اعتاد المركز الثقافي المصري في الرباط أن يستضيف كل مرة، في صالونه الثقافي، شخصية ثقافية بارزة لمناقشة قضية معينة، فكرية أو ثقافية أو فلسفية.. تؤرق العقل العربي والإسلامي.. وقد استضاف هذا الصالون من بين الذين استضافهم مفكرين وفلاسفة ومثقفين من أمثال: عبد الوهاب المسيري، وطه عبد الرحمن، وأحمد كمال أبو المجد.. وغيرهم من صناع المشهد الثقافي والفلسفي والفكري في عالمنا العربي. وانضاف إلى ضيوف الصالون المفكر والأديب المغربي المعروف الدكتور عباس الجراري... حيث تحدث الأديب المغربي يوم 30 مارس الماضي للحضور عن موضوع: دور المثقفين العرب في الإصلاح العربي. وقد كانت كلمة الجراري مفعمة بالأسئلة أكثر من الإجابات.. وإن كان بناء السؤال مقدمة لتأسيس إجابات دقيقة... ناهيك عن كون أي سؤال يحمل في داخله جزءا من الجواب. أما آراء الجراري المفصلة فيمكن أن يلقاها القارئ في كتبه العديدة، والتي كان آخرها كتاب: الدولة في الإسلام رؤية عصرية (2004) (أنظر ص: 5). ويمكن معرفة إسهاماته وأنشطته المختلفة من خلال زيارة موقعه على الأنترنت: moc.irarijsebba.www# وفي ما يلي عرض مفصل لما جاء في حديث الدكتور الجراري. منذ قرنين: الإصلاح والأزمات أشار الدكتور عباس الجراري في بداية مداخلته إلى أن اعتبار الحديث عن الإصلاح لا يعني أن العرب لم يطرحوا موضوع الإصلاح إلا الآن! فموضوع الإصلاح مطروح منذ أزيد من قرنين، وبالتحديد منذ بدأ الاحتكاك بأوروبا، والعرب يشعرون بضرورة النهوض، ومنذ ذلك الوقت والدعوات متوالية للإصلاح. وخلال هذه الفترة الطويلة يقول الجراري تعرض العرب لأزمات عنيفة (انتدابات وحمايات وحروب واحتلال...)، دون أن ننسى القضية التي قصمت ظهر العرب وهي قضية فلسطين، التي مازلنا نعاني أزمتها ومشكلتها... وبلغ الأمر والكلام للجراري إلى ما عشناه في الأيام الماضية من اغتيال الزعيم الشهيد الكبير الشيخ أحمد ياسين. ومن بين الملاحظات التي قررها الدكتور الجراري في هذا الصدد قوله إننا نسعى إلى الإصلاح، ولكننا نواجه بأزمات، وتزرع في الذات العربية جسوم غريبة، وتفتعل للعرب مشكلات وأزمات وقضايا وحروب تشغل بالهم وتعطل مسيرتهم. وهي في رأي الجراري، تحديات تجسدت مؤخرا في حرب العراق الأخيرة، وما نتج عنها من أزمة ما زالت تكبر وتتضخم ولا ندري أين تسير؟! وقد اختصر الجراري كل هذه الأزمة في تحديين كبيرين يواجهان العرب اليوم: التحدي الداخلي، والمتمثل في تطلع الشعوب عامة إلى إصلاح أحوالها في جميع جوانبها. والتحدي الخارجي، المطروح الآن وهو أن الغرب يريد أن يفرض هذا الإصلاح. وفي هذا الإطار، أشار المحاضر، إلى أن بعض الأنظمة العربية تريد أن تسير في هذا الخط، ولكن هناك في المقابل أنظمة أخرى ترى أن الإصلاح ينبغي أن ينبع من الداخل. وقد بين الجراري أن هذا الإصلاح الذي يراد فرضه يتدخل في برامج التعليم، وحتى في الجزئيات الصغيرة، وفي الأشياء التي ربما لا تخطر ببال العرب. وأن الآخرين يريدون أن يفرضوا نوعا من الإصلاح يحقق لهم مصالحهم.. ويضيف الجراري قائلا: إن الإصلاح الذي يريدون القيام به الآن لا يبتعد كثيرا عما حاولته أوروبا في بداية القرن الماضي لما تشكلت الخريطة العربية وحاولت أن تتلاعب بها، مع إدخال قيم جديدة باسم الديمقراطية. والمعادلة الصعبة، في تصور الجراري، تتمثل في كيفية تحقيق الإصلاح الذي نتطلع إليه جميعا مع الأخذ في الاعتبار واقع شعوبنا التي ضاقت بالإحباط. المثقفون والإصلاح بعد هذه الكلمات المركزة، طرح عباس الجراري السؤال الجوهري التالي، وهو: هل من دور للمثقفين في هذا الإصلاح؟!! وللحديث عن هذا الدور، اعتمد الجراري على مقاربة تأخذ بعين الاعتبار مسلمة تقول: إن أي دولة لا بد أن تراعى فيها ثلاثة أقطاب، وهي: القطب الرئيسي الذي هو النظام الحاكم والمسؤولون عن سير الدولة، القطب الثاني وهو المجتمع، والقطب الثالث، الذي كثيرا ما ينسى أو يقصى أو يهمش، وهو المثقف (النخب والعلماء والأدباء والمفكرون والمبدعون...). وقال الجراري إنه لا مجال لإقصاء أي فئة من الفئات التي يمكن أن تدخل في نطاق المثقف. ويزيد هذه القاعدة وضوحا، قائلا: كل من توافر فيه الوعي والمعرفة والتنوير الفكري، ويستطيع أن يقوم بدور التوعية والتعليم والتعريف والتنوير بمصداقية وفعالية فهو مثقف. وفي هذا الإطار أبدى الجراري تأسفه الشديد بسبب ما تعرفه الأقطاب الثلاثة من تمزق.. وكأن هذه الأقطاب تشكل مواقع نفوذ، كل قطب يسعى إلى أن يقصي الآخر ليكون صاحب الكلمة والنفوذ. ومن هنا، يقول الجراري، كثيرا ما نسمع عن تهميش المثقفين والعلماء، وكأن هناك صراعا ونزاعا على الموقع والسلطة!! والتحرك نحو الإصلاح، في مقاربة الجراري، تبدأ من طرح الأسئلة المركزية التالية، وهي: لماذا فشلت الحركات الإصلاحية؟؟ وهل ما زال عند العرب (بأقطابهم الثلاثة) القدرة على أن يصلحوا أحوالهم؟؟ وفي نظر الجراري فإن المثقفين هم الذين يتحملون مسؤولية طرح هذه الأسئلة والإجابة عليها. أقطاب الإصلاح يقول الجراري: نحن نتحدث عن الإصلاح، ونريد أن نلغي الإصلاح الوافد، ونريد أن نصلح من الذات/الداخل. ثم أضاف متسائلا: هل لدينا رؤية ومنظور واضح للإصلاح؟ وكيف ينبغي أن يكون هذا الإصلاح؟ من أين نبدؤه؟ هل بالإصلاح السياسي أم الاقتصادي أم الاجتماعي الثقافي؟ هل نبدأ بالتعليم أم بإلغاء الفقر؟ وما هي آليات الإصلاح وكيف سنطبقه؟! فوضع اليد على مواطن الفساد هي نقطة البدء، لأننا سنصلح شيئا فاسدا. فلا بد من معرفة هذا الشيء الفاسد ولا بد من ضبطه. وذكر الجراري أن الكثير منا يتكلم، مثلا، عن الأمية والفقر، لكن يبقى حديثا عاما فقط. وللذين قد يقولون: إنك تحمل المثقفين كل المسؤولية! يقول الجراري ما يلي: بالعكس، المثقفون بالمفهوم الواسع، يضعون الرؤية والتصور، ويخططون.. ويأتي بعد ذلك المسؤولون عن الدولة (القطب الأول) بعد أن اتضحت لديهم الرؤية والآليات فينفذون. وأشار الجراري إلى أنه قد يكون من بين المثقفين رجال الدولة. ثم الجماهير العربية (القطب الثالث) تتجاوب وتساند وتساير، ولا تقف ضد الإصلاح. وقد اختصر الجراري هذه الأمور في كلمة مركزة، قائلا: إنه حين يكون هناك تصور واضح للإصلاح، وتتعاون عليه الأقطاب الثلاثة، فإننا نستطيع أن نقول إنه قد ينجح. التمزق الثقافي بعد ذلك طرح الجراري سؤالا لا يقل أهمية ومحورية عن التساؤلات السابقة، وهو: هل مثقفونا مؤهلون ومهيؤون ومستعدون لتصور هذا الإصلاح، ولمد اليد لتنفيذه مع الأقطاب الأخرى؟! مرة أخرى، يتأسف الجراري لأن المثقفين ممزقون إلى مجموعات.. إضافة إلى وجود عمليات إقصاء ذاتية/داخلية بين المثقفين أنفسهم. وقال في هذا الصدد: إذا كان المثقفون يحاول غيرهم أن يقصيهم، فهم يقومون بعملية الإقصاء داخليا، إذ كل جماعة تحاول أن تقصي الفئة الأخرى!! ومن بين العوائق الأخرى التي ذكرها الجراري، والتي تحول دون نهوض المثقفين بمسؤوليتهم، عائق اللامبالاة، فهناك فئات من المثقفين تتفرج على ما يجري في الساحة العربية، أحيانا بسخرية وأحيانا بتشف!! والنتيجة في رؤية الجراري أن المثقف لم يعد يتحمل مسؤوليته في المجتمع والدولة والوطن... كي يقول كلمته ويساهم في إنهاض الهمم، وفي استعادة الثقة في الذات... ومن ثم فإن من مهمات المثقفين الأساسية أن يعيدوا الثقة إلى النفوس، ومع استعادة الثقة أن ينهضوا الهمم... وأن يخرج المثقفون والجماهير العربية من الأزمة النفسية التي تحبطهم. ويتصور الجراري أن المثقفين كان يمكن أن يكونوا الخيط الذي يجمع شمل العرب، فالثقافة، كما يقول، كان يمكن أن تجمع شملهم في الوقت الذي تغرقهم السياسة!! بل يذهب الجراري أبعد من ذلك، قائلا: لو وقع التركيز في الجامعة العربية على الجوانب الثقافية، وبعدها جوانب أخرى كالاقتصاد مثلا، ربما لاستطاعت أن تجمع شمل العرب، وأن تخرجهم من التمزق الذي يتخبطهم. ويعتبر الجراري الثقافة العنصر الوحيد الذي يمكن أن يجمعنا بدون خلاف أو إشكال.. إضافة إلى كون المثقفين، من خلال ثقافتهم العربية، يمكن أن يزيلوا عددا من الغيوم، ويعملوا على توحيد القلوب، وتوحيد الكلمة، وتوحيد الصف بعد ذلك. وهذا الدور معطل، كما يقرر الجراري، بسبب انزواء المثقفين وتهميشهم لذاتهم، وإن كان كثيرا ما يتحدث عن تهميش السلطة الحاكمة للمثقفين. وبناء على ما سبق يتساءل المحاضر مرة أخرى: هل نستطيع أن نتحدث عن الإصلاح، ونحمل طرفا من الأطراف مسؤولية هذا الإصلاح؟! المتفرجون القاعدون وذكر في هذا الصدد أن القائمين على شؤون الدول العربية يواجهون المشكلات بوحدهم، والجميع يتفرج! وأشار إلى أن الأزمة الأخيرة التي وقعت بخصوص عقد مؤتمر القمة العربية بينت أنه وحدهم القادة مع مساعديهم يواجهون هذه الأزمة الكبيرة.. وتساءل: أين هما القطبان الآخران؟! وعاد الجراري مرة أخرى ليؤكد أنه إذا كنا مؤهلين للإصلاح من الداخل أي قادرين على أن نضع تصورا للإصلاح وآليات له، فإننا نستطيع أن نواجه هذا التحدي الكبير... وأكد ضرورة وضع خطة للإصلاح، لأن الإصلاح ليس مجرد شعار وكلام، بل هي عملية ضخمة تبدأ من التصور إلى آليات التنفيذ. وينبغي أن نعلم يذكرنا الجراري أن الذين يتربصون بالعرب ويريدون أن يفرضوا عليهم تصورهم للإصلاح.. هؤلاء قد هيؤوا كل صغيرة وكل كبيرة. ومرة أخرى: ماذا هيأنا نحن، يقول الجراري بمرارة!! ويختم أرضيته الحوارية بعبارة معبرة وجامعة، قائلا: إن موضوع دور المثقفين يبقى معلقا مثلما هو معلق موضوع الإصلاح نفسه!!. نحن مؤهلون.. وفي نقاش هذه الأرضية الحوارية الشيقة، أشار الجراري إلى أننا مؤهلون لإنجاز الإصلاح من حيث الإمكانيات البشرية التي نتوفر عليها، إذ لدينا أطر متعددة، وفي مختلف التخصصات والمجالات، كما أن التكنولوجيا الغربية قائمة على أكتاف عدد من العرب. ولكننا لا نحسن استغلالها. وانتقد الجراري الذين يعتقدون أن المثقف الحقيقي هو الذي يقول دائما (لا)! ودعا إلى الخروج من السلبية.. وعلل ذلك بقوله: إنك عندما تقول (لا) فإنك ترفض ما عند الآخر، وتتفرج عليه، وتنتظر ما ذا سيصنع!! وميز الجراري بين (لا) السلبية وبين (لا) النقدية، التي اعتبرها أساسية للإجابة على سؤال: لماذا فشلت المحاولات الإصلاحية؟ أي القيام بنقد ذاتي موضوعي للذات ولمقوماتها، ومحاولة استخلاص قيم جديدة. وهذا النقد الذاتي، يؤكد الجراري، هو الكفيل بخلق ثقافة جديدة تكون أكثر إيجابية من الموجودة الآن. ولم يفت الجراري أن يشير، معقبا على بعض المداخلات، أن الإصلاح السياسي هو المفتاح، وأنه طالما لا يوجد إصلاح سياسي ولا توجد مشاركة في تسيير الشؤون العامة يتعذر الإصلاح. ولكن المشكلة والكلام للجراري هي: أي مجتمع ستشركه معك في التسيير، هل هو المجتمع الذي تغلب فيه الأمية والفقر؟ وعندما تنظم الانتخابات، لكي تكون العملية السياسية قائمة على الديمقراطية وعلى الانتخاب، تجد أن الأصوات تباع بأبخس الأثمان بسبب الفقر، وتجد الناس تنساق بسبب الأمية!! ثم بعد ذلك يقرر الجراري أن أي مجتمع متعلم ومربى تربية صحيحة لا خوف عليه... ولذلك تظل قضية التربية والتعلم، برأيه، أساسية. ويضيف قائلا: إن مجتمعا نصفه أمي، وما يقرب من نصفه فقير، لا يمكن أن يكون طرفا في التسيير ولا طرفا نافعا وإيجابيا في هذا التسيير.. والدليل على ذلك حال بعض البرلمانات الموجودة في البلاد العربية! الجماهير لن تفرط ومن جهة أخرى أشار الجراري إلى أن الآخر يتربص بنا لأننا ضعفاء ومنهارون ومحبطون... وأن عجلة التاريخ لا تتوقف، فالذين اغتالوا الشيخ ياسين لم ينتظروا موافقتنا حتى يغتالوه، والذين احتلوا بغداد لم ينتظروا موافقتنا حتى يحتلوها. إنه، يقول الجراري، إن لم يكن للعرب رد فعل فوري وقوي وإيجابي وكلمة موحدة، فإن الآخر سينفذ وسيفعل ما يستطيع أن يفعله. وفي الأخير أشار الجراري إلى أنه إذا فرط المثقفون والأنظمة في كل مقوماتنا الذاتية وفي هويتنا، فإن الجماهير لن تفرط... بل يذهب الجراري إلى أن الذي سيواجه العرب هو الانتفاضة التي ستقوم بها الجماهير!! لأنها غير راضية عما هو واقع، وغير راضية عن كثير من الأنظمة، وغير راضية عن علمائها ومثقفيها ومفكريها.. ولكن يضيف الجراري حين تنهض الجماهير قد تكون نهضتها عشوائية، ولهذا ينبغي أن نستعيد الثقة في ذاتنا بتوازن وحكمة، وأن نحاول ممارسة الإصلاح والتصحيح. ولعل أبلغ عبارة تلخص رؤية الجراري لدعوات الإصلاح التي تأتينا من الخارج، هي ما ختم به هذا الصالون الثقافي المتميز والشيق، حين قال: أتظن الآخر يريد بنا خيرا؟!!. جواد الشقوري