عبد النبي الجراري كان من الذين ساهموا وبشكل فعال في تأسيس الأغنية المغربية العصرية، فنان أعطى للأغنية المغربية الشيء الكثير من جهده، من وقته ومن دمه، ومع كل هذا تعرض للإهمال والتهميش، سأحاول هنا نفض الغبار عن قيمة هذا الفنان الأصيل من خلال إبداء الملاحظات الآتية: 1 اكتشاف المواهب اشتهر الجراري ببحثه الدؤوب عن المواهب الجديدة في جميع مجالات الغناء الأداء، اللحن، العزف والكتابة. لقد كان الجراري يهدف الى تطعيم المشهد الموسيقي المغربي بأسماء جديدة تغذيه وتزخرفه وتعمل على تطويره، لقد كانت يده دائما ممدودة للشباب المتعطش للموسيقى والغناء، يوجههم بخبرته ويرشدهم بتجربته ويدفعهم الى الامام بألحانه، إننا نذكر له جميعا برنامجه الخالد »مواهب« والذي تخرج منه الكثيرون فأصبحوا اليوم نجوما لامعة في الموسيقى والغناء ومن بينهم عبد الهادي بلخياط، محمود الادريسي، سميرة بن سعيد، عزيزة جلال، البشير عبده أنور حكيم، عز الدين المنتصر، عبد القادر وهبي، عبد اللطيف السحنوني.. ولم يقتصر عمل الجراري في هذا المجال على استديوهات التلفزة، بل انه وظف بيته الخاص للاجتماعات والتداريب وهذا بشهادة الكثيرين منهم، ماذا أقول؟ ما أحوجنا اليوم الى فنان في حجم الجراري ليحمل عاتقه هذه الرسالة السامية وما أحوجنا اليوم الى برنامج في قيمة برنامج »مواهب« ليتيح الفرصة للبراعم الناشئة. 2 اللحن الراقي اتسمت ألحان الجراري بالسمو والرفعة، إنها ألحان تهذب الذوق وتسمو بالأذن الى عالم الجمال والمتعة الروحية ويشهد على ذلك ألحانه أنت، حسبتك، أذكري، يا حبيب القلب.. 3 قلة الانتاج لم يقدم الجراري في عالم الألحان إلا عددا محدودا لا يتجاوز في أكثر تقدير وعلى حد قوله ستين قطعة وذلك رغم طول رحلته الفنية وسر ذلك ان الفن الصادق عنده لا يخضع للأمر والنهي أو للعرض والطلب، ولا تفرزه المجاملة وإنما هو الفن النابع من أعماق الفنان والصادر بتلقائية. 4 الاهتمام بالشعر المغربي أولى الجراري للشعر المغربي عناية فائقة فلحن للكثيرين منهم، وهكذا تعامل مع محمد الحلوي في أغنية »أسرار الجمال« ومع محمد بن عبد الله في »أذكري« ومع المهدي زريوح في »بلادي«، وفي هذا الاطار نذكر ولعه الشديد بالشاعر التونسي أبي القاسم الشابي والذي لحن له مجموعة من القصائد أشهرها أنت للدكالي والصباح الجديد للمطربة التونسية فتحية خيري، ومناجاة عصفور لثريا سعود وأقبل الصبح للبشير عبده كما لحن للشاعر الأندلسي ابن زيدون أغنية يا نائما للإدريسي والهجر الباكي لخديجة الفقير. 5 - يتضح إذن مدى اهتمام الجراري بدلوه في تلحين القصيدة هذا النهج الذي اختطه الرائد أحمد البيضاوي وترسمه كل من عبد الرحيم السقاط والمعطي البيضاوي وعبد السلام عامر ومن القصائد الجميلة التي أبدع الجراري في تلحينها زيادة على قصائد الشابي السالفة نستحضر اذكري ونداء الحبيب لاسماعيل احمد، حسبتك والله امولاي لبلخياط، رفيقتي لمحمد علي، حدثيني لعبد الحي الصقلي، أسرار الجمال ويا نائما للادريسي. 6 الاهتمام بالموشح علاوة على عبد القادر الراشدي وأحمد البيضاوي لحن الجراري بدوره الموشح هذا الفن الذي يشهد منذذ مدة طويلة تراجعا، بل وميلا الانقراض النهائي، ومن الموشحات لاتي لحنها قل للمليحة، بت والهم، لديك حديث شكونا الى أحبابنا وقد غناها محمود الادريسي، وما كنت أعلم لحفيظة الناصري كما غنت هذه الاخيرة بدورها موشح بت والهم، في حين غنت سميرة بن سعيد وهي لازالت صغيرة جدا موشح »قل للمليحة«. 7 عاشق الطبيعة أن المتأمل للقطع التي لحنها الجراري لا يفوته ان يلحظ انتشار المفردات الدالة على الطبيعة، وهي ملاحظة تطالعنا أحيانا في عناوين ألحانه مثل ابتسم يا غزال، أسرار الجمال، مناجات عصفور، أقبل الصبح، الصباح الجديد، سوق أغنامك يا فلاح، عيد الربيع بشر يا طوير، أرض الجمال. فهل كان اختيار الجراري لهذه النصوص عشوائيا؟ أم أنها صادفت في قلبه ولعا بالطبيعة وعشا لمفاتنها؟ بل وما سر إقباله على أشعار أبي القاسم الشابي وهو شاعر رومانسي هام حبا في الطبيعة؟ والحقيقة ان هناك خيطا دفينا من الحب يربط بين الجراري والطبيعةة آمل ان أخوض في بواعثه في مقال آخر. يبقى أن أشير في النهاية الى أن الاستاذ عبد النبي الجراري عازف بارع على آلة البيانو وقد أفرد لهذه الآلة مساحة واسعة أحيانا في بعض ألحانه كما هو الشأن مثلا في قصيدة أتظن والتي غناها صوت المغرب عبد الهادي بلخياط في بداياته ترافقه أنامل الجراري شخصيا في العزف على تلك الآلة الساحرة. كما أن الجراري غنى في بداية حياته الفنية الكثير من القطع ولحن بعض المعزوفات الموسيقية ولكن أغلب ذلك ضاع مع الأسف.