تعد عملية إعداد القوانين وصياغتها من المهام المعقدة والدقيقة التي تحتاج إلى ثقافة قانونية واسعة ومهارات منهجية دقيقة والسر يرجع في المقام الأول الى طبيعة هذه المهام وخصوصيتها المتميزة,ذلك أن تحرير النص القانوني ليس مجرد صياغة إنشائية للتعبير عن رؤى وأفكار بحرية تامة خارج دائرة القيود ,وإنما هو عملية إبداعية يتداخل في صنعها واقع معيش بكل حمولاته ومشاكله وقضاياه، بواقع مفترض ترسم القاعدة القانونية معالمه وتفاصيله. وإذا كانت مدونة السير في المغرب قد أثارت نقاشات عديدة، وأدخلت النقابات المهنية في إضرابات متتالية امتدت أكثر من أسبوع، فلأنها أخطأت الطريق في قراءة الواقع المغربي بكل مكوناته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبهذا شكلت قفزة قوية على الواقع، فإذا كان التشريع بالمغرب باعتباره ينتمي إلى العائلة اللاتينية يعتمد على فكرة استباقية بمعنى أن القانون يسبق الواقع ويؤطره، فإن هذه المدونة قد أعطت مثالا حيا وسيئا عن سوء التقدير، وسوء القراءة لدى واضعيها لواقع سوسيو اقتصادي وثقافي متخلف، وذلك بإقرارها لعقوبات وغرامات تتجاوز القدرة المعيشية للمواطنين بسنوات ضوئية،فهل مشرع مدونة السير بإقراره هذه الغرامات المبالغ فيها قام بدراسة وافية ومستفيضة لمستقبل المغرب الاقتصادي والاجتماعي وتوصل إلى أن في السنوات الخمس القادمة سيرتفع معدل الدخل الفردي بمتتاليات كبيرة هل قام بدراسة حول الأشخاص المعنيين أساسا بهذه المدونة والذين يعتبر النقل مصدرا رئيسيا لعيشهم اليومي، هل أعد واضعو هذه المدونة شبكة من الطرقات تضاهي طرقات الإمارات العربية دون أن نقول أمريكا أو كندا أو السويد؟هل فجأة ستختفي الرشوة من الطرقات المغربية ويستيقظ ضمير الشرطة والدرك لكي ينكبوا على تطبيق القانون دون اللجوء إلى الرشوة التي ستكون لا محالة مضاعفة حسب خطورة المخالفة أو الغرامة،هل ستفعل الإجراءات القانونية السالبة للحرية وتطبق على كل من يخالف القانون دون ميز أو تدخل، أم أن المتضرر الحقيقي سيكون هو المواطن العادي الذي سيجد نفسه يوما معرضا لعقوبة حبسية حتى و إن كان الحادث قضاء و قدرا؟إن مدونة السير برغم حسن نية واضعيها خصوصا في بلد تحصد فيه الحوادث العديد من الأرواح يوميا، لم تستطع الاستجابة للواقع المغربي, ربما لأنها مفصلة بمقاسات أجنبية ,وبالتالي يعتبر إلباسها للواقع المغربي مجازفة غير مضمونة العواقب، إن القانون في النهاية هو مجموعة من التراكمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتفاعلة في مجتمع معين ، في حين أن إسقاط قوانين أجنبية لدول متقدمة على واقع لازالت ملامحه غامضة ومتخلفة يعد سببا رئيسيا في فشل تمرير هذا القانون ومدونة السير بهيأتها الحالية ليست حلا سحريا أو نموذجا للحد من حوادث السير، فالعقوبات الزجرية حتى في المجال الجنائي لم تكن يوما حلا لتراجع معدلات الجريمة، بل أحيانا تكون دافعا قويا للعودة لأحضان الإجرام على اعتبار أن واقع السجون بالمغرب يعيد إنتاج وصقل مواهب الجاني الإجرامية ليخرج للمجتمع بمهارات جديدة تجعل الحد من الجريمة أمرا مستعصيا لا تجدي معه العقوبات السالبة للحرية إذا لم تتضافر مجموعة أخرى من العوامل المتعلقة بإعادة التأهيل داخل المؤسسات السجنية وضبط واقع هذه المؤسسات التي تتوافر فيها كل أدوات الإجرام من شذوذ ومخدرات إلى غير ذلك..... إن حالة الطرقات في المغرب وغياب شبكة طرق قوية والحالة الميكانيكية للعربات والشاحنات، وغياب مراقبة صارمة لرجال الأمن والدرك والمستوى الثقافي لمستعملي الطرق خصوصا أصحاب الشاحنات الكبيرة وسائقي حافلات النقل، كلها عوامل تساهم في تزايد حوادث السير بالمغرب، وحين يتدخل المشرع لتقنين واقع تغيب فيه كل عوامل التأهيل وتغيب فيه البنيات التحتية الضرورية، فإن القاعدة القانونية في هذه الحالة تتجاوز الواقع وتسطو عليه، وبالتالي تصبح هناك هوة عميقة بين الواقع والقانون وهذا ما حدث مع واضعي المدونة الذين ربما استلهموا من تجارب دول أخرى متقدمة يواكب فيها القانون الواقع ويؤطره بشكل متقدم، وبالتالي تخرج القاعدة القانونية عاكسة للواقع كما هو، في حين أن مدونة السير بالمغرب حاولت الحد من واقع قائم بمقتضيات قانونية بعيدة عن الواقع ,لذا اصطدمت بمعارضة شديدة ليس فقط من النقابات، بل حتى من المواطن العادي الذي سوف يصبح مجابها بغرامات ثقيلة حتى داخل المدار الحضري وهو الغارق في هموم المعيش اليومي، إنها مفارقة أن تكون في بلد يتنفس بطالة وغلاء وسوء أوضاع اجتماعية وقانوننا الجديد يتضمن غرامات بحجم راتب شهري لموظف عمومي، إن قارئ المدونة الأجنبي في المغرب سيخال أننا في بلد يتجاوز دخل الفرد فيه آلاف الدولارات ....على واضعي المدونة إذن أن يعيدوا قراءة الواقع جيدا كما هو لأن القانون في النهاية هو مرآة لهذا الواقع كما هو لا كما يجب أن يكون.....؟