خالد الخضري إن المفهوم السائد الذي شاع حول عنصر الشيخة المغربية يبقى للأسف مفهوما قدحيا لعدة اعتبارات سنحاول إنارتها في هذه الورقة، إنما الشيخة تعني تلك المرأة الفنانة الشعبية، مغنية بالدرجة الأولى ثم راقصة وقد تكون عازفة على بعض الآلات الموسيقية لاسيما ما هو مرتبط منها بالإيقاع (الطعريجة) ثم (البندير) (فالقراقب)... ومجمل الشيخات ذوات أصل بدوي. وبالتالي فإن هؤلاء النسوة كانت مهمتهم الأولى إدخال الفرح والأنس إلى بيوت المغاربة لاسيما الميسورين منهم، إلى أن شاع هذا النوع من الفن لدى مختلف الشرائح الاجتماعية خصوصا حين انتقاله إلى الحواضر.. فكما ذكر حسن نجمي في الجزء الثاني من كتابه (غناء العيطة)، فإن «الشيخات مرتبطات أصلا ببنية المجتمع القروي ذي الأصول العروبية، ولممارستهن الفنية واعتمادهن على الدوام في صناعة الأفراح وإقامة الاحتفالات» ص (45). وفي البداية لم يكن هذا النوع من المرددات يلغو بأي نوع من الكلام، بل هو نغم موزون ذو حمولات فكرية، اجتماعية وسياسية، أشهرهن حادة الزيدية الملقبة بخربوشة والكريدة وزروالة التي عاشت ما بين أواخر القرن 19 ومستهل القرن 20 بإقليم عبدة مستغلة مجمل قريضها لهجو وفضح القائد عيسى بن عمر التمري والحكاية معروفة. كما ارتبط عنصر الشيخة بالرقص والترفيه عن المتفرجين الذين يتكون أغلبهم من الذكور – خصوصا في البوادي- حيث يتوارى النساء في الظلام في الفضاء الشاسع المحيط بخيمة الحفل، وفي المدن وراء خصاص النوافذ.. وهذه حالة عشتها شخصيا في إقليم دكالة بالبادية حين كنت أرافق والدي أو أحد أعمامي للتفرج على «الربايع» (جمع رباعة) وهي فرقة شيوخ وشيخات غالبا ما تتكون من أربعة إلى خمسة أفراد: عازف كمان، عازف إيقاع بندير أو طعريجة والباقي نساء مهمتهن الغناء والعزف على طعاريج صغيرة لا لضبط الإيقاع صحبة الكمان بل لضبط إيقاع غنائهن مع الموسيقى، لذا كان يكتفي عدد كبير منهن في الستينات والسبعينات باستعمال علب كبريت (عود الثقاب) لضبط هذا الإيقاع، وقد اشتهرت المرحومة فاطنة بنت الحسين ومن معها بهذه الطريقة، وكان للشيخة آنذاك مكانة محترمة وسط الأسر، إذ كان سعيد الحظ من الوجهاء وعلية القوم في القبيلة من يدعى لتناول طعام العشاء مع الشيوخ و الشيخات وقت تسلم الهدايا والمساعدات المالية من المدعوين لصالح صاحب العرس وتسمى هذه العادة «بالحناء». غنت الشيخات العديد من المواضيع الاجتماعية والسياسية الحساسة بما في ذلك التحريض ضد الاستعمار الفرنسي الذي انتبه إلى خطورة هذا الكلام المدسوس وسط الفن الغنائي الشعبي، فبث عددا من أذنابه من شيوخ ومقدمين للتصنت عليهن وترجمة ما يرددنه.. فبدأ يعمل على تمييع سمعة هؤلاء الفنانات ووصفهن بالعاهرات وبائعات الهوى لذا عمل في منتصف القرن الماضي وبالخصوص بمدينة الدارالبيضاء إلى جمعهن في حي خاص (بوسبير) بدعوى «تنظيم المهنة» وذلك حتى ينفض من حولهن صفوة الناس وحتى تبقى الشيخات محط شبهة وشتيمة لمن يخالطهن، وهنا نستدل بما كتبه الراحل محمد زفزاف –نقلا عن كتاب غناء العيطة المومأ إليه»- حين زيارته الأولى للاتحاد السوفياتي ونشره في العدد 2 من مجلة (نجمة) سنة 1987 قائلا: «أثار انتباهي أيضا أن الرجال والنساء على السواء يغشون أسنانهم بالذهب، وهذه العادة كانت موجودة عندنا لكن سبة (أسنانه مثل الشيخة) جعلت الرجال يتخلون عنها حتى لا يصبحون مثل الشيخات، وكذلك النساء تخلين عنها حتى يبقين محصنات مصونات ولا يشبهن الشيخات.. ويا للشيخات المسكينات زارعات الفرح في الأعراس والمناسبات». و انتقل الإرث الاستعماري إلى السلطة المخزنية المغربية مع حلول الاستقلال، فغدت الشيخة مجرد سوقية مجبرة على الغناء في المناسبات، وقد شهدنا فعليا في السبعينات بالخصوص في سائر الحفلات الوطنية لا سيما عيد العرش حين كان يجبر الشيوخ والشيخات على الغناء وبدون مقابل في غالب الأحيان، وأيضا في السهرات العمومية مما يبث عبر الشاشة... وفي كتابه «فن العيطة بالمغرب» للباحث حسن بحراوي أورد ما كتبته الباحثة الأنتربولوجية الأمريكية ديبورا كابشن من حيث كون الشيخة «مجرد موضوع سلعي يعيش على هامش السلطات الاجتماعية والأخلاقية المتحكمة في بيئة ما تزال تعيش مشدودة إلى جذورها المخزنية والدينية... وبالتالي فهي كأي بضاعة أخرى معروضة في السوق بواسطة صوتها وجسدها الذي تطرحه في سياق الاحتفال العام الذي تشهده الأسواق والمواسم والأفراح، كما أن ارتباط الشيخة بالسوق يسوغه واقع كونها تترك الاحتشام وتتجاوز الحدود المسموح بها أخلاقيا داخل بيوت الأسر وتتشبه أكثر بمن يسمون غمزا في سمعتهن ب «بنات السوق». لكن رغم هذه النظرة الدونية الموروثة فقد تمكن عدد من الشيخات اللائي عرفت شخصيا من فرض وجودهن وأسمائهن في الساحة الفنية وحملن على عاتقهن مسؤولية الحفاظ على فن العيطة والتعريف به متغنيات بمضامين مختلفة، يكفي نموذجا من العيطة الحصباوية / العبدية: الفروسية (ركوب الخيل) و (كبة الخيل على الخيل) – الخصوبة الفلاحية والشجاعة (الحصبة) – المروءة والكرم (عزيبو في الميلحة) الحب والغرام (حاجتي في كريني) أولياء الله الصالحين (مولاي عبد الله) (العلوة) (مولاي الطاهر القاسمي)... وقد اشتهر من بين هؤلاء الشيخات/ العلامات، المرحومة فاطنة بنت الحسين –الحاجة الحمونية- فاطمة العبدية- الشيخة عايدة رفيقة عميد العيطة العبدية الفنان امحمد الدعباجي – الشيخة الخوضة والحاجة سعاد بالجديدة – عائشة بنت النكاسة والخادم من خميس الزمامرة - ثم حفيظة زوجة بوشعيب بن عكيدة – فخديجة مركوم صاحبة الصوت الرنان والطلعات القوية الصداحة.