في بلاد بواجهتَين بحريتَين واسعتَين، الأولى متوسّطية مشبعة بحكايات الأساطيل والحضارات والإلياذات الحربية، والثانية أطلسية مسكونة بالجيوستراتيجيات المبنية على التنافس، لا يمكن للسياسة أن تكون في منأىً من امتحانات الجغرافيا والجوار والهجرات. هذا القَدَر المغربي، الذي جعل بلاد طارق بن زياد تحلم منذ فتح الأندلس بحرق مراكبها، يُطارد المغرب. أحياناً تكون الحدود مصدر توجّس، شرقاً أو جنوباً أو شمالاً، وأحياناً أخرى تكون الحدود نفسها عربون انتماء إلى العالم المعاصر، بدوائره الجيوستراتيجية (الأورومتوسّطية أو الأفروأطلسية). شيء من هاته الجغرافيا يُفسّر الميل شبه الغريزي للمغاربة للارتماء في المحيط والمتوسّط، ويجعلهم شعباً مفتوحاً لكلّ الأغاني والأناشيد التي تغنّيها الحوريات، كما فعلْن مع «أوليس» في رحلة التيه على أهبة الهجرة. استيعاب هذه القدَريَّة الجغرافية في أطلس العوالم، ارتفع بالمغرب في منعطف العقد الثاني من العهد الجديد، إلى مرتبة البلد الجنوبي، الذي يقارب الهجرات غير النظامية بالأساس بمنطق البلد الشمالي، أي الاستيعاب، والإدماج، والتثبيت، وغير ذلك من مبادئ الإنسانية، الجيل الثالث من الحقوق الإنسانية في عالم اليوم، إلى جانب مقارعة المشكلات الأخرى التي تتعثّر فيها الدول الأوروبية المُجاورة. وبهذا تضاف مشاغل المهاجرين إليه إلى مشاغل أبنائه الذين يسكنهم وازعُ الهجرة، أكانوا نُخَباً تلقّت العلم والتكوين في مقاعد كلّيات الطب والهندسة (هجرة الأدمغة)، أو شباباً في بداية الحياة لم تسعفهم بلادهم بالأمل المناسب، الذي يجعلهم يبحثون له عن مطابقة أو ملاءمة مع الواقع. وهكذا، لا يمرّ يوم من دون أخبار عن هاته الهجرات، أغلبها في إطار القانون، بالرغم من الكتمان الذي يلّفه، وبعضها من قبيل محاولات السفر المحفوف بمزاج الطبيعة والأنواء، وأجندات حرّاس الحدود، وما تريده سرديات الحكم والعلاقة مع الجوار. ومن بين محاولات العبور إلى سبتة المحتلّة، هناك 00311 محاولة عرفها شهر أغسطس/آب وحده، وأكثر من 45 ألف محاولة هجرة غير قانونية منذ بداية العام، عرفتها سبتة ومليلة المُحتلَّتين، أعلنتها السلطات المغربية. كانت المحاولة الجماعية ليوم 51 سبتمبر/ أيلول الجاري، أكثر مدعاة للقلق وأكثر حضوراً في الحقل السياسي المغربي، إعلامياً وسياسياً. ومازالت تبعات التحقيق فيها متواصلة، ولذلك أسباب كثيرة، تتشابه في أكثرها مع الدواعي التي كانت وراء المحاولات السابقة. غير أن السبب الرئيس، الذي كان له وقع حاسم في الاهتمام البالغ والتتبع اللصيق تمثلَّ في ثلاثة عناصر شاملة: أولاً، هي المرّة الأولى التي تكون فيها دعوة عامة، منسَّقة ومبرمجة بدقة، تتمثّل في تحديد تاريخ للتوافد على نقطة العبور في شمال المغرب. دعوة صدرت من قلب الأوساط الاجتماعية المفتوحة على الفاعلين كلّهم. وهو أمر لم يحدث إلّا في لحظات بعينها في آخر عشرين سنة، لعلّ أهمّها دعوة مقاطعة المنتجات الاستهلاكية الكبرى التي تهمّ رأسمال شخصيات قريبة من السلطة، أو في قلبها، كما حال رئيس الحكومة الحالي. وهي مقاطعة ملأت صفحات الإنترنت، وشغلت الناس في يونيو/ حزيران 2018 أو دعوة مماثلة إبّانها عندما صدر العفو الملكي عن بيدوفيلي إسباني كان محكوماً في المغرب، يقضي مدّة الحكم في إحدى زنازين البلاد. وفي حالة الدعوة المُعلَنة إلى الهجرة السرّية، ما يُؤخذ على السلطات الحكومية خصّيصاً، والوساطات المجتمعية الأخرى، التي تملك القرار عموماً، أنّها لم تقم بما يفرضه الواجب في تحجيم هاته الدعوات أو العمل على إفشال مساعي أصحابها. ولعلّ هذا ما دفع السلطات (الأمنية والقضائية) إلى تعويض الغياب الحكومي، علماً أنّ الجهات المُختصّة اكتفت بتعقّب الذين كانوا وراءها، وقبضت على بعض منهم، في إجراء استباقي بدا غير كافٍ. يتمثل العنصر الثاني في الموقف الحكومي في تفسير ما حصل بعد حصوله. وهو موقف تعرّض ل»تعرية» كبيرة، لعلّ أهمّها ربطه بعناوين اجتماعية عديدة تراكمت، ذات دلالات مجتمعية صادمة، من قبيل مجريات الفيضانات والسيول في الجنوب الشرقي، التي خلّفت، في مجموع حصيلتها الإنسانية، وفاة عشرين شخصاً، والعديد من المفقودين، مع ما رافق هذا من انهيارات في المباني والطرق، عرّت هشاشة «المغرب المنسي»، كما يسمّيه المغاربة الغاضبون. وفي قراءة الموقف الرسمي، تبين أنّ أغلبية الجهاز التنفيذي اختارت التموقع بين «الأسف لما حدث» تعبيراً أدبياً عن إحراج سياسي لا يجد وسائل الإقناع، وتقييد القضية ضد مجهول، باعتبار أنّ الحكومة عبّرت، على لسان الناطق باسمها الوزير مصطفى بايتاس، في مؤتمره الصحافي الأسبوعي، عن «استغلال جهات غير معروفة لمواقع التواصل الاجتماعي لتحريض الشباب على الهجرة»، كما زادت على ذلك وظيفة إخبارية تمثّلت في إعلان «تقديم 152 شخصاً أمام أنظار العدالة»، في إطار محاربة دعوات التحريض هاته. وإذا كانت فرضية «الجهات المجهولة» والأيادي الخارجية واردة بقوة البداهة، حسب معطيات ما يجري في عالم اليوم، شرقاً وغرباً، وباستحضار شروط النزاع التي يكون المغرب في قلبها، وباستحضار ما يمثّله الريف المغربي، منصّة الهجومات المفضلّة، في استراتيجيات التوتّر الإقليمي مع دول الجوار،… إلخ، فإنّ هناك توجّهاً عاماً لا يستبعد احتمال وجود رهانات واستراتيجيات غير داخلية في التحريض، وفي تأزّم الوضع، لكنّه يرفض الاقتصار على الاستظلال بمظلّتها في تفسير ما وقع. ويرفض كذلك التلويح الحصري ب»المؤامرة» في ما وقع، لا سيّما أنّ السلطات الحكومية متّهمة بالتقصير، وبضعف استيعاب رهانات المغرب الاجتماعي، من بوابة أنّ الحكومة محكومة بهويتها النيوليبرالية، التي تجعلها عاجزةً عن تصريف التوافقات الوطنية الكبرى الخاصّة بالدولة الاجتماعية، وبمتطلّبات النموذج التنموي الجديد، الذي تبنّاه العاهل المغربي، وحقّق حوله توافقاً وطنياً واسعاً. حتّى أنّ هناك من يرى أنّ ازدواجية تحكّم أعالي الدولة بهذا الخصوص، بين الدولة الاجتماعية الديموقراطية والحكومة النيوليبرالية أو الليبرالية المتوحّشة. العنصر المستجد الثالث ما تركَّز من عواطف وتساؤلات وانفعالات بخصوص الصور التي نشرت عن الحادثة، والفيديوهات التي رافقت المعالجة الإعلامية لها. وهي صور أظهرت شبّاناً، أغلبهم قاصرون، عراةً إلّا من ملابس السباحة، أُجلِسوا أرضاً قرب سيّارة لقوات المساعدة في مشهد يُشعِر بالوجع. ولم تتأخّر ردَّة فعل النيابة العامة، التي أعلنت بعد مهلة قصيرة من الزمن «فتح بحث قضائي في الموضوع للوقوف على مدى صحّة هذه الوقائع وخلفيات نشر تلك الصور». كما أنّ المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وهو مؤسّسة دستورية مستقلّة، ومرجع على المستوى الأممي في مجاله، دعا في بلاغ (بيان) له «كلّ الأشخاص، راشدين أو أطفال، أو أولياء أمورهم، الذين قد يكونوا موضوع انتهاك لحقّ من حقوقهم، للتواصل مع المجلس، وذلك من أجل الاستماع إليهم في سياق التحرّيات التي يباشرها». بعد أن كان الأمن قد تولّى التعامل مع الوضع المُستجدّ، من بوابة «العنف المشروع» المتوافق عليه دولياً، رافضاً على ما يبدو أن يكون سدّ المواجهة لأوضاع يكون فيها القرار السياسي الحكومي (أو غيابه) هو السبب الأصلي، فإنّ التسفير الأمني لم يُهيمِن على المعادلة الهجروية القائمة، فلم تتأخّر المتابعة الحقوقية الرسمية منها والمجتمعية على أساس الدفاع عن الصورة التي أصبح المغرب يتمتّع بها في هذا المجال، بعدما حاز الاعتراف الدولي من خلال رئاسة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتّحدة للسنة الجارية، في مواجهة جنوب أفريقيا، علاوة على ما راكمته تجربته السيادية في مجال «الإنصاف والمصالحة»، التي قادها الملك محمد السادس شخصياً، وأسّست لقطيعة مع الانتهاكات الحقوقية كلّها، مهما صغرت، بعدما تجاوزت البلاد بعقدين على الأقلّ دولة الانتهاكات الجسيمة. ومهما كانت تفاصيل الأحداث ومجرياتها، فإنّ ما وقع لن يكون هو الفصل الأخير، كما أنّ المؤامرة، مهما كانت دواعي استحضارها وجيهةً، لم تعد سوى تفسيرات غير مقنعة، إن لم نقل إنّها قد تكون سيفاً بحدّين؛ من جهة، يستحضر ما تقوم به الأجهزة المختصّة في مجال محاربة التجسّس، والتدخل في شؤون البلاد الداخلية. ومن جهة ثانية، يزيد من إغراق الحكومة في المسؤولية، من باب أنّها لم تقم بما يجب القيام به، حتّى لا تتوفّر شروط الأزمة، التي يستغلّها خصوم المغرب ذاتهم، وفي الأحزاب كلّها. لقد فتحت الأحداث سؤالاً دامياً يتعلّق بمصير القاصرين الشباب، الذين مُنِعوا من استكمال كينونتهم وأحلامهم، في أطار تماسك مجتمعي، يمرّ عبر المدرسة والتكوين والتشغيل في مواجهة «القاصرين» عن سياسة الذين قد يجعلونهم رقماً في معادلات «المتآمرين»… وهم لا يحتاجون إلى دليل وجود. نشر« بالعربي الجديد» يوم 24.09.2024