يحتل الإعلام مكانة محورية وخاصة في الديمقراطيات المتقدمة. إنه سلطة قوية برهنت التجارب قدرتها على تسوية الإعوجاجات والتجاوزات ومواجهة الانحرافات بكل حزم في مختلف مراحل تطور الأنظمة السياسية (مرحلة الاستبداد والتسلط، مرحلة الانفتاح والتوافق، مرحلة الانتقال الديمقراطي، مرحلة الديمقراطية التمثيلية، مرحلة الديمقراطية التشاركية،...). ونظرا لهذا الدور الضروري والمحوري في العمل السياسي والدولتي، ارتأينا الإسهام في النقاش الدائر بشأن تطوير هذا القطاع بالمغرب خاصة وأن الانفتاح السياسي، الذي عرفه المغرب وما حققه من مكتسبات كبيرة، ومن إصلاحات قيمة، مقارنة مع فترات ما قبل سنة 1998، يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى قطاع إعلامي قوي قادر على الإسهام الجدي في تجاوز البطء الذي يعرفه الانتقال الديمقراطي بهذا البلد. إن الوضع الإعلامي المغربي الحالي يعبر في نفس الوقت عن تقدمه عربيا وإفريقيا، وعن حاجته إلى مزيد من الإصلاحات. نسجل بإيجابية التراكمات الإصلاحية التي عرفها هذا المجال ما بعد 1998، والتي مكنت الإعلام من تخطي بعض الدوائر والخطوط الحمراء التي لم يكن مسموحا الاقتراب منها من قبل، وعلى الأخص ما يتعلق بانتقاد رموز مختلف مراكز المسؤولية أو تناول قضايا الفساد أو فضح التجاوزات الخطيرة في مجال حقوق الإنسان، علاوة على بروز دور الصحافة الخاصة. كما نسجل بالموازاة حاجته إلى إغناء النقاش في شأن مستقبله بدءا من تحديد القضايا ذات الأولوية على المدى القريب والمتوسط والبعيد، ومن تم تحديد المجالات التي ينبغي تطويرها بغية الوصول إلى إعلام حر ومستقل. وهنا، عندما نطرح ضرورة تقوية القطاع وتسخير قوته لخدمة الديمقراطية، نطرحه من باب ضرورة وجود إرادة سياسية حقيقية وواضحة لتقوية المؤسسات والمنظمات الضرورية لحماية وتقوية المكتسبات الديمقراطية، وليس من باب تنامي مطالب وضغوط الإصلاح والدمقرطة بصورة أو بأخرى. لقد بات من الضروري تجاوز هذه المرحلة (مرحلة الضغوط وردود الفعل القمعية) لأن المكتسبات السياسية المتراكمة لم تعد تحتمل ربط تطوير الحريات الإعلامية بالتسامح النسبي أو المؤقت المرتبط بدوره بوطأة الضغوطات أو اعتباره نتاجا طبيعيا للعولمة وثورة الاتصالات والتكنولوجيا. بالفعل يحتاج القطاع إلى مزيد من المكتسبات لتثبيت سلطته كما هو متعارف عليها دوليا. وفي هذا الصدد، وجب التحلي بالحذر والحيطة بشكل تندثر فيه كل بوادر الرجوع إلى الوراء أو الانقضاض على الهوامش المتاحة للحريات الإعلامية المكتسبة. كما حان الوقت لتطوير البنية التشريعية، خصوصا المقتضيات والقضايا ذات الصلة بالتضييق على الحرية والمبادرة، والتي نذكر منها: * تقييد الحق في إصدار الصحف بالحصول على ترخيص مسبق بدلا من الاكتفاء بالإخطار. فكما هو معمول به بالجزائر وتونس، لا زال المغرب يعتمد بدوره على نظام التصريح المسبق. فلا يجوز إصدار أي صحيفة إلا بعد حصولها على التصريح كما لا يجوز لدور الطباعة طبعها من دون أن يقدم أصحابها الإيصال الرسمي الدال على التصريح. ويتضح من خلال البنية التشريعية المغربية أن هذا البند يحول دون حق الأفراد في تملك وإصدار الصحف بشكل سهل. - حفاظ الحكومة على حق وصلاحية إيقاف أو تعطيل الصحف. كما تمنحها التشريعات المعمول بها صلاحيات واسعة في الضبط الإداري. - إيجاز عقوبة الحبس الاحتياطي. الأمر الذي يجعل من هذا الإجراء أداة لترويع الصحافيين. - توسيع نطاق التجريم بصورة تفوق بشكل هائل القيود المقبولة على حرية الإعلام وحرية التعبير. - وجود مقتضيات بتعبيرات غير منضبطة وواضحة ويمكن تأويلها لمصادرة وحظر تداول الآراء والأفكار والمعلومات، سواء عبر الصحافة أو وسائل الإعلام المرئية والمسموعة. ويزيد من خطورة هذا الغموض افتقار القضاء لضمانات الاستقلال والحيدة وتأثره بدرجة أو بأخرى بهيمنة السلطة التنفيذية وتدخلاتها في تسيير شؤون العدالة؛ الأمر الذي تصبح معه ضمانات الانتصاف للمشتغلين في حقل الإعلام محدود الأثر. - وجود فراغ فيما يخص الإعلام غير التقليدي من خلال الشبكة الدولية للمعلومات «الانترنيت». - افتقار البلاد إلى تشريعات تضمن التعدد والتنوع في ملكية وسائل الإعلام المرئي والمسموع. فإضافة إلى واقع الاحتكار للبث الإذاعي والتليفزيوني وبخاصة الأرضي، تتحكم الدولة في صلاحيات الترخيص بإنشاء شركات أو محطات للبث الفضائي (قواعد انتقائية) فضلا عن الرقابة على كل ما يبث. كما أن الاحتكار طويل الأمد لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة من جانب الدولة، قد أسهم في تكريس إعلام أحادي وتعبوي يخدم بالأساس المنطق الرسمي عوض التعبير عن التعددية السياسية أو التنوع الثقافي داخل المجتمع. كما أن نجاعة تدخل الهيئة العليا للإتصال السمعي والبصري يبقى مرتهنا بمدى توضيح القواعد القانونية لشروط الترخيص. - نقص الاهتمام الكافي، سواء من جانب المؤسسات الإعلامية أو من جانب المنظمات النقابية والجمعوية بتنظيم برامج تدريبية ملائمة تستهدف الارتقاء بالأداء المهني. إن الأمر يستدعي ضرورة الاهتمام الجدي ببلورة وتفعيل برامج التدريب لمعالجة النقص الواضح في الوعي القانوني بحقوق وواجبات الصحفيين والإعلاميين، خصوصا ما يتعلق بكيفية تناول الموضوعات التي تهم الشخصيات العامة أو الموظفين العموميين لتبيان الحدود الفاصلة بين النقد المباح من جانب، وجرائم التشهير والسب والقذف من جانب آخر، وكذلك حدود التعرض للحياة الخاصة، فضلا عن الموضوعات المتصلة بجرائم الكراهية، علاوة على التدريب في مجال الآليات الدولية ذات الصلة بحماية حرية التعبير. ومن أجل مواجهة هذه النواقص والإشكاليات، يتضح جليا أن فرض فرص تعزيز الحريات الإعلامية يبقى رهينا بالإرادة السياسية للدولة من أجل التقدم فيما تبقى من الإصلاحات السياسية والدستورية والتشريعية بشكل يضمن توازنا نسبيا بين السلطات ويضع حدا للارتجال والتسلط. كما يتطلب الأمر العمل على مراجعة شاملة للتشريعات الإعلامية وضبط المصطلحات والتعبيرات التي تسمح صياغتها غير المنضبطة بتأثيم الحريات الإعلامية. إن تحويل الإعلام إلى آلية لدعم الديمقراطية يبقى إلى حد بعيد مرهونا بإلغاء كل ما من شأنه المساس بحرية وبتطوير الإعلام. وفي هذا الصدد، نقتصر على التركيز على بعض النقط التي نصنفها في سلم الأولويات: - إلغاء القيود على حرية إصدار الصحف والاكتفاء بأن تنشأ بمجرد الإخطار مع إلغاء كافة أشكال الرقابة المسبقة وحظر تعطيلها من دون حكم قضائي. - مراجعة التشريعات الاستثنائية الخاصة بمكافحة الإرهاب، بما يحول دون استخدامها في تجريم الآراء والأفكار وتداول المعلومات. - ضرورة إلغاء العقوبات السالبة للحرية على خروقات الصحافة والنشر. - ضمان حق الوصول إلى المعلومات وفرض عقوبات مناسبة على المسؤولين أو الهيئات التي تعوق حق الصحفيين والإعلاميين في الوصول إلى مصادر المعلومات. - ضمان الحماية القانونية الفعالة للإعلاميين حيال أية اعتداءات قد يتعرضون لها خلال أدائهم لواجبهم المهني. - المحاربة القانونية للانتقائية في توزيع الدعم المادي أو التسهيلات الحكومية على المؤسسات الصحفية. - تقوية العمل النقابي بشكل يمكن من الارتقاء بأوضاع المشتغلين بالمهنة وشروط عملهم. كما على النقابات الاستثمار في تطوير آليات وقنوات التنسيق والعمل المشترك مع منظمات حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني، والعمل على تفعيل مواثيق الشرف الأخلاقية وتدريب الصحفيين بشكل مستمر (التكوين الفكري، والمهني، والقانوني)،... ختاما نقول إن حرية الإعلام والتعامل بشفافية معه يشكلان، إلى جانب إصلاح القضاء، أحد المرتكزات في العملية الديمقراطية التي تعتمد على صناديق الاقتراع والتداول السلمي على السلطة. لقد حان الوقت لتجاوز العقلية القديمة التي تسيطر على المسؤول الذي يعيش حالة من الحذر الشديد من الإعلامي حيث لا يجد وسيلة لطمس خروقاته إلا عبرإغلاق ممرات الوصول إلى المعلومة أمام رجال «السلطة الرابعة».