يعتبر فن العيطة من أرقى وأعقد الفنون الشعبية المغربية الأصيلة ، حيث لا يمكن اختراق مجالاتها الإبداعية سواء على مستوى العزف أو الإيقاع أو الغناء ، إلا من خلال تكامل وانسجام أطرافه الفنية المتداخلة والمكملة لبعضها البعض (مكونات المجموعة وآلاتها الموسيقية والإيقاعية) ، ومن المؤكد أن كل عضو داخل المجموعة العيطية يحاول إبراز قدراته ومواهبه لإثبات ذاته، كل حسب تخصصه والدور المنوط به، لهذا شبه العديد من المهتمين بمجال فن العيطة المجموعة الغنائية " القديمة " والوارثة سرها، بسربة الخيل التي يقودها العلام ومقدم السربة في تناغم وتجانس حركاتها وطقوسها الموحدة لبلوغ نشوة التميز ، على اعتبار أن كل فنان بمثابة فارس وعريس يمتطي صهوة آلته الخاصة . إن الإيقاع العيطي باختلاف "موازينه" يشكل فرصة لدراسة شخصية شيوخه ونجومه الفنانين الذين يؤدون أدوارا طلائعية وسط المجموعات الفنية الشعبية، والذين بصموا تاريخ الإيقاع " بآلة الطعريجة " التي يعتبرها العديد ممن استجوبناهم على أنها ترمز للتراث المغربي بشكل عام ، والفني الشعبي بشكل خاص ، لذلك ارتأينا أن نفتح هذا الملف لنطل من نافذة شيوخ الإيقاع العيطي ونغوص داخل " عوالمهم المعقدة " وتمثلهم " للطعريجة " كآلة مغربية رافقت كل أنماط فن العيطة منذ القدم ، مستحضرين العديد من الرواد وأعلام الإيقاع من أمثال الشيخ البيدق والشيخ الكوشي وحليمة الزاز من منطقة أحمر و الفنان عبد الرحمان برغوث والميساوي من منطقة خريبكة والفنان فريحي صديق الشيخ العتوكة الحمري والمبدع عضو مجموعة أولاد إبراهيم الشيخ بلعيد الطعايرجي ضابط إيقاعات منطقة أحمر، والشيخ فاتح من مدينة صويرة . اخترنا أن نركز في هذه الورقة على الشيخ والفنان العبدي عبد الدايم ولد الضو ابن منطقة سبت جزولة الذي ازداد سنة 1965 بأسفي واحترف في ميدان الطعريجة منذ سنة 1983 (له أربعة أبناء )، حيث يعتبر كأحد رواد الإيقاع العيطي والذي صاحب الكثير من شيوخ العيطة ومجموعاتها الفنية كالشيخ الحلاوي ، وامبارك الجمل و الشيخ الدعباجي والشيخة عيدة وإيقونة العيطة الشيخة فاطنة بنت الحسين فضلا عن الشيخ الستاتي عبد العزيز ومجموعة شيوخ العيطة الحصباوية برئاسة الشيخ جمال الزرهوني . يحتفظ الفنان عبد الدايم في متحفه الخاص ب واحد وخمسون (( 51 طعريجة من كل الأصناف والأنواع والألوان ويعتبرها كنزا ثمينا يؤرخ لمشواره الفني ولكل واحدة منها حكاية ودلالة تراثية وفنية، حيث صرح للجريدة بأنه يفضل صناعة آلاته الإيقاعية (الطعريجة) لوحده من خلال اختيار أجود الجلود بعد صقلها ودباغتها بطريقته الخاصة والمميزة (جلد الماعز والغزال)، وفي حديث شيق مع مايسترو الإيقاع العيطي بامتياز أكد أن " طعاريجه" المحبوبة تصدر رنينا شبيها بذبذبات موسيقية تتقاسم مع دقات قلبه الدم والروح، ويحس أثناء العزف على أنها جزء من ذاته وعضو أساسي من جسمه ، حينما يضمها لصدره وتلتصق على ذراعه مستسلمة لنقر أنامله اللطيفة التي تنبع منها كل إيقاعات العيطة (لبطايحي ولكباح / المدسوس ولمجرد/الحمدوشي والمسموكي/الهواري والروداني/العيطي بكل تفرعاته......). واعتبر عبد الدايم أن الطعريجة مكون أساسي وملزم للإيقاع العيطي الحقيقي ، وهي بمثابة زوجته الثانية التي يغضب عليها في أوقاته العصيبة ويخاطبها بلطف في أحيان كثيرة ، يقلق ولا ينفر منها قطعا ، يتواصل معها ليل نهار ويلمس طينها صباح مساء وينقر على جلدها كلما احتاج للتواصل معها في خلوته ، دائمة الحضور في باله حيث يقيم لها طقوسا خاصة لا يجيدها إلا هو وهي، وبدونها لا يستقيم لا العزف ولا الغناء العيطي لأنها بمثابة "الأم" الحاضنة لأبنائها ....هي الحياة، هي الحركة، هي الكواد، ومايسترو المجموعة وسائقها الخاص....وبحضورها تتفتق عبقرية الشيخ العازف والشيخة الطباعة والناظمة . عبد الدايم «المسكون» والمهووس بالطعريجة والإيقاع العيطي أكد الشيخ عبد الدايم على أن حركة إيقاعاته السريعة والمختلفة والبهلوانية (التخلاف والتكتاف) هي سر تألقه على خشبة الإيقاع العيطي السريع والمعقد وكأنك تستمع لسنابك الخيل وهي تحدث إيقاعا حربيا داخل محرك التبوريدة، وتشكل لوحة فنية لتراث غني ومتعدد الروافد والمجالات ، حيث تتحول شخصية الشيخ عبد الدايم إلى علام ومقدم سربة يمتطي صهوة " الطعريجة "، ويتفاعل مع كل أشكال العزق العيطي سواء بالوتر أو بالكمان ، بل أنه أكد للجريدة على إحساسه في بعض الأحيان بمس موسيقي خارق (اللبسة / مس جنوني خارق / الجدبة) يحوله إلى جسد ميت لا يشعر بالوجود، بعد أن تستقل أذناه وأنامله عن كافة أطراف جسمه، هكذا أكد عبد الدايم على أنه يسافر عبر الإيقاع ويسمو بذاته نحو الأفق محلقا بأجنحة الإيقاع والميزان ، دون أن يغفل عن صديقة حياته المحبوبة " الطعريجة " حيث حكى للجريدة أنه (تعرض لسقطة من فوق الخشبة بعد دخوله في مس وجدبة موسيقية وإيقاعية متفردة ذات سهرة أمام الجمهور دون أن يفرط في " آلته الطينية " التي يتقاسم معها مكونات الإنسان الأساسية ) . وعن ذكرياته مع " الطعريجة " أكد عبد الدايم أنها كانت سببا رئيسيا في سفره إلى القارات الخمس، وأدخلته إلى البيت الأبيض الأمريكي، سنة 1995/ 1996 فضلا عن سفره إلى عدة دول عربية وخليجية، وعن تطلعاته وآماله أكد للجريدة الشيخ عبد الدايم أنه... يتوق إلى إقامة معرض خاص "بالطعريجة " بكل أشكالها وأحجامها وألوانها ، للتعريف بها كآلة إيقاعية فرضت نفسها منذ القدم داخل كل الأنماط الفنية والغنائية ، ورد الاعتبار لها كمكون أساسي داخل مجموعات شيوخ العيطة، حتى لا يتم تغييبها وانقراضها أمام هجمة الآلات الإليكترونية الشرسة ، وعلبة الإيقاعات المستنسخة ، فضلا عن رد الاعتبار للصانع المغربي التقليدي الذي يتقن فن وصناعة الطعريجة بالعديد من المدن المغربية كأسفي والجديدة وأزمور وتارودانت ومراكش ......). حسب تصريح الشاعر إدريس بلعطار ابن منطقة أحمر للجريدة فإن تعريف الطعريجة بلغة محترفي الإيقاع العيطي هو (لبجيقة)، معتبرا شيخ الإيقاع على آلة الطعريجة ك " كواد " وسائق محترف يقود أعضاء الفرقة بشكل منضبط، ويحرص على عدم الوقوع في المحضور، مؤكدا على أن الإيقاعات الحصباوية تتسم بالصعوبة والعسر في الإيقاع والعزف والأداء والتلقي ملوحا بالدور الرئيسي لصاحب الطعريجة ، مستحضرا مثال (إيقاع الأم) المصاحب لمجموعة من الأغاني العيطية مشبها إياه بالأم التي يجب أن تحتضن أبنائها ولا تفرط فيهم، وفي هذا السياق أشاد الشاعر الزجال إدريس بلعطار بالشيخ عبد الدايم كنجم وأستاذ للإيقاع العيطي بالطعريجة، وكأحد أهرامات الإيقاع العيطي . أما بالنسبة للشيخ جمال الزرهوني فقد أكد على أن المبدع الشيخ عبد الدايم يعتبر أحسن طعايرجي في المغرب ، لذلك اختار أن يلقبه بالمايسترو دون منازع، والدليل في ذلك أنه يشتغل مع شيوخ الميزان الحي حسب قوله ويعتمد عليه داخل المجموعة العيطية في ضبط الإيقاع والميزان ، مستحضرا تاريخه الفني واشتغاله مع العديد من رموز العيطة سواء الشيوخ أوالشيخات . وفي حديث للجريدة مع مدير المهرجان الوطني لفن العيطة بأسفي سابقا الأستاذ محمد خراز أكد في شهادته المؤثرة على أن الفنان عبد الدايم هو فعلا مايسترو إيقاعات العيطة بكل أنماطها التسعة(9)، لذلك كانت استضافته خلال الدورة الثانية عشرة (12) لمهرجان العيطة لإبراز مؤهلاته الفنية ، مع مجموعته الخاصة التي شكلها آنذاك حيث قدم للجمهور عروضا فنيا غاية في الروعة مخلفا طيب الأثر لدى المتتبعين و الباحثين وفي مقدمتهم الدكتور حسن نجمي و الباحث سالم اكويندي، معتبرا الرجل بحضوره الوازن وسط كل المجموعات الفنية التي اشتغل معها طيلة مساره الفني يتفرد في التعاطي مع الطعريجة وإيقاعاتها المتعددة الروافد وأصولها الجغرافية ، وقيمة مضافة و نوعية للإيقاع المغربي. لا يمكن الحديث عن الإيقاع والطعريجة دون أن نستحضر الشيخ عبد الدايم العبدي حسب قول عابدين لأنه من الأوائل الذين مارسوا الفن والتصقوا بالحرفة والصنعة على مستوى الإيقاع العيطي ومنحها كل ما يملك من أحاسيس إلى درجة التملك ، بل يؤكد عابدين على أنه هو الذي أدخل العديد من التقنيات الإيقاعية وطور إيقاع الطعريجة ، والدليل هو اعتماد إيقاعاته المتطورة والمنظمة من طرف كل الاستوديوهات التي تشتغل في مجال ترويج الأغنية الشعبية ، مضيفا أنه يتقن ويتفنن في كل الميازين والإيقاعات المغربية ، والتي جعلته فنانا مشهورا يقرن اسمه باسم الطعريجة. وأكد الدكتور علي المدرعي بصفته أحد المهتمين بالتراث المغربي عامة وفن العيطة خاصة على أن الطعريجة هي آلة تراثية مغربية قديمة ، حيث تم استعمالها واستثمارها داخل المجموعات الغنائية قبل دخول الآلات الوترية الأوربية كالكمان أو مختلف آلات لوتار مع العلم أنها استعملت من طرف عشاق موسيقى الملحون ، ويضيف محدثنا إلى أنه حسب بعض الروايات الشفاهية ، فقد استلهمت آلة الطعريجة من رؤيا أحد مشايخ الملحون بعد أن شاهدها في منامه ومن تم أضحت الطعريجة آلة مغربية الصنع والبداية ، حيث سينتشر حضورها ضمن أغلب المجموعات الغنائية الشعبية، وركز على دورها الأساسي في المقامات الموسيقية العيطية المرساوية والحصباوية. بدوره أكد الشيخ محمد العكبة من مدينة الجديدة على أن الفنان المبدع عبد الدايم يمتاز بخصاله الطيبة وسعة صدره، ووارث سر إيقاعات الفن الشعبي المغربي الأصيل بعدما تشبع من ينابيع أجود وأمهر شيوخ العيطة عبر ربوع المملكة (المرساوي/ الحصباوي/الزعري/...)، فضلا على أنه يعتبر هرم من أهرام الأغنية التراثية الشعبية وأضاف أن عبد الدايم يحرص على تقديم النصح والإرشادات إلى كل أعضاء الفرق الغنائية التي يشتغل معها من أجل تحسين وتكامل جودة العزف والإيقاع والغناء، مؤكدا على أنه يتمتع بحس وأذن موسيقية متميزة وله دراية صحيحة بكل أنواع الإيقاعات الشعبية المغربية من طنجة إلى لكويرة ، ويرجع الفضل في ذلك إلى تتلمذه على أيادي شيوخ العيطة الأوائل، فضلا عن قيامه بجولات عبر ربوع الوطن للاطلاع على الجديد والتشبع بالموروث التراثي داخل كل المجالات الجغرافية وألوانها الغنائية المصحوبة بإيقاعات مختلفة والنبش في متونها.