.. وجاء اليوم الذي أخرجته أمه من المغارة نهارا، فلما رأى الشمس بازغة وأكثر إشراقا من القمر، قال: - هذا ربي. فلما أفلت الشمس، قال: - «يا قوم إني بريء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين». مرت بضع سنوات، فحملته أمه إلى المنزل ليلتحق بإخوته. كان أبوه صانع ثماثيل، وكان يكلف أبناءه ببيعها. لكن ابراهيم، عكس إخوته، كان يعرضها أمام المارين قائلا: - من يشتري ما لا ينفع ولا يضر؟ ولم يكن يشتري منه أحد شيئا، فكان يحمل التماثيل إلى جانب النهر ويضرب رأسها قائلا: - اشربي ما دام لا أحد يريدك. كان يفعل ذلك لأنه كان يكره عبادة الأوثان، ويرثي لقومه لما هم عليه من ضلال، ولما هم غارقون فيه من ظلام الجهل. وحينما يراه قومه يقوم في حق الثماثيل، كانوا يتهامسون إلى أن شاع الخبر بين قومه وناس المدينة، فبدأوا ينتقدون أفعاله، لكنه كان يواجههم بقوله: - أتعترضون على ما أفعل والله هداني إلى سبيله؟ ولما انتهى إلى أبيه الخبر عاتبه، فخاطبه ابراهيم: - يا أبتي، لماذا تعبدون ما لا يسمع ولا يرى ولاينجيكم من أي شيء؟ لكن أباه رفض أن يؤمن مصرا على البقاء على دينه. فما كان من ابراهيم إلا أن أعلن أمام القوم كفره بآلهتهم، وأنه يؤمن بالله الواحد القهار. فبدأ الناس يتحدثون بالأمر فشاع بينهم إلى أن وصل إلى سمع النمرود، فدعاه إليه، وقال: - من هو ربك القاهر الذي تدعونا إلى عبادته؟ ولماذا تجعله فوق كل الآلهة؟ فأجاب ابراهيم: - ربي هو الذي يحيي و يميت. فقال النمرود: - أنا أحيي وأميت. فسأله ابراهيم: - كيف ذلك؟ - إذا أردت، آمر برجلين حكم عليهما بالموت، فأطلق الأول وأقتل الثاني. - إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتي بها من المغرب. فأحس النمرود بالعجز، وشحب وجهه من ذلك. كان من عادة قوم ابراهيم الاحتفال بأحد الأعياد، حيث كانوا يخرجون من ديارهم ويجتمعون خلف أسوار المدينة، وكانوا قبل أن يعودوا إلى الديار، يزورون آلهتهم في المعبد ليسجدوا أمامها. فلما حل وقت العيد، طلب آزر من ابنه أن يرافقهم قائلا: - يا بني، رافقنا، ستروقك ديانتنا. فخرج ابراهيم مع قومه. وفي الطريق، سقط على الأرض وقال: - إني سقيم. قدمي تؤلمني. لما رآه القوم يتلوى من شدة الألم، ابتعدوا عنه وواصلوا طريقهم. ولما تواروا عن النظر، نهض ابراهيم وذهب إلى معبد الآلهة. كانوا الناس قد أعدوا الطعام ووضعوه بين يدي آلهتم حتى إذا عادوا من الاحتفال وجدوها قد باركته فيأكلونه. ولما رآي ابراهيم الأصنام جامدة ولا تتحرك، خاطبها قائلا: كيف؟ ألا تأكلين؟ فلما لم يتلق جوابا، قال: لماذا لا تردين؟ ثم تناول فأسا وشرع في تحطيم الأصنام إلى أن دمرها عن آخرها باستثناء أكبرها الذي تركه سالما وعلق الفأس في عنقه ثم انصرف. لما انتهى الاحتفال، توجه القوم إلى معبد آلهتهم، فهالهم ما اكتشفوا، وبدأوا يتساءلون: من فعل هذا بآلهتنا إلا أن يكون يريد بنا ضرا؟ فقال أحدهم: قد سمعنا فتى يذكرهم يقال له ابراهيم. وصل الخبر إلى النمرود وانتشر في كل جهات مملكته. ولأنه كان يريد أن يقيم الحجة على ابراهيم، طلب مثوله بين يديه أمام حشد من الناس ليكونوا شهودا عليه، ثم خاطبه: - يا ابراهيم، أأنت من فعل ذلك بآلهتنا؟ فأجاب ابراهيم؟ - لا لم أفعل. بل إنه كبيرهم الذي فعل. إنه لا يقبل أن يساوى في العبادة بالآلهة الأخرى. ف «اسألوهم إن كانوا ينطقون». ولما تبين لهم أن الأصنام لا تنطق وليس بإمكانها أن تحطم، قالوا: - لكنها لا تنطق. فأجابهم ابراهيم: - لماذا، إذن، تعبدونها من دون الله؟ أفلا تعقلون؟ فلما أعوزتهم الحجة، استشاطوا غضبا، وقالوا: - احرقوه، انصروا آلهتكم! فكان حكم النمرود وقومه هو إحراق ابراهيم، فحبسوه في مكان حصين. ثم أمر النمرود بجمع الحطب لصنع محرقة، فانخرط القوم أجمعين، نساء ورجالا، في العمل، حتى تمكنوا، في ظرف شهر، من جمع ركام من الحطب بعضه فوق بعض، ثم أشعلوا النار من كل جانب فاضطرمت وتأججت حتى أحرقت الطير الذي كان يحوم فوقها. ثم ذهبوا ليأتوا بابراهيم، فقيّدوه بالحبال، ودفعوه إلى تل مرتفع ثم وضعوه مقيدا، وتهيأوا لإطلاقه إلى اللهب. آنذاك، ضجت السموات والأرض والملائكة والجبال والخلق أجمعين، وتضرعوا إلى الله: - ربنا، ليس في الأرض إنسان يعبدك فيها إلا ابراهيم. وها هم يستعدون لإحراقه، فاسمح لنا بنجدته. فأجابهم: - إذا دعاكم إبراهيم لنجدته، أو إذا طلب من أحدكم ذلك، فأنا أسمح لكم بالتدخل. أما إذا لم يتضرع لسواي، فلا تتدخلوا بيني وبينه. فجاء ملاك الماء إلى ابراهيم وقال له: - إذا أردت، يمكنني إطفاء النار، لأن خزائن الماء والمطر بين يدي. ثم أتاه حارس الريح وقال له: - إذا أردت، سأجعل النار تطير في الهواء. فقال ابراهيم: - لا أحتاج إلى أي أحد منكم. ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: - لا اله الا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك، لا شريك لك». فلما ألقاه قومه في النار، لقيه جبريل وقال له: -يا ابراهيم ألك حاجة؟ فقال ابراهيم: - أما اليك، فلا. قال: - إذن، توجه إلى ربك. قال: - هو أعلم بحالي، وفوضته أمري. فجاء أمر الله فوريّا: -«يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم». فخمدت النار من حوله، وخمدت معها كل نيران الأرض، ظانة أنها معنية أيضا بهذا الأمر الإلهي. ثم كلف الله ملك الظل بالجلوس قرب ابراهيم ومؤانسته، ثم حمل إليه جبريل قميصا من حرير وأوحى إليه كلام ربه: - قال لك ربك: « سأنجي من النار كل من أرضى عنهم». ثم ألبس ابراهيم قميص الحزير، وقال: - لو لم يقل ربك «كوني بردا وسلاما على ابراهيم» لأهلكك البرد.