«ويلك يا بلعمان إلا تناطح الثيران» مثل شعبي مغربي قديم يصور مأساة الصغار المغلوبين على أمرهم حين تدور طاحونة الصراع بين الكبار، ليدفع ثمن جرارها المتكسرة صغار المواطنين الفقراء الذين لا يملكون من أمرهم شيئا. وما تداعيات الإضراب الحالي لأصحاب الشاحنات وسيارات النقل إلا نموذجا صارخا للفاتورة الباهظة التي يدفعها المواطنون جراء تجاذبات أقطاب ملف مدونة السير التي أجهزت تفاعلات أزمتها المتصاعدة على البقية الباقية من احتياطي صبر البسطاء على انفلات زمام القفة من جيوبهم المنهكة. ففي مدنية الصويرة التي تعاني من احتكار بعض الأسماء لسوق التموين بالخضر والفواكه منذ سنوات، إلى درجة فرض أثمانهم على صغار التجار في مقابل جودة جد متوسطة، وفي ظل تهربهم من دفع الضرائب المستحقة على البضائع من خلال تهريب الخضر إلى مستودعات خاصة وتحويلها مباشرة إلى التجار بدون الخضوع لضريبة الميزان بسوق الجملة، يضاف إليها الإغلاق الجائر للسوق الأسبوعي منذ سنوات بخلفية لااجتماعية تروم خدمة مصالح فئة جد محدودة من المضاربين على حساب معاناة أكثر من 100 ألف نسمة وجدت نفسها محرومة من فرصة التسوق من السوق الأسبوعي الذي كان يشكل متنفسا منتظما لجيوب المواطنين التي أثقلتها أثمان الخضراوات والفواكه، في هذه المدينة التي تحولت إلى «دار العرس» لا تلتقط كاميرات المصورين والقنوات التلفزية سوى واجهتها البحرية التي تتحول تدريجيا إلى منطقة تعرية بفعل الهجوم الإسمنتي، مع أن الفقر يضرب أطنابه طولا وعرضا في أحيائها المنكوبة بامتياز، عزت البطاطس والبصل والطماطم إلى درجة مقارعة أثمنة الموز والتفاح. ففي الأسبوع الفائت، وصل ثمن البطاطس على سبيل المثال في بعض النقط بإقليم الصويرة إلى 15 درهما، لينزل مؤشرها بعد يومين إلى 13 درهما ثم تستقر في 10 دراهم حاليا! معاناة ساكنة الصويرة مع القفة ليست وليدة لحظة الإضراب، بل تعرف طابع الديمومة نظرا لواقع الاحتكار الذي تمارسه بعض الأسماء على سوق الخضر والفواكه بالمدينة، إلى درجة الوقوف دون دخول ممونين جدد إلى السوق. معاناة لم تشفع لآلاف الفقراء الذين يعيشون على الكفاف لدى السلطات المحلية والمنتخبة التي أجهزت على السوق الأسبوعي للمدينة لاعتبارات مشهدية لم تصمد في وجهها احتجاجات الساكنة المطحونة وشكاويها المتكررة. فبعد الارتفاع الصاروخي لأسعار المواد الأساسية التي قفزت أثمانها إلى الضعف مرة واحدة، وأخذت في الانخفاض نقطة نقطة إمعانا في تعذيب المواطنين وزيادة في تسمين جيوب المضاربين، ماذا سيبقى للمواطنين بعد أن عزت القطاني وارتفعت مؤشرات البطاطس، الغذاء الوطني لملايين المغاربة، في سوق الخضر. «واك واك!» صاحت إحدى النساء الصويريات في رد فعل طبيعي وتلقائي لدى سماعها ثمن الخضر يوم الأحد المنصرم (البصل 10 دراهم، الطماطم 5 دراهم، البطاطس 10 دراهم...)، صرخة نسائية مستضعفة تعبر عن وصول المواطنين إلى درجة من القهر وعدم الاحتمال، هكذا تتحول التنهيدات وحرقة القلق وأحاديث المقاهي الهامشية إلى صراخ تلقائي يؤثث فضاء الشارع بالاحتجاجات. فعتبة «الكاميلة» حد أدنى لا يمكن للمواطن المقهور أن يتنازل عنه تحت أي ظرف. «كل الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي عرفها المغرب في السنوات الأخيرة لا تعنيني في شيء طالما أن نتائجها لم تنعكس بعد على قفتي اليومية، حين سأحس بوقع هذه الإصلاحات على خبزي اليومي، سأشارك عن طواعية في الشأن العام». هكذا خاطبني أحد المواطنين المقهورين من جماعة سيدي مومن بالدار البيضاء لحظة الانتخابات البرلمانية الأخيرة. بعبارة أخرى، فمصالحة المغاربة مع الشأن العام والعمل السياسي، والرفع من نسبة المشاركة في الانتخابات مرهون بإنعاش «كاميلة» المواطن الذي يحتاج عميقا لتصديق كل هذا الكم من الأمل الذي يخنقه صرير الأمعاء الفارغة. فاطمة عاملة سابقة بأحد المعامل الذي أغلق أبوابه ذات صباح وبدون سابق إنذار، تعيل عائلة من أربعة أفراد بما فيهم زوجها العليل، لم تجد بدا من القبول بالخدمة في البيوت بداية المر////، إلى أن انتهى بها المطاف إلى غسل الأواني في أحد المقاهي بمقابل يومي لا يتعدى 30 درهما. 30 درهما لإطعام خمسة أفواه تحتاج لأن تأكل حين تجوع حتى تشبع، ودفع ثمن كراء الغرفة البئيسة الباردة التي أكلتها الرطوبة، وبقية لائحة القلق القاتل طويلة أتت على البقية الباقية من إحساس فاطمة بالحياة والأنوثة وإيقاعات موسيقى كناوة. في عيون فاطمة انكسار قاتل، ولاء أعمى لكل (فاعل خير) بغض النظر عن نواياه وخلفياته... ترفض أن يأكل الآخرون من لحمها لتطعم أفواه صغارها الجياع، تراهن على البقية الباقية من عنفوانها لتنعش أملا محتضرا في مدينة تغرق في الواد الحار وقلق القفة.