ما إن يرخي الليل سدوله على مدينة البيضاء، حتى يتحول أناس عاديون وأحيانا مشهورون، إلى نجوم لليل البيضاويين وصانعين للفرجة ومثيرين للشهوات ومحركين للأحاسيس في فضاءات يطلق عليها الناس اللطفاء اسم الملاهي الليلية، في الوقت الذي تحمل فيها بنظر بعض آخر أوصافا وأسماء لها حمولات قدحية، من قبيل «الحفرة» و«الكباري» و«الدواخة»... في الزمن الفاصل بين شارع محمد الخامس و«لا كورنيش»، تتناسل الحكايات بكثير من الأسرار ويحكي كل فضاء (أطلنتيس، ريجنسي، نيكريسكو، عبر المحيط، فيلاج، كابادوس، نيولوغ، موال، ماتينيون...) عما يحتضنه من فن، له حس وأثر خاصين، ويروي عن فنانين اختاروا أو أجبروا على مرافقة الندامى والمهووسين بالإيقاع الذي يرقص بدوره على إيقاعات لحظات «الدوخة» أو «الطيارة» التي تقطع الصلة بين الراقصين وواقعهم في أحايين كثيرة. فن «الكاباريهات» بين الأمس واليوم هل هم فنانون أم غير ذلك؟ هو السؤال الفيصل بين قبول فنهم أم رفضه بنظر عديدين، «يجب ألا ننسى أن هذه الملاهي الليلية احتضنت أسماء الكبار، من بينهم فنانون صاروا العلامة الأبرز في تاريخ الأغنية المغربية، بعض منهم يطلق عليه الآن اسم رائد، في هذه الفضاءات كتب حيز كبير من التاريخ الفني المغربي، وهنا أستحضر أنني استمعت بكثير من المتعة إلى أغنية «ياكا جرحي» لنعيمة سميح و»القمر الأحمر» لعبد الهادي بلخياط في ملهى «نيكريسكو» القريب من المسرح البلدي الذي هدم، واستمتعت بأغنية «كان يا مكان» في «الفيلاج» لعبد الوهاب الدكالي وأطربتني أغنية «إنها ملهمتي» للراحل أحمد الغرباوي وسرحت بخيالي في أغنيات «بارد وسخون» و«وقتاش تغني يا قلبي» و«راحلة» لعندليب المغرب محمد الحياني، في مرقص «لافونتين»، في زمن جميل من زمن الفن المغربي، هذا دون نسيان الإشارة إلى أنني أمتعت أذني بخالدات أم كلثوم بصوت مغربي شهير في ملهى «نيولوغ»، هذا فضلا عن ليال لفنانات شعبيات كل هؤلاء وغيرهم كانت الملاهي الليلية تحتضن فنهم بشكل مختلف عما نعيشه الآن»، يقول ملحن مغربي رفض ذكر اسمه في تصريح ل«لمساء». ما إن تدق الساعة العاشرة ليلا كتوقيت شبه متفق عليه في كل الملاهي البيضاوية تقريبا، حتى يتغير الجو من هدوء مؤقت، إلى صخب دائم، وكأن الأمر يتعلق بدرجة السكر التي تنال من زوار الليل، والتي تنتظر فقط الإيقاعات لتعلن ارتفاع هذه الدرجة إلى «الدوخان» مرد هذا الصخب الذي يراه البعض جميلا ومتناغما مع حالتهم الطارئة حضور وافدين جدد جاؤوا في الموعد لأداء «نمرة ديالهم» وخلق أجواء «طربية» وأداء الوظيفة المفترضة فيهم. «شخصيا لا أميز بين فنان أو آخر، أحل في هذا الفضاء لقضاء الليلة والذهاب إلى حال سبيلي، قد أتذكر اللحظة التي يأتي فيها «الفنان» لاقتناص عشرات الدراهم أو قد أتذكر كلمات متبادلة أو كأسا مشتركا بيننا، لكنني لا أذكر أي شيء مما يقدمونه من غناء، يستوجب واثقا من القبول بما يغنونه وكأنه فن يحترم التقدير أو الاحترام؟ أقول هذا وأنا أستحضر أمام أعيني صور أشخاص تمتزج أصواتهم بحركاتهم، لا يعطونك الإحساس بالاحترام، في نظرك هل تنتظر من شخص يرقص فوق طاولة السكارى من أجل 100 درهم أو 50 درهما أن يمنحك فنا تتذكره في لحظة الصحوة؟ وهل تنتظر ممن سولت له نفسه أن يداعب الندامى بشكل أشبه بحركات الشاذ الذي يلعب دور الوساطة بين السكران وخليلته، أن يحترمك وأن يقدم لك فنا محترما؟ لو انتظرت هذا فأنت واهم لا محالة»، بهذه الكلمات يرد أحد زوار ملهى من الملاهي سالفة الذكر عن سؤال ل«المساء» حول نظرته لهذا الفن. وفي السياق ذاته يضيف الملحن: «في السابق كنا نأتي للملاهي لنرى أناقة الفنانين المغاربة، كانت القمصان شبيهة بالتي أصبحت الآن موضة، والسراويل قمة في الجمال، حينما تقترب من المغني، إذا استطعت، تسحرك رائحته وتتمنى أن تأتي مرة أخرى لرؤية الفنان أوالاستمتاع برائحته، هذا فضلا عن القيمة الفنية التي يقدمها لك من خلال أغانيه الخالدة، أما الآن فرائحة أغلب هؤلاء تساهم في تنفيرك من الفضاء في غياب أي مؤشر على فن حقيقي، فكل ما هنالك مجرد أشباه فنانين، يبحثون عن «رزق» ضائع بين جيوب السكارى، في نظرك حينما تسمع مغنيا يقول: «كوب كوب لي نشرب أو زيد جوج يا مول الروج هل ستسمح لنفسك في بتصنيف هؤلاء في خانة الفنانين، سيكون ذلك جرما في حق الفنانين الآخرين؟. فنانون يجنون أجورهم من البوشونات تختلف الأجور من فنان إلى آخر، هناك أسماء مشهورة كالداودية أو الداودي (في نيولوغ سابقا) أو الصنهاجي، تقول مصادر إنها تشتغل أو كانت تشتغل إلى وقت قريب رفقة جوقها بمبلغ 2000 درهم لليوم الواحد، دون احتساب الغرامة، في حين أن الفئة الوسطى تتراوح بين 500 و400 درهم لليوم الواحد، أما الفئة الثالثة فأحيانا لا تتجاوز 80 درهما، دون احتساب الغرامة. يمنح الفنان ثلثا من الغرامة، ويحصل صاحب الملهى على الثلث الثاني، في حين أن الفرقة كلها تقتسم الثلث الأخير، في غالب الأحيان يفرض مالك «الكباري» إشراك عازفين آخرين تقتطع أجورهم من ثلث الفرقة، وفي بعض الحالات يأخذ الفنان من المبلغ الإجمالي للغرامة ليمنحها للمسير (جيرون) ضمانا لبقائهم في هذا الفضاء. وهناك فضاءات وسط المدينة البيضاوية يشتغل فيها المغنون بدون أجرة، باستثناء الغرامة التي يتم اقتسامها مع الفرقة وصاحب الملهى، وأحيانا لا يكون وقت «النمرة» مناسبا لبعض الشباب أو أن يكون الإقبال ضعيفا، فلا يحصل على أي درهم، وقد يخسر مقابل ذلك. «غرامات» على إيقاع الشذوذ في ظل هذه المعطيات يلجأ بعض الفنانين إلى حلول لمنافسة أصحاب الملاهي الليلية في مداخيل الليالي الحمراء. ذكر أحد الفنانين المغاربة أن البعض يشترط على صاحب «الكباري» اقتسام مداخيل الليلة، ولضمان ذلك يلجأ إما إلى تعيين شخص مقرب منه قرب الصندوق (لاكيس) بعد إفراغه لاحتساب كل درهم واقتسامه في الأخير، أو يلجأ «الفنان» إلى تعيين شخص آخر لاحتساب عدد القارورات باحتساب السدادات (البوشون)، وللفنان نصيب النصف من مداخيل القارورات أو قد يزيد أو ينقص حسب الاتفاق المبرم بينهما. وفي حالات أخرى، يكتري «الفنان» فضاء ليليا يتكفل بجلب الفنانين الآخرين المقترح مشاركتهم في الليالي ويتكفل بأداء أجورهم، مقابل مبلغ مادي محدد بالمدة التي يتفق عليها الطرفان، في هذه الحالة يحصل الفنان على عائدات القارورات الكحولية كاملة ويحصل على الغرامة كذلك، كما أنه يشارك في السهرات، وهو ما يعني اقتصاد أجرة فنان. ومن جانب آخر، يرى نقابي مغربي أن بعض المغنين يميلون إلى الحركات الشاذة لاستمالة الزائرين، إلى درجة أن ملاهي بعينها تشهد مشاركة أسماء معروفة، وهذا رهان آخر من أصحاب الملاهي للرفع من المداخيل، وهؤلاء الشواذ يطلبون أجورا كبيرة مقارنة مع الفنانين الآخرين لا تخضع في الغالب للمعايير التي يتم التعامل بها عادة، لأن ضيوف هذه الملاهي ضيوف خاصون يجدون الراحة لخصوصيتهم ويجدون الفضاء مهيئا ل«احتوائهم» بشكل كلي، ومن قوة تفاعل أصحاب الملاهي مع هذه الحركات الشاذة واستئناسهم بها، صار فنانون شباب آخرون يلجؤون إلى تقليد حركات يد موحية بالشذوذ، بشكل تصبح معه هذه الحركات عادة وقد تتطور إلى حالة مستعصية تخلق مشاكل مع الأصدقاء أو العائلة، إذا ما نسي المغني أنه غادر الملهى الليلي. فنانون مغاربة تحولوا إلى خليجيين تأثرت مداخيل فناني الليل بأزمة الخليج شأنها في ذلك شأن العديد من القطاعات، ففي هذا السياق، قال ملحن مغربي: «بالفعل، تراجع إقبال الخليجيين على المغرب، في فترات الثمانينيات كنت أحصل على 700 درهم لليلة الواحدة، وتخيل تأثير هذا الرقم في سنوات الثمانينيات، أما الآن تقتسم الفرقة كلها مبلغا لا يتجاوز في أحسن الأحوال 500 درهم وأحيانا لا يتجاوز أجر الموسيقي 100 أو 150 درهما، وهذا يدل على التراجع، هو تراجع لا يرتبط بنقص الوافدين على المغرب فقط، وإنما لأن بعض الخليجيين تأقلموا مع الأجواء المغربية وفهموا بعض أساليب استمالة المغاربة (عاقوا بيهم) إليهم وسهل عليهم التعامل معهم، من جهة ثالثة تدخل الفتيات أو الأجساد المغربية على الخط، فأصبحن ينصحن الخليجيين بعدم الإسراف، لضمان أجرة الليلة، بعد انتشار «اللمة»». ولضمان علاقة متبادلة العطاء، يتحول المغنون ومعهم بعض ممن أثث البلاطو، إلى خليجيين، فلا تسمع إلا أغاني «الأماكن»، «يا طيب القلب»... ولا ترى إلا الأيادي المغربية المتشابكة الباحثة عن الدولارات ولا تلمح إلا الأرداف المنتشية ب«سخاء» الخليجيين، ويتحول السكير الخليجي إلى نجم فوق العادة تسمع اسمه عدة مرات دون مشاكل، إلا من احتجاج بعض من تحرك ضميره، وتكفي كلمات «الفيدور» البئيس ونظراته القاسية الموجهة لغير خصمه الحقيقي، ليخفت بشكل تدريجي تأثير هذا الاحتجاج. ويقول فنان مغربي إن بعض المغنين يلجؤون لضمان بقائهم في هذه الملاهي إلى ربط علاقات مع «وسطاء» لضمان ارتياد الفضاء الذي يشتغل فيه، للتعبير عن الوفاء للعمل وقدرته على استمالة وجذب ضيوف قد يكونون مغاربة أو خليجيين للملهى. فن بلا تغطية صحية لا يربط «الفنان» بصاحب الملهى الليلي أي عقد، هناك عقد شفهي، يمنح «الباطرون» للمغني أجرته ويتقاسمان في بعض الأحيان الغرامة، وفي حالة مرض الأخير، يأتي رب الملهى بمغن آخر قد «يستولي» على زميله، وفي حالة الاختلاف يجد المغني أو الموسيقي أجرته لدى حارس الأمن الذي يحرص على عدم دخول الفنان إلى الملهى، تفاديا لأي احتجاج، وتخوفا من أن يلتحق بالفنان المطرود زبناء الملهى. يحرم بعض الفنانين -كما سبقت الإشارة إلى ذلك- من الأجرة ويحرم من عقد يحمي حقوقه، هذا دون إمكانية الحديث عن التقاعد أو عائدات التأمين، بشكل يطرح السؤال حول الوضعية القانونية لهؤلاء. وفي هذا السياق، يقول ملحن مغربي: «حالة هؤلاء الفنانين صعبة وأحيانا يموت أحدهم فقيرا أو قد يمرض فيلجأ إلى التسول (السعاية)، وأتذكر أن عازفا للكمان، يعد أحد أشهر العازفين في تاريخ المغرب، يعرفه كل الفنانين، مات وجمعنا له ثمن الكفن والدفن، وكأن القول الذي نردده دون وعي أحيانا، «فلوس الحرام تمشيو في الحرام»، لها نصيب كبير من الصحة، لا أخفيك سرا أنني اشتغلت في الملاهي الليلية لعدة سنوات، فلم يخلجنا الإحساس في أن مداخيل هذه الفضاءات فيها قسط صغير من البركة، راه يتبعها النحس، سبحان الله، الله يسمح لينا على كل شي». هم فنانون (لو سألتهم) أو هم أشخاص اختاروا – برأي منتقديهم- أن يتخذوا «الفن» مطية لكسب رزقهم، مستفيدين من ظلمة الليل التي تحتفظ بالأسرار الكثيرة في المدينة البيضاوية، خالقين لأنفسهم العالم الخاص الذي يقي بعضهم سؤال الناس ويمنح آخرين سبيلا سهلا للاغتناء دون اعتبار للقيم الأخلاقية أو الأسرية أو الفنية، هذه الأخيرة التي تبقى بعيدة عن أذهانهم، لكن أسئلة عديدة مطروحة وتحتاج إلى أجوبة، من بينها: «هل حقا ما يقدم في الحانات و«الكاباريهات» يستحق أن نطلق عليه صفة فن؟ هل من الحق أن يقبل البعض باستغلال هؤلاء الفنانين ويهمش وضعيتهم القانونية؟وهل لهؤلاء الفنانين حق الإساءة إلى الفن المغربي في فضاءات مظلمة يختلط فيها تأثير إيقاع الكلمة بتأثير الكحول؟ وأخيرا أي دور مفترض للنقابات الفنية والوزارة الوصية على المجال الفني في هذا المجال؟ مطربون حاصلون على بطاقة « الفنان» يغنون في الملاهي في مكان غير بعيد عن ملهى «أطلنتيس» الشهير، يحتضن أحد الملاهي الليلية البيضاوية، موظفين، هم ثلاثة (ب، ر- ع، ك- ج، ع) من بين كثير وجدوا في «الكاباريهات» المتنفس لعشقهم لليالي الحمراء وحبهم لزوار الليل، أو ألفوا في أجر الليلة وغرامة الكرماء « الجواد»، دخلا إضافيا يقوي دخلهم المحدود، بما يشبه المغامرة بالعمل وبالصورة الوظيفية والأسرية في هذه الفضاءات التي لا ترحم. نقابيون من الفن المغربي، يواصلون رحلة الفن الليلي و«يدافعون» عن حقوق الفنانين المتخرجين من هذا الفضاء الخاص، وقيل والعهدة على الراوي إن بطاقة الفنان المغربي التي نوقشت في البرلمان وجلبت الصراع بين الإئتلاف المغربي للثقافة والفنون واتحاد النقابات الفنية وزعت في «الكاباريهات» وتسلمها العديد من المنتمين لهذه الفضاءات، والأكثر من ذلك أن نجوما من «استوديو دوزيم» أو «سهران معاك الليلة» زارت تلك الفضاءات قبل أو بعد شهرتها، وأطلت على الجمهور المغربي بكثير من الجرأة حيث ساعدتهم الملاهي الليلية كثيرا في اكتسابه، بتسويغ أو إغراء من نقابيين مفترضين. وبلغة متحسرة، يقول فنان مغربي رفض هو الآخر نشر اسمه: «للأسف إن بعض النقابيين المفترض فيهم الدفاع عن حقوق الفنان المغربي يساهمون في شن الحرب على أشخاص يبحثون عن رزقهم في الملاهي الليلة، في الليل يغيب النقابي حتى الصباح ويحضر «الفنان» الذي يتأقلم مع أجواء السكر والسهر والغرامة التائهة بين جيوب السكارى».