ما فتئ المسيحيون يركنون إلى العاطفة و يشهرون علمها أمام كل انتقاد منطقي و عقلي، فهو إضافة إلى أنه تغيير للدعوى في باب المناظرة فكان إفحاما للخصم كما هو معروف في محله،فهو تهريب لدينهم من براثن و مخالب العقل و العلم. مع أن العاطفة ترجع قيمتها العلمية إلى قيمة التعصب و لا تنهض حجة بذاتها ضد العقل و المنطق. و ما فعله الأستاذ يوسف محدوب في مقاله:"حكمة الله و خلاصه في جهالة الكرازة!" منضو تحت هذا، فهو يتبع عقليات الغرب الفاسدة فيفضل طاعة القلب على طاعة العقل، و يورد نصوصا لا علاقة لها بمحل النزاع. وقد دأب القوم على هذا النهج في كل وقت و حين إذ يركزون الكلام على الأخلاق و يخاطبون الشعور دون الدخول في مسائل العلم، لذلك يقول اسبنسر المسيحيH.SPENCER كما في "قصة الفلسفة الحديثة" ص 478:"خير للدين أن يترك هذا العقل العنيد الذي لا يطمئن إلى غير الحجة العقلية، خير له أن يترك هذ العقل و أن يناشد العقيدة من الإنسان لأن من طبعها أن لا تلزم بالحجة المنطقية..و قل للدين أن يكف عن مناشدة العقل لأنه لا يستقيم مع نهجه في التفكير "اه. و قال جورج سنتيانا كما في "قصة الفلسفة الحديثة" ص: 608:"إن عقيدة الإنسان قد تكون خرافة، و لكن هذه الخرافة نفسها خير ما دامت الحياة تصلح بها. وصلاح الحياة خير من استقامة المنطق، أي أن الخرافة أفضل لنا من القياس المنطقي الصحيح "اه . و هو ما درج عليه فلاسفة الغرب المسيحيين كما نوهنا إليه سلفا في مقال "النصرانية و العقل"، و لمزيد بيان و توضيح لهذه النقطة بالذات نستعين على ذلك بنصوص لفلاسفة غلبت مسيحيتهم على عقولهم، فكانوا أدباء أكثر منهم علماء1 #sdfootnote1sym سعوا لتنزيل مرتبة العقل في الوصول إلى الحقيقة و رفعوا القلب و العاطفة مدافعة عن دينهم تجاه ملاحدتهم المتمسكين بالعقل2 #sdfootnote2sym .و هذا خلاف ما نرى عليه المسلمين خاصتهم و عامتهم إذ كانوا يعتنقون الدين بصميم عقولهم قبل أن يعتنقوه في صميم قلوبهم فذلك أنسب بهم و أثبت و أسلم من طرو الزيغ عليه ، إذ ليس من المعقول أن يكون الدين مبنيا على العاطفة دون العقل، ولم يكن قول علماء الإسلام أن مدار التكليف الشرعي هو العقل من العبث.3 #sdfootnote3sym لقد كان إثر الصيحة المدوية التي هتف بها فرانسيس باكونF.BACON أن قامت أوربا بإعادة المجد للعقل و المنطق واطراح أساليب التفكير البالية. فاعتنقوا العقل وحده و جعلوه هاديهم و موصلهم إلى الحقيقة.فسمي ذلك العصر بعصر التنوير الذي يمثله فولتير VOLTAIRE و أقرانه. فاستتبع هذا التمسك بالعقل و المنطق اعتناق الإلحاد و الكفر و النزعة المادية في الغرب المسيحي، و أخذت العقيدة المسيحية تتقوض و تنهار؛ و هي نتيجة طبيعية لما قد عرفت قبل من أن هذا الدين في صراع دائم مع كل ما هو عقلي أو منطقي، فكان الإنسان أمام سبيلين: إما دين خرافي جعله في قلبه كما قال فرح أنطون في "باب الردود" من "فلسفة ابن رشد":"و أما الدين فيجب أن يوضع في دائرة القلب، لأن قواعده مبنية على التسليم بما ورد في الكتب المقدسة من غير تمحيص في أصولها" و إما إلحاد غلب على التنويريين ما دام أن العقل ينتهي إلى تأييد المذهب المادي4 #sdfootnote4sym . و سنقتصر في مقالنا هذا على اثنين من عظماء فلاسفة الغرب كان ازدراء العقل في كتاباتهما و تغليب الشعور و العاطفة عليه من دوافع الإبقاء على الدين المسيحي و إنقاذه مما وقع له في عصر التنوير : أولهما:جون جاك روسو Jean- Jaques ROUSSEAU( 1712-1778): لقد نادى هذا الفيلسوف بأن العقل ليس هو الحكم الذي ينتهي بقوله كل زعم و ادعاء. إذ ما أكثر النتائج المنطقية التي ينتهي إليها العقل، و التي نميل بشعورنا و فطرتنا5 #sdfootnote5sym إلى رفضها، و ليس هناك ما يبرر أن أنبذ ما عليه شعوري و فطرتي لأستمع إلى إملاء العقل المنطقي وحده. هذا الفيلسوف الذي شذ في عصر التنوير عن التيار العام، إذ كتب مقالة إلى أكاديمية"ديجون"سنة1749 بعنوان:"هل أدى تقدم العلوم و الفنون إلى إفساد الأخلاق أم إلى إصلاحها؟" لم تخف هذه المقالة لمحاباته لدينه و طمس نور عقله، و أنقل منها كلاما أدلل به على ما زعمته: "الثقافة أقرب منها إلى الشر منها إلى الخير، فحيثما تنشأ الفلسفة تهبط الأخلاق"،"و قد شاع بين الفلاسفة أنفسهم أنه منذ ظهر رجال العلم اختفى أصحاب الشرف"،" وإنني لأصرح في يقين أن التفكير مناهض لطبيعة الإنسان، وأن الرجل المفكر حيوان سافل"،"إنه لخير للناس ألف مرة أن يطرحوا هذا العقل و أن يعمدوا أولا إلى رياضة القلب و المحبة"،" إن التعليم لا يخرج من الإنسان نبيلا فاضلا و لكنه ينمي ذكاه فقط، والذكاء أداة للشر في أغلب الأحيان، فأجدر بنا أن يعتمد على الغريزة و الشعور لأنهما أولى بالثقة من العقل"6 #sdfootnote6sym و لقد شرح روسو في قصته الشهيرة"Julie ou la Nouvelle Héloïse" رأيه في تفوق الشعور على العقل شرحا مفصلا. و هكذا حمل روسو حملته على العقل، ومجد الشعور و رفع من شأنه. وأصبحت سيدات الطبقة الراقية مباهيات برقة شعورهن و برفاهية أحاسيسهن7 #sdfootnote7sym .بعد أن كان الفخر كل الفخر بالعقل و التفكير و نتج عن ذلك أن تحولت وجهة الأدب إلى العاطفة بعد أن كان مدارها على الفكر كما استيقظ الشعور الديني و العاطفة الدينية و اشتدت الحماسة للدين المسيحي القائل بأن "الدين فوق العقل". الآخر: إيمانويل كانط Emmanuel Kant(1724-1804) قرأ كانط ما كتبه روسو فانصرف إليه بكل قلبه، و أعجب بكتابه "Emile ou De l'éducation".لقد وجد كانط في روسو رجلا يشق لنفسه طريقا يفلت به من الإلحاد-وقد عرفت سبب ذلك- الذي خيم على النفوس . فذهب إلى تفضيل الشعور على العقل،فيما يتصل بما هو فوق الحس من الموضوعات. و لقد عمد كانط إلى اتباع أثر روسو فتصدى بدوره لهذه المهمة. أراد أن ينقذ دينه المسيحي من العقل فقام ب"نقد العقل الخالص laCritique de la raison pure". فقام بانتقاد الأدلة النظرية المنصوبة لإثبات وجود الله، وبنى الإيمان به على دليل الأخلاق، فأوشك ألا يعترف بوجود الله لولا ضرورة الحاجة إليه لصيانة الأخلاق،و رأى أجدر وصف لمن ينكر وجود الله أن يقول :"إنه كافر بالأخلاق"8 #sdfootnote8sym . قد اختار كانط للرد على موجة الإلحاد دليلا سماه دليل العقل العملي أي الوجدان أو دليل الأخلاق، إذ نفى العلم بوجود الله و بنى الإيمان به على أسباب أخلاقية وقال :"إن الإيمان كثيرا ما يكون أقوى من العلم" وهي قالة تثبت تأثر فلسفته بالنصرانية كما وقع في فلسفة القرون الوسطى، وقد كان ديكارت قد صححها و أعاد إلى العقل حقوقه و كرامته. إن الفيلسوف كانط بعد أن حاول ضعضعة مكان الأدلة العقلية المثبتة لوجود الله، عاد فأراد أن يحسن إلى الله و إلى الأخلاق معا. فناط أحدهما بالآخر و جعل الإيمان بالله ضروريا للإيمان بالأخلاق فشدد على الملحد بإخراجه عن حدود الأخلاق، واعتبر إيمانه بالأخلاق نفاقا و جعل الكافر بالله كافرا بالأخلاق كما مر. و أنذر العالم بانهيار الأخلاق و الفضائل إن لم يعترف بوجود الله. فيظهر من خلال هذا أن الإيمان بالله واعتقاد وجوده بالقلب دون العقل على معنى ميل القلب إليه من دون تصديق العقل و العلم إياه في إيمانه واعتقاده. تلك العقلية السائدة في الدين المسيحي التي كانت سببا في تبني الأوساط الثقافية الحاضرة كون الدين حاجة وجدانية و ضرورة اجتماعية و ليست بحقيقة ملجئة للعقول إلى قبولها. لقد كان هذا الفيلسوفان يريدان في سبيل إنقاذ دينهم المتعارض مع العقل فقاما بالاستهانة بالعقل. ولم يكونا جزما عند إهمالهما له و تمسكهما بالعاطفة لمساعدة الدين غافلين عن أن العقل أقوى ناصر و أعدل حاكم مسموع القول حتى عند الملاحدة المتمسكين بالعقل ضد الدين. وأن العاطفة أشبه شيء بالمحاباة دون الدليل القائد إلى الحقيقة المحايدة. و إذا كان في فطرة الإنسان حب الدين و البحث عن معبود له، فهو لا يستطيع اختيار ما يستحق العبادة إلا بإعمال عقله كما فعل سيدنا إبراهيم عليه السلام، قال سبحانه:" فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال: هذا ربي فلما أفل قال: لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال : هذا ربي فلما أفل قال:لئن لم يهدني ربي لأكونن من الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال :هذا ربي هذا أكبر قال: يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين" الأنعام الآية77-80.و قد فعل عليه الصلاة و السلام كل هذا متمسكا بعقله و هداية ربه الذي يبحث عنه. غير ممكن أن لا يعرف مثل روسو و كانط ذوي العقول الكبيرة أن العقل أقوى في التمييز و أعدل في الحكم من العاطفة، و لكن عاطفة المسيحية الموروثة من آبائهما و آباء قومهما و التي يأبى العقل قبولها بتثليثها الله تعالى و تجسيده في المسيح و قتله في قتله للعفو عن ذنوب البشر الذي لا يستحق العفو كما قال الدكتور ماكسوه ل في كتابه"الحادثات الروحية":"و العقلاء حائرون في تجسد الله و موته تضحية بنفسه في إنقاذ البشر الذي لا يستحق هذه التضحية9 #sdfootnote9sym " . #sdfootnote1anc 1 #sdfootnote1anc -حتى إن كتابة "نقد العقل الخالص" من كانط تعد الخدمة للدين من دوافعه ، فإن لم تكن من دوافعه فلا أقل أن تكون من بين نتائجه، لذلك قال شوبنهاور في كتابه هذا :"إنه أهم كتاب في الأدب الألماني" #sdfootnote2anc 2 #sdfootnote2anc -أما ملاحدتنا فمتراوحون بين فريقين:فريق يجهل الفرق بين ديني الغرب و الشرق، ويتمسك بالعقل عند الازدراء بديننا كملاحدة الغرب المسيحي المتمسكين بالعقل..و فريق يعرف أن الإسلام يتفق مع العقل و لا يقاس بالمسيحية التي تصادمه، ولكنه يتمسك في محاربته ضد الأديان مطلقا -ومنها الإسلام أيضا- بالعلم القائم على التجربة فلا يخضع إلا لحكمه و يستهين بالعقل و المنطق اللذين نستمدهما في تأييد أصول ديننا. #sdfootnote3anc 3 #sdfootnote3anc - و لا يفهم منه أن الإسلام لا يحث على الأخلاق حاش لله بل نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام يقول :"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" . #sdfootnote4anc 4 #sdfootnote4anc - وهذا ما جعل القسيس المتبتل بروكلي ينكر المادة رأسا للرد على الإلحاد مع اعترافه بوجود حقيقة واحدة يحسها و هي العقل ثم جاء الريبي المطلق هيوم فأنكر الاثنين معا، فانهار العقل معه و انهارت المادة!!! #sdfootnote5anc 5 #sdfootnote5anc - و هذا النوع يسميه المناطقة ب"الحجة الشعرية" وهي حجة تتلاعب بمشاعر المخاطب تعتمد على مقدمات وهمية ، فيستجيب لمضمونها و يتأثر بها و لو كان عالما فكريا بعدم صحتها. فأين هي من" الحجة البرهانية"؟ #sdfootnote6anc 6 #sdfootnote6anc - و ليس من الغرابة أن تنال هذه المقالة الجائزة ما دامت تخدم إشاعة الخرافة في المجتمع، و انتشار قاعدة شعبية تفصل الدين عن السياسة بل تقول:"لا تقاوموا البشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول ل الآخر" أو"إن الرجل المسيحي يعلم أن السعادة محال في هذه الدنيا محال، ولذلك يقبل أي حاكم كان و لو كان رومانيا وثنيا"فرح أنطون"فلسفة ابن رشد"ص:187و 193 #sdfootnote7anc 7 #sdfootnote7anc -لم يقبل مني الأستاذ يوسف محدوب عبارة أوردتها في المقال السابق:" و دين النصرانية الذي يقال عنه دين السلام و المحبة قد وسع التحاب العام بين الجنسين أيضا فأباح الاختلاط المذموم حتى مكن للرجل أن يرقص مع زوجة صديقه لامسا مناحي جسمها الحساسة ناهيك عن القبلات هنا وهناك، وليت شعري ماذا يصنع المغربي المتنصر حديثا إن فعل بزوجه أو أخته ذلك فأصبحت لحما مستباحا لأخوته المسيحيين؟!!. فيالها من محبة!!" فعقب عليه بكلام اطراحه خير من ذكره. وأنا أقول: أنه مادامت أغاظته عبارتي تلك فهذا دليل على وجود غيرته على محارمه وهذا شيء غائب عند المسيحيين بالأصل إذ أن هناك شيئين متضادين إما غيرة تستمد قوتها من الروح -وهو شيء مجبول عليه الإنسان- وهو ما رجحه الإسلام بالأمر باحتجاب المرأة و تقييد الاختلاط ،وإما غريزة شهوانية تغري بالسفور و الاختلاط وهذا ما رجحه الغرب المسيحي الحاضر إذ ضحى بالأولى في سبيل التمتع ،فالمسيحي يخالط نساء الغير و يقبل أيديهن-نيابة عن خدودهن-و يجالسهن بل يخاصرهن سافرات ونصف عاريات مقابل التنازل عن غيرته على محارمه فيخالطهن غيره و يجالسهن و يخاصرهن و يرى أن عدد ضحاياه قليل بالنسبة إلى مكسوباته. #sdfootnote8anc 8 #sdfootnote8anc -و هو غير ما ذهب إليه اللادينيون من وجوب التسليم بلزوم المحافظة على أخلاق الأمم بواسطة الدين إذ يعتبرون ذلك ضرورة اجتماعية. و إن كان الدين لا حقيقة له عندهم تستند إلى الواقع، و إنما يقبل لديهم على أنه ذريعة لحفظ الأخلاق و ضرورة لصلاح المجتمع. #sdfootnote9anc 9 #sdfootnote9anc - يلزم من قتل المسيح- كما هو معتقد النصارى- أن يكون من قتله قد فعل خيرا بل عمل عملا لم يعمله أحد في مصلحة البشر فيكونون أمن الناس على الناس و على الأقل على النصارى إن كان العفو عن الذنوب خاصا بهم و بالذين اعترفوا بذنوبهم أما القسيس.