تفيد الإحصائيات الرسمية أن حركات الاحتجاج في بلادنا، أصبحت عنصرا أساسيا في مشهدنا السياسي اليومي في مختلف جهات ومدن بل وقرى المملكة. فاليوم الواحد يسجل عشرات الاحتجاجات والوقفات في الساحات العمومية وأمام عدد من المؤسسات الحكومية بحسب طبيعة الاحتجاج والرسائل التي يرغب في إيصالها إلى الجهة أو الجهات المعنية. وإذا كانت المدن الكبرى مسرح غالبية الوقفات الاحتجاجية مثل العاصمة الرباط وأمام مجلس النواب بالذات، فإن وتيرة الاحتجاج قد بلغت أنأى القرى والمناطق التي لم تكن تعرف أي حركة احتجاجية قبل عقد من الزمان. ليس المهم هنا معرفة من يشاركون فيها من المواطنين، لأن الأعداد التي يتحدث عنها منظموها لا تتناسب، ولو بشكل قريب، مع الأعداد الرسمية آو الحقيقية التي هي دون الأعداد المعلنة من الجهة الأولى، وبما يفوق تلك المعلنة من الجهة الثانية. إنما على مستوى تواتر تلك الاحتجاجات على المستوى الكمي بحد ذاته معبر عن تحول ملموس في تعاطي جزء من المغاربة مع ما يعتبرونه قضاياهم المطلبية الأساسية تحتمل هذه الظاهرة قراءات متعددة كغيرها من الظواهر ذات الطابع المطلبي الشعبي المحدود أو الواسع لعل أهمها. أولا، واقع الحريات الواسعة الذي أصبح من مكتسبات هذه المرحلة السياسية في بلادنا، حيث لم يعد هناك حظر منهجي على الاحتجاج وطرقه المختلفة، الأمر الذي يسمح لأي مجموعة مهنية أو غيرها من التعبير المباشر عن مطالبها دون التقيد بالأطر التقليدية وخاصة منها النقابات المهنية التي كانت في السابق القناة الأساسية لمجمل تحركات عدد من الفئات الاجتماعية. وكان الإضراب القطاعي أو العام الشكل الأبرز لتلك الاحتجاجات. وليس ليغير من هذا الواقع شيئا ميل كثير من الأوساط الإعلامية وبعض المنظمات الحقوقية إلى الحديث المستمر عن تراجع الحريات، إذ أن هذه الأعداد المتزايدة من الاحتجاجات السلمية في غالبيتها تفند مثل تلك الادعاءات ، و إن منع الوقفات أو التدخل لتفريقها هنا أو هناك ليس إلا الاستثناء الذي يؤكد القاعدة العامة حول اتساع مجالات الحرية على هذا المستوى. ثانيا، بروز تيارات يتسع تأثيرها، يوما بعد آخر، تروج لعدم جدوى التحرك ضمن الأطر النقابية المعهودة وخاصة بعد التشرذم الذي عرفته النقابات المركزية وجعلها لا تتجاوز في الأغلب الأعم نطاق تأثير هذا الحزب السياسي الذي تتبعه أو ذاك مما أضعف من وزنها في معادلات التجاذبات الاجتماعية خاصة عندما تحاول هذه النقابة أو تلك التوصل إلى اتفاقات ثنائية مع هذه الجهة الحكومية أو تلك دون تنسيق العمل مع غيرها، الأمر الذي يضعف بالتأكيد موقعها التفاوضي، ويجعلها تقبل بأدنى ما يمكن الحصول عليه من مكتسبات، مما يمكن الحصول عليه لو أنها دخلت في حوار أو نضال جماعي وعلى أساس ملف مطلبي واحد. ثالثا، تنامي تبخيس عمل الأحزاب السياسية والنظر إليها بعين التشكيك بل والسخط المعلن في كثير من الأحيان، وهو تبخيس وسخط تنميهما تاكتيكات بعض التنظيمات الهامشية التي أدركت تماما أن وزنها، ضمن أي عمل جماعي منظم، لا يسمح لها بالتأثير في مجرى الأحداث وبالتالي، فإنها تحاول بكل الوسائل الممكنة التنظير لمختلف الأشكال النضالية العفوية لأنها تسمح لها بمحاولة تجييرها لفائدتها والإيحاء بأن حركة الجماهير الشعبية قد تجاوزت، بما لا يقاس، حركة الطبقة السياسية وخاصة الأحزاب الوطنية الديمقراطية التي تتعرض على الدوام لحملات سياسية بمناسبة ودون مناسبة. ذلك أن هذه القوى الهامشية ترى أن مدخلها الإجباري إلى التأثير، وربما قيادة حركة الجماهير أيضا، هو محاربة الأحزاب السياسية بدعوى كونها أحزابا إصلاحية متخاذلة في خطابها القديم، وتحولها إلى أحزاب مخزنية منبطحة وخائنة في الخطاب الذي يتم الترويج له في الوقت الراهن. رابعا، ومن الملاحظ التعتيم المنهجي حول مشاركة مناضلي الأحزاب السياسية في هذه الحركات الاحتجاجية والحرص على عدم الإشارة إليها، بما يمكن أن يصب في مصلحتها، بل يتم القيام بنوع من العمليات البهلوانية السياسية قائمة على مزاعم أن المناضلين الحزبيين قد شاركوا في تلك الوقفات أو الحركات بصفتهم الشخصية، وأن لا علاقة لسلوكهم بالتوجيه الحزبي الرسمي، وكل هذا إمعانا في التضليل ودعم أطروحة أن الأحزاب لا علاقة لها بأي حركة اجتماعية مهما كانت وأن مهمتها هي إفشالها وليس دعمها، أي العودة إلى بعض الأطروحات المؤسسة لبعض التيارات التي تعتقد أن نضالها هو الوحيد القادر على تغيير الواقع إن هذه الحقائق، تطرح عددا من التحديات الفعلية والملحة على مجمل الطبقة السياسية في بلادنا، بغض النظر عن الموقع الذي تتحرك منه، أي على المستوى الحكومي أو على مستوى المعارضة المنظمة، ولعل أهم هذه التحديات: أولا، إدراك أن تبخيس العمل السياسي المنظم يصب في صالح كل من ليس لديهم، أي إيمان بالمصالح العليا للبلاد التي ينبغي أن تكون في سقف كل التحركات الحزبية والحكومية على حد سواء. ثانيا، التعامل الايجابي مع الحركات الاحتجاجية، ليس لجهة تأطيرها ومنحها الإطار السياسي الملائم فحسب، وإنما أيضا، لجهة التعامل معها كمعطيات موضوعية ليس ممكنا تجاهلها، وإن هذا التجاهل يغذي كل التوجهات الفوضوية التي تتحين الفرص للركوب على الحركات الجماهيرية وتحريفها عن وجهتها المطلبية لمحاولة تقديمها باعتبارها الرفض المطلق لمحددات الانتماء الوطني تارة، وللنظام السياسي برمته، تارة أخرى، وهو ما رأيناه عندما يحاول البعض تدويل كل صغيرة وكبيرة باسم حقوق الإنسان والحريات أو غيرها من العناوين التي مهما كانت ذات أهمية بالنسبة للبناء الوطني، أي عندما يناضل من أجلها مواطنونا فإنها ذات مردودية سلبية بمجرد ما يتم تحويلها إلى عامل من عوامل الضغط الخارجي على البلاد.