توفيت مساء أول أمس الأحد الشيخة الفنانة عيدة التي تعتبر أيقونة فن العيطة العبدية. وشكلت الراحلة مرجعا أساسيا في فن العيطة، حيث تتلمذ على يديها عدد من الأشياخ والنجوم ،على اعتبار أنها تشبعت بهذا الفن المغربي الأصيل منذ صغرها، وترسخ في ذاكرتها أكثر من خلال ممارسة الغناء رفقة زوجها الراحل الشيخ الدعباجي. وتقول سيرتها ،إن الشيخة عيدة إلى جانب أخريات، نقلت أسلحة المقاومة بين مستلزمات عدتها الفنية في زمن المقاومة وهي شابة في مقتبل العمر، لتسلمها إلى رجال المقاومة،وهو ما عكسته أغانيها التي احتفت بالخيل والمقاومة، وجاءت المواضيع التي نشرتها بصوتها وإحساسها بين المغاربة، لتنتشر عبر ربوع المملكة من خلال أصوات أخرى ،التي رددتها في الحفلات والمواسم ،حيث حولت الأحداث التاريخية إلى مواضيع عن الوطنية تتغنى بها في زمن الاستعمار الفرنسي، وقد أكدت هذا خلال تكريمها بمهرجان العيطة من طرف وزير الثقافة الشاعر محمد الأشعري بقاعة الأفراح بآسفي. إنها من آخر المراجع الأساسية للعيطة الحصباوية التي تَبقَّت على قيد الحياة. تراث شفوي مغربي عميق مازال يمشي على الأرض. وطبعاً في غمرة النسيان والتجاهل المطلق. ارتبطت طوال حياتها بالشيخ امحمد الدعباجي (1997/1910) الذي يُعد أحد أهم شيوخ العيطة العبدية عبر كل تاريخها، وظلت بعد رحيله تعيش على ذكراه وتحدق في الفراغ الهائل الذي صار يحيط بها. ولدت الشيخة عيدة بمدينة آسفي سنة 1931 في أسرة متواضعة تشكلت من ثلاث بنات وثلاثة أبناء. توفي والداها وتزوجت مبكراً في سن الخامسة عشرة، اقتيدت إلى زوج يقطن بالبادية على طريقة الزواج العرفي (زواج بالفاتحة). وظلت هناك إلى أن اكتشفت فيها إحدى جاراتها أن لها موهبة الغناء، خصوصاً وأنها كانت معتادة على الغناء بين النساء في المنطقة وكانت تبهرهن وهي على تلك الصورة من صغر السن وقوة الصوت. وفي مناسبة عابرة، كما يقول الشاعر والمختص في فن العيطة حسن نجمي في إحدى مقالاته بجريدة الاتحاد الاشتراكي، التقت الجارة الشيخ الدعباجي داخل الدوار وفي القبيلة ذاتها التي تسكنها عيدة وينتسب إليها الشيخ (التمرة، قبيلة الدّْعَابْجَة)، فأخبرته عن الشابة الموهوبة. ولأنه كان بدون صوت نسائي لحظتئذ، إذ كانت قد غادرته شيخة اسمها شامة. كما غادرته قبل ذلك شيخات أخريات كنَّ يشتغلن معه مثل الشيخة فاطمة (التي تزوجها شيخ القبيلة الحسين الصنكي)، وشيختين أخريين من بني دغوغ بدكالة كانتا شقيقتين، توفيت الأولى وهربت الثانية (تزوجت لاحقا كما تذكر عيدة)، والشيخة عبوش... وبعد تردد سريع، سرعان ما أقنع الدعباجي الشابة عيدة بمرافقته للعمل معه. ولم تكن في تلك الفترة تجيد غناء العيطة، اللهم بعض البْرَاوَلْ الشيظمية المتداولة عادة بين النساء وبعض الأغاني الخفيفة مثل "الشيباني" و "العمراني": يَايْلِي يَايْلِي يَايْلِي يَانَا يَانَا يَانَا.. امِّي وَانَا يَانَا يَانَا ادْوِي يَحْضَرْ ويْجُودْ العَالِي وفي ستة أشهر، تعلمت عيدة العيوط. وكانت قد جربت العمل مع الشيخ الدعباجي ثلاثة ليالٍ، ثم قررت الانفصال عن زوجها والتفرغ للغناء إلى جانب أحد أكبر شيوخ العيطة. وقضت معظم وقتها تتعلم، تنصت وتحفظ متون العيطة العبدية (الحَصْبة)، سواء في البيت أو أثناء مرافقتها للفرقة التي كانت تتكون من الشيوخ الدعباجي (قائد الفرقة، الكمنجة)، لَشْهَبْ (توفي سنة 1972، الطعريجة) وعبد السلام (توفي سنة 1978، الطعريجة). وكان الشيخ يغني بمفرده بينما تتقاسم عيدة المردَّدات مع الشيخَيْن العازفين على الطعريجة. وتمكنت الشيخة عيدة جيداً من العيطة. ففي ظل شيخ يتقن مهنته وسبق له أن أخذ مبادئها عن أحد كبار أساتذتها المرحوم ادريس بن دحان (كانت والدته من بنات القايد عيسى بن عمر العبدي)، كان لابد أن تصبح عيدة شيخة ذات قيمة نوعية بعد أن تعلمت وأجادت: "بقيتْ مْعَاهْ يمَشِّيني.. يمَشِّيني حتى تْعَلَّمتْ". وبعد ذلك، أصبحت هي التي تتكلف بتلقين الشيخات الواردات على الفرقة أصول الغناء العيطي. وسبق للسي عبدالرحان اليوسفي بصفته وزيرا أول أن قام بالتفاتة كريمة اتجاهوسبق للسي عبدالرحان اليوسفي بصفته وزيرا أول أن قام بالتفاتة كريمة اتجاه الشيخة الفنانة عيدة ،حيث قام بتكريمها وقد انتقلت من مجرد «شيخة» إلى «رباعة»، أي عميدة «الرباعة» بالمفهوم الفني لهذا اللون الغنائي، حيث كان زواجها بهرم «العيطة الحصباوية» امحمد الدعباجي سر تألقها. شكلت «الشيخة» عايدة، إلى جانب «شيخات» زمانها، الدعامة الأساسية لفن «العيطة»، وكانت تتنافس على أعراس الوجهاء وعلية القوم مع زميلاتها في الحرفة، أمثال: فاطنة بنت الحسين، و«الشيخة نص بلاصة» والحمونية، وفاطمة العبدية و«الشيخة» الخوضة وسعاد الجديدية وعائشة بنت النكاسة الغندورية، ثم خديجة مركوم وغيرهن من «شيخات» السلطة والصولجان. بعد عقود من العطاء والحفاظ على فن العيطة الذي لقنته لعدة أجيال من الشيخات والأشياخ، تغادر الفنانة عيدة دنيا الناس، تاركة وراءها رصيدا من الأعمال الفنية الخالدة.