تعتبر حركات الاحتجاج شكلا من أشكال التعبير الاجتماعي الذي تنظمه القوانين الجاري بها العمل في المجتمعات الحديثة. وبطبيعة الحال، فإن كل الحركات الاحتجاجية ليست متماثلة في أساليبها، وفِي زخمها واتساعها وشعاراتها وسياق انطلاقها الموضوعي والذاتي. فقد يتخذ الاحتجاج شكل عرائض ومذكرات تندد بممارسات وتطالب باصلاح اوضاع والتصدي لاختلالات إدارية أو اقتصادية او اجتماعية أو غيرها. كما قد يتخذ شكل تحركات داخل المؤسسات التمثيلية المنتخبة تقودها معارضات سياسية بغاية دفع السلطات التنفيذية إلى أخذ مطالب هذه الفئة الاجتماعية أو تلك بعين الاعتبار، في قراراتها ومشاريعها التنموية العامة، أو دفع هذه المؤسسة المنتخبة، وطنيا أو جهويا أو محليا، إلى سن تشريعات أو اطلاق مشاريع ذات الاهتمام المشترك بالنسبة للمواطنين عامة، أو بالنسبة لساكنة منطقة بعينها. وقد يتخذ الاحتجاج شكلا جماهيريا، يكون الشارع مسرحا له، من خلال وقفات واعتصامات ومظاهرات ترمي إلى لفت أنظار الحكومة أو الدولة إلى خطورة استمرار وضع ما دون معالجة. وكثيرا ما تترافق تلك الاحتجاجات الجماهيرية بملف مطلبي محدد المعالم وواضح الأهداف، القريبة والبعيدة. الأمر الذي يعني أن الاحتجاج هو بغاية التفاوض حول دفتر المطالب بين مؤسسات الدولة المعنية وبين قيادات الحركة الجماهيرية. وتأتي حركات الإضراب القطاعي أو الوطني بقيادة النقابات في مقدمة هذه الاحتجاجات. غير أن هناك حالات أخرى، يتم فيها تجاوز الأطر المنظمة للنقابات، خاصة عندما يتعلق الأمر بحدث ما يكون بمثابة المفجر المباشر أو غير المباشر للاحتجاج، نظرا لبلوغ الاحتقان الاجتماعي درجة عالية في أوساط اجتماعية بعينها، ودون أن يكون ذلك عبر الطرق والأطر التنظيمية التقليدية، وإنما عبر انطلاق حركات جماهيرية عفوية، هي بمثابة رد فعل غاضب حول الحدث، ثم ما تلبث أن تأخذ أشكالا منظمة، إلى هذا الحد أو ذاك، سواء تولى هذه المهمة عدد من القوى السياسية أو النقابية المنظمة، أو تولتها قيادات يفرزها الحراك الاجتماعي ذاته، خاصة اذا طال أمده ولم يتم حسم مصيره عند انطلاقه بواسطة تلبية المطالب المرفوعة أو بعضها، أو تدخلت عوامل جديدة فرضت على الاحتجاج الانتقال من ظرف الانطلاق التلقائي العفوي إلى مرحلة التنظيم الفعلي، والتي تتسم بمزيد من التعقيد ليس بالضرورة من سمات الاحتجاج التلقائي العفوي. وغالبا ما يتم الخروج، هنا، من دائرة المطالب الأولية التلقائية إلى بلورة برنامج مطلبي محدد المعالم وواضح السقوف العليا والدنيا. وليس غريبا، في هذه الحالة، أن يتكيف سلوك السلطة السياسية ومؤسساتها المعنية مع هذا التطور، على اعتبار أن تجاهله قد يؤدي إلى مزيد من الراديكالية في مطالب المحتجين. وقد تصل إلى درجة يستحيل فيها على الدولة الاستجابة الفورية لها، أو حتى في الزمن المنظور، الأمر الذي قد يتسبب في نوع من المواجهات الكبرى بدل اعتماد أساليب التفاوض المتعارف عليها في كل حالات تعامل السلطة الطبيعي مع الاحتجاجات ذات البعد المطلبي الاجتماعي الواضح. ومما لا شك فيه، أن الحركة الجماهيرية المؤطرة بمقتضيات الدستور والمحترمة للقوانين المعتمدة من حيث جوهرها، انطلاقا من مباديء الحرية والديمقراطية هي حركة ديمقراطية بالتعريف. ولن يغير من هذا الجوهر ما قد يشوبها من بعض التجاوزات في السلوك، لهذا السبب أو ذاك، ما دامت محتفظة بما هو جوهري فيها وهو الدفاع عن مصالح أوسع الفئات الممكنة والتعبير عن مطالبها ضمن الأطر الشرعية والقانونية. كما أن ضمان الدولة والسلطة السياسية الحق في التعبير والاحتجاج الاجتماعي والسياسي السلمي بمختلف تمظهراته ومجالاته، والحرص على احترام روح الدستور هو الدليل القاطع على أنها سلطة تدرك مسؤولياتها في حماية الحريات الفردية والجماعية والالتزام بالمبادىء الديمقراطية التي ينبغي أن تظل السائدة في علاقاتها بمختلف فئات وقوى المجتمع، بما في ذلك تلك التي تناويء بعضا من سياساتها أو جلها. وليس ليغير من هذه الحقيقة، هنا أيضا، حدوث بعض الاحتكاك أو التجاوز، أو حتى بعض الشطط في استعمال السلطة هنا أو هناك، ما دام هذا ليس هو الاتجاه العام للسلطة وإنما هي أعمال فردية يعاقب عليها القانون كلما قام الدليل على حدوثها. بل إن لجوء السلطة إلى إعمال القانون لمواجهة تجاوزات الحركة الجماهيرية وخروجها من نطاق الاحتجاج المشروع لدخول دوائر المساس بالأمن الفردي أو الجماعي ليس ليغير من طبيعة السلطة والزج بها في دوائر العداء للمجتمع والشعب. نخلص هنا إلى أمرين: أولا، إن طبيعة الاحتجاج ومجاله وشعاراته وأهدافه ومدى ارتباطه بقضايا الحقوق والمطالب المشروعة في مختلف المجالات هو الذي يضفي عليه طابعه الديمقراطي حيث لا يعتد بهوامش التجاوز الذي قد يحصل على هذا المستوى أو ذاك من ممارسة هذا الحق. ثانيا، إن طبيعة تعاطي السلطات العمومية بمختلف أجهزتها مع الاحتجاج ينبغي أن تكون متطابقة مع طبيعة الاحتجاج على اعتبار أنها هي المدعوة إلى التعاطي مع قضاياه، لإيجاد حلول ملائمة لها تضمن الحقوق المشروعة في ظل احترام مقتضيات الدستور والقانون، وهو سلوك ذو اتجاهين وليس أحادي الاتجاه. إذ بقدر ما ينبغي فيه الحرص على عدم ترك الحبل على غارب من يقومون بتجاوزات لا يسمح بها القانون داخل الحركة الجماهيرية بقدر ما ينبغي الحرص اكثر على عدم ترك الحبل على غارب من يمارسون الشطط في استعمال السلطة. لأنه اذا كان السلوك الأول يفتح المجال امام الانزلاق الى نوع من تعميم الفوضى وإخراج الاحتجاج عن مساره الطبيعي، فإن السلوك الثاني غالبا ما يؤجج الاحتقان والتوتر ويساهم في تعميق فقدان الثقة بين الحركة الجماهيرية وبين السلطة وأجهزتها التي هي المعنية بالسهر على إيجاد الحلول وليس المساهمة في تأزيم الأوضاع. هل هذه حالة مثالية مستحيلة التجسيد على ارض الواقع؟ ليس هناك من جواب جاهز وقاطع على مثل هذا السؤال. لكنه ليس بالامكان التعاطي مع حركات الاحتجاج باعتبارها حركات ذات بعد ديمقراطي الا ضمن هذا التطلع المثالي. وهذه القاعدة هي التي تسري على من يحمل مطالب ملموسة، كما على منهو مطالب بالنظر فيها بالنظر لموقعه في هذه المعادلة الدقيقة من علاقات القوة المادية والمعنوية .