سألني بعض الأصدقاء، كل بطريقته الخاصة، مباشرة او مواربة، عن عدم تدخلي، بأي شكل من الأشكال، في الجدل القائم والمتناسل على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي منذ فترة حول معاشات الوزراء والبرلمانيين وحول مشكلة الأساتذة المتدربين والعنف الذي تعرضوا له من قبل القوات العمومية، وموقف الحكومة من هذه المسائل وغيرها. ولست اخفي هنا كوني غير متفق مع اُسلوب تناول هذه القضايا، من عدة أوجه أهمها: تسطيح النقاش والبحث عن تسجيل نقاط ضمن نوع من المزايدات السياسوية التي لا ترقى، من وجهة نظري المتواضعة، الى مستوى النقاش السياسي البرنامجي الذي يمكن ان يؤدي الى نتائج إيجابية على مستوى فهم هذه القضايا كما على مستوى إيجاد حلول فعلية لها.
ففي اعتقادي، ان كل الضجة التي اثيرت، ولم تهدأ بعد، حول كلمة صدرت عن هذه الوزيرة، او ذلك النائب البرلماني او حتى من رئيس الحكومة، مع الحرص على اخراجها من سياقها ليس بامكانها، مهما كانت صاخبة وقوية، ان تؤدي الى نتائج إيجابية على اي مستوى من المستويات، وأهمها مستوى إطلاق الحوار الجدي حول المشاكل الجوهرية الموضوعية التي يواجهها المغرب في مختلف المجالات .
وانطلاقا من هذا التصور، يبدو لي ان طرح قضايا التقاعد والأساتذة المتدربين والحركات النضالية للفئات والشرائح الاجتماعية التي تعتبر نفسها متضررة من قرارات الحكومة يفترض أول ما يفترض التعاطي معها من زاويا متعددة أهمها:
اولا، هل الحكومة المغربية تجاوزت صلاحياتها عندما اتخذت هذا القرار او ذاك ام انها لم تقم الا بما يسمح به لها موقعها الدستوري من حيث كونها مؤسسة تنفيذية ؟
ثانيا، هل احترمت الحكومة مسطرة اتخاذ تلك القرارات سواء على مستوى اشراك النقابات والمؤسسات المعنية في الحوار ام انها لم تقم بذلك وانما احتكرت القرار وخاصة في كل ما يتعلق بضرورة العودة الى الشعب او ممثليه بخصوص القرارات المصيرية التي ينبغي للسلطة التشريعية ان تقول كلمتها فيها؟.
ثالثا، هل تتناقض هذه القرارات مع نص او روح الدستور الذي يعتبر المرجعية الاساسية في الحكم لصالح القرارات المتخذة او عليها؟.
رابعا، وعلى افتراض ان فئات او شرائح مهنية او اجتماعية او تيارات سياسية مقتنعة بأن قرارات الحكومة ليست في مصلحتها او انها تتناقض مع الدستور او غيره من القوانين المرجعية، فهل تم التقيد بالإجراءات التي تنص عليها القوانين الجاري بها العمل في الإعلان عن رفض قرارات الحكومة والاحتجاج عليها وفق مقتضيات القانون ام ان الامر رافقته ممارسات تخرق القوانين والمساطر المعتمدة في طرق التعبير عن الرفض والاحتجاج؟
وإذا كان من حق النقابات والمعارضة السياسية، بل ومن واجبها الدستوري والأخلاقي ومن صلب وظيفتها، العمل على إبراز اي خرق ترتكبه الحكومة في حق الدستور او القانون او الاعتداء على صلاحيات اي مؤسسة من المؤسسات الدستورية، في هذا المجال او ذاك، فمن واجبها، هي أيضاً، وبالمقابل، ان تقدم النموذج على احترامها لتلك المؤسسات، وان لا تعتبر ان وضعها المعارض يسوغ لها القيام بما ينتقص من الوضعية الاعتبارية والعملية للمؤسسات بما في ذلك مؤسسة الحكومة ذاتها، بغض النظر عن الموقف الأيديولوجي او السياسي من التيار القائد لهذه الحكومة، على اعتبار ان معارضة اليوم يمكن ان تصبح أغلبية الغد ضمن منهجية ومنطق تداول السلطة ومن مصلحة هذه الأخيرة ومصلحة الوطن بالتالي، ان يتم احترام مختلف المؤسسات والاحتكام الى القوانين في الحسم في قضايا النزاع باعتبار ذلك من ابجديات العمل السياسي الديمقراطي خاصة ان الاستخفاف بأي مؤسسة من المؤسسات وتعمد خرق القوانين لا يساهم بأي شكل من الأشكال في رفع مستوى الممارسة السياسية والتقيد بمقتضيات العمل الديمقراطي الذي لا جدال انه يصب في مصلحة البلاد بالرغم من الطاقم الحكومي الذي يتولى التنفيذ وكذلك على رغم المعادلات التي تتحكم في الجسم التشريعي بين مرحلة سياسية وأخرى استنادا الى النتائج التي تفرزها صناديق الاقتراع.
ان القول بان القوانين، بما في ذلك النص الدستوري، ليست قوانين منزلة ومقدسة، وهو قول صحيح، لا جدال فيه بحد ذاته، لا يترتب عليه الخرق المنهجي لها من قبل أي كان، سواء الحكومة او المعارضة او النقابات او اي مؤسسة اخرى من المؤسسات المهنية او الفئوية، وانما العمل على إصلاحها وتغيير ما تقادم او تم تجاوزه منها او ما يعرقل تقدم الممارسة السياسية وتعميق الفعل الديمقراطي. وهو ما ليس ممكنا تحققه اذا لم يتم اتباع مختلف المساطر التي ينص عليها الدستور والقوانين المنظمة لهذه المؤسسة او تلك. ذلك ان ترك الحبل على غارب كل من لا يرضى على قانون او مؤسسة من المؤسسات وتسويغ كل ما يمس بجوهر الممارسة السياسية المنظمة تحت اي مبرر كان يفتح الباب على مصراعيه امام كل الممارسات المتناقضة والمتصارعة بقدر تناقض مصالح الفاعلين السياسيين والنقابيين وصراعهم على النفوذ والتأثير والسلطة خارج كل الضوابط التي تحظى بتوافق أغلبية مكونات المجتمع في مرحلة من المراحل من تطورها .
وبطبيعة الحال، فإن مسؤولية الحكومة في الحفاظ على الاستقرار والأمن الشخصي والجماعي للمواطنين، اذ يمر عبر احترام القوانين وروح الدستور ليس يعني ان تلجأ إلى ممارسة العنف تجاه أي تحرك لهذه الشريحة الاجتماعية او تلك، بدعوى خرق القانون وتحدي قرار الحكومة بمنع هذه التظاهرة او تلك وانما من خلال اعتماد أساليب تحقق هدف فرض احترام القانون من خلال الإجراءات القانونية المختلفة بما في ذلك الزجرية منها لأن استخدام القوة كثيراً ما يؤدي الى حرف الأنظار حقيقة عن جوهر المشكلات المطروحة الى مناقشات كان يمكن ان لا تكون ذات موضوع لو تم الحرص على تجنب استخدام القوة في مواجهة من ترى الحكومة انه يتحرك خارج دائرة القانون.
ولعل النقاش الذي أثير حول استخدام القوة في مواجهة الأساتذة المتدربين دليل على ان المسألة الجوهرية وهي مسألة الآفاق المفتوحة امام هذه الفئة الاجتماعية قد تم تهميشها ولم يثر نقاش جدي حولها لمحورة الأزمة حول سلوك القوات العمومية.
خلاصة القول: ان معارضة العمل الحكومي، في اي مجال من المجالات، حق مشروع يستمد شرعيته من احترام مختلف القوانين الجاري بها العمل في البلاد من جهة، وان معارضة هذا القانون او ذاك، عمل مشروع هو أيضاً متى تم احترام المساطر الخاصة بتعديل القوانين او إلغائها وسن قوانين جديدة تستجيب لمتطلبات المرحلة وتلبي طموحات أوسع فئات الشعب.
ويبدو لي، ان احترام هذه الآلية يجنب البلاد كثيراً من التوتر والاحتقان الذي لا يؤدي، في الأغلب الأعم، الا الى مراكمة السلبيات في الممارسة السياسية على قاعدة قانون الفعل ورد الفعل الذي لا يستند الى أي مبرر على مستوى خدمة الصالح العام، وانما يعصف على العكس من ذلك،بأساس جوهري من أسس الديمقراطية وهو تمكين كل مؤسسات النظام السياسي من ممارسة وظائفها المحددة في ظل احترام القانون والتقيد بمقتضيات المنهجية الديمقراطية في مجالات التنفيذ والتشريع والمعارضة في آن واحد.