، فاغتسل من مائه وشفي. وكان أهل هذه البلاد يعبدون الأصنام، فسألهم: - ما نفع هذه التماثيل؟ فأجابوه: - نعبدها لتمطر السماء ولنهزم أعداءنا. فطلب منهم أن يعطوه بعض التماثيل التي حملها معه ووضعها حول الكعبة. وشيئا فشيئا، بدأت كل عائلة مكية تصنع صنمها الخاص بها لتعبده. وعندما يعقد أحدهم العزم على السفر، كان قبل أن يغادر منزله، يطلب بركته. ولما يعود يعرج على الصنم، أولا، قبل أن يذهب إلى منزله.