منهم من لم يتخيل يوما أن يصادف هذا «القدر» من النجاح. منهم من يمتلك موهبة أكبر من غناء الليل بين رواد المراقص والملاهي. منهم من اكتفى بمال الليل ولم يرغب في المزيد فنيا أو إعلاميا، لأنه حقق المراد اجتماعيا. ليل الدارالبيضاء يحفل بهم في فضاءات السهر المتعددة أو «الحفاري» كما يسميها ندماء الجلسة وأصدقاء النشاط والسهر. قاسمهم المشترك هو التألق ليلا وسط جمهورهم الخاص فقط. في الليل يتحول عزيز إلى كائن من «كوكب آخر» لا علاقة له البتة بعزيز ولد الدرب الذي لا يختلف عن الآخرين في ساعات النهار، سواء في ملبسه وحديثه أو جلسته في المقهى على طاولة الكارطة أو «الرامي». بعد مرور سريع في دوش الدرب، ثم تعريجة أسرع على الحلاق، يرتدي عزيز بذلة السهرة، ويمتطي سيارته باتجاه شغله الليلي في أحد كباريهات كورنيش عين الذئاب. عزيز عازف على آلة الأورغ الموسيقية الكهربائية، وشهرته في فضاءات السهر توازي شهرة لاعبي الكرة أو مقدمي البرامج في التلفزيون أو حتى بعض المطربين أو الملحنين... هنا عزيز يفرض قواعده والكل يخطب وده وينتظر أن يعزز ذات يوم صفوف محيي سهراته. غادر عزيز الدراسة بعد حصوله على الباكالوريا مباشرة بعد أن اكتشف أن طريقا واحدة هي التي سترسم معالم الحياة التي يبتغيها: الفن. بعد سنة واحدة في المعهد الموسيقي للمجموعة الحضرية للدارالبيضاء درس فيها السلم الموسيقي وتعرف على أسرار المقامات ومعاني النغمات، انخرط لسنوات أخرى في مجهود فردي للتحكم والتلاعب بآلة الأورغ التي عشقها منذ أول يوم لامستها أصابعه. كان قرار الاختيار بين الاستمرار في الدراسة أو التحول إلى الفن صعبا على العائلة فقط، أما عزيز فكان واثقا من أن تغيير قاعة الدرس بعرس ليلي أو حفل في الشبيبة المجاورة هو الخطوة الأولى لمسار سينتهي به حتما حيث يريد. يعتاش عزيز اليوم من شغل الليل... ويعتاش جدا جدا. صحيح أنه ما زال يستفيد من السكن في طابق خصصته له الأسرة بعد زواجه قبل سنتين، لكنه تمكن من توفير عيشة كريمة له ولزوجته ولابنيه، وعائلته الكبيرة أيضا. يتحفظ عن الحديث عن قيمة المبالغ التي يمكن أن يتحصل عليها كل ليلة، غير أن مقربين منه يحددون المبلغ فيما بين 5000 و 6000 آلاف درهم، متضمنا لما يمكن أن يحصل عليه من بقشيش أيضا من طرف زبنائه المتعددين. أحيانا يبحث الزبناء عن عزيز وفنه أكثر من أي شيء آخر في كباريهات عين الذئاب... عزيز حينها يبتسم مطولا... يومىء برأسه لتحية الهاتفين بإسمه... قبل أن يطلق العنان لأنامله الموهوبة لمنحهم لحظات المتعة و‘‘الحيحة‘‘ حتى الصباح. في جلباب عبد الهادي بلخياط نبيل مطرب اختص في استعادة ريبيرتوار الفنان المغربي الكبير عبد الهادي بلخياط منذ بداية اشتغاله في ليل كباريهات العاصمة الاقتصادية نهاية ثمانينيات القرن الماضي. قصة عشق قديمة جمعته مع أحلى ما غنى الصوت المغربي الأروع في الأغنية العصرية، ومن دون كلل يستعيد كل ليلة ما أتحف به عبد الهادي المغاربة على امتداد سنوات عطائه الطويلة من «لقمر الأحمر» إلى «الشاطىء» مرورا ب «صدقت كلامهم» و«ماتاقش بيا» وانتهاء ب«قطار الحياة»... لايبالي نبيل بالانتقادات التي تحاول أن تنعته بالمقلد لصوت عبد الهادي بلخياط فقط. وبالرغم من أن العديد من المنتجين حاولوا جره إلى إنتاج أغاني خاصة به، إلا أنه غالبا ما قابل دعوتهم بالرفض، معترفا بأن خوض المغامرة بصورة فردية هو أمر صعب للغاية، ومفضلا الاكتفاء بالاندماج في شخصية وصوت أقوى حنجرة مغربية. في عز السلطنة والاندماج، يتحول نبيل إلى عبد الهادي ثان، أو ربما هو عبد الهادي نفسه حين يغرد منشدا أروع الألحان، وزارعا الفرحة في موائد الحاضرين. من هنا وهناك تتناثر الورود على نبيل ومعها الأوراق المالية، لسعادته الغامرة. نبيل لا يقتصر على فضاء ليلي واحد بل يحاول قدر المستطاع وحسب المتاح، أن يغير من كباريهات تواجده. لنبيل فلسفة خاصة في ذلك فهو من جهة يحاول التنويع والتوسيع في قاعدة الزبناء، كما أنه يتفادى أن يتحول إلى أداة في يد أصحاب الكباريهات أو الملاهي الليلية عندما يحتكر أحدهم حضوره. حين يخطىء زوار الكباري أو الملهى الليلي وينادون على نبيل باسم عبد الهادي أو عبد الهادي الصغير فإن «للأمر إحساس آخر» يصرح نبيل للمقربين، قبل أن يستطرد بابتسامته الجميلة المعهودة: التماهي مع الفنان الكبير يكفي وهذا شرف كبير. النهر الخالد نجم آخر من نجوم ليالي الدارالبيضاء اسمه حسن. في محرابه الفني بملهى ليلي وسط المدينة يضرب موعدا مع عاشقي الفن العربي الكلاسيكي الرفيع على امتداد أربع ساعات كل ليلة. الليلة عند حسن تبتدىء من الساعة الحادية عشرة كل مساء، وتمتد إلى الثالثة صباحا. بمرور الدقائق يمتلىء المكان عن آخره، ويلتف العشرات من الندامى حول حسن وصوته العذب وأنغامه الأعذب. في ذلك الوقت ينتقل الواقفون والجالسون حول باقي الفنانين في المكان الذي يقدمون عروضهم إلى صالة حسن... ويتحول باقي الفنانين في الملهى إلى متفرجين بدورهم. «حسن نجم فوق العادة» هكذا يصفه أوفياء المكان ممن عثروا ذات ليلة على مكانه وقرروا عدم استبداله مهما كانت التضحيات... ومهما ارتفع ثمن الجعة أيضا أو المشروب المرغوب في احتسائه. فؤاد مهندس معماري لم يغير فضاء السهر في حضرة حسن منذ غشت 1994 تاريخ أول تصادف بينهما. فؤاد الذي كان يبحث عن كباري راق يقدم فرجة محترمة ويضمن بالتالي توافدا مشروطا، بالنظر لقيمة العرض، وجد ضالته عند «باحسن» كما يحلو له أن ينادي فنانه. مع توالي الزيارات نسج فؤاد علاقة خاصة مع حسن، وأصبح له مكان خاص على مقربة من المحراب! حين تجالسه لا تمل من حديثه الشجي، وبتلقائيته الكبيرة يشرع في سرد تاريخ حافل من العطاء والفن متواصل لأزيد من 50 سنة. جرب حسن حظه ذات سفر إلى العاصمة المصرية منتصف الستينيات في جيل من الرواد ضم عبد الوهاب الدكالي وعبد الهادي بلخياط وغيرهم من زبدة الموسيقيين المغاربة. عن تلك الفترة يحتفظ حسن بذكريات بعضها رائع وبعضها مزعج كما يقول، لكنه لا ينسى أبدا إقامته في بيت الموسيقار فريد الأطرش لستة أيام، اكتشف فيها حسن نبل وكرم والقيمة الإنسانية الكبيرة لفريد. طيبة حسن وتفاعله مع طلبات الزبناء زادت من قيمته في ليل الدارالبيضاء. غير أنه وعلى خلاف نبيل لا يرغب في الانتقال المتكرر من فضاء إلى آخر. تعرض عليه بين الفينة والأخرى إغراءات كبيرة من أجل تقديم وصلاته في عين الذئاب أو في المجالس الخاصة، لكنه لا يكترث ويرد العروض بدماثة خلق عجيبة. مستمر في نفس المكان الذي أوصله إلى شهرته الحالية ومكتف بالرغم من أنه لا ينقص فنا وخبرة عن فنانين معروفين جدا في سماء الشهرة... عن قيمته الفنية لا يرغب في الحديث طويلا لكن وفاءه لصاحب الكباري الذي يتسلطن فيه كل مساء لا يتردد في وصفه بنهر الوفاء الخالد. ليلى بنت التاشنويت كباري نجمة مراكش في شارع محمد الخامس بالدارالبيضاء لم يعد سوى طللا يقف أمامه نوستالجيو زمن النشاط الذي حفل به لعقود طويلة. استحضار العهد المجيد للنجمة لا يمكنه القفز عن أبرز اسم أنتجته العروض الفنية للمكان: ليلى الشينوية. في صالة الرقص كان يقام لها ويقعد. كان ينادى عليها باسم «تاشنويت» ولم تعترض قط، ما جعل اسمها ينتشر بسرعة أكبر. لقب «التاشنويت» استساغته بسرعة لأنها في «قرارة نفسها كانت تبحث عن اسم وشهرة تماما مثل التاشنويت الحقيقية» يعلق أحد رواد النجمة ممن عاشروا ليلى طويلا. بانتهاء زمن النجمة وجدت ليلى أحضانا مفتوحة في أكثر من ملهى ومرقص وكباري وسط المدينة وعلى كورنيش عين الذئاب. ليس فقط لقب التاشنويت هو من كان يفسح المجال لكن أيضا جمالها الأنثوي الصارخ، ورشاقتها العجيبة في الرقص والتمايل واللعب على استثارة الغرائز. إلى اليوم، حيث تقدم وصلتين راقصتين كل ليلة في مرقصين لا يبتعدان كثيرا عن بعضهما بعين الذئاب، مازالت الشكوك في قرابتها من الفنانة الأمازيغية «تاشنويت» ذات الوجود الفني الفريد والشكل المتميز تشغل بال جمهورها من رواد الليل.