المكتبة، بالنسبة لي على الأقل، مكان لاكتشاف أبواب تفتح على عالم يقع على الجانب الآخر. وخلف كل باب رواية مختلفة بألغازها ورعبها ومباهجها، تحوي ممرات مليئة بالمجازات ونوافذ تطل على رموز وخزائن مغلقة على قصة رمزية ذات مغزى. وأتمنى كشف طبيعة هذا العالم بحيويته وقدراته اللا محدودة في رواياتي. تجعل القصص من الأمور الغريبة ممكنة، وأؤمن أن تلك الأمور كونية الطابع وبإمكانها نفعنا. حين تستمر الكتابة جيدًا، يصير الروائي قادرًا على تشكيل تلك المنافع – وتلك الكونية – ثم تمريرها إلى قرائه/قراءها، لكن يمكن أن ترتد تلك الأمور تحديدًا على الكاتب. بعبارة أخرى، ليست الكتابة مجرد إرسال مخلوقاتك إلى العالم ونسيانها، فمن المحتمل أن تعود طائرة إليك مثل البومرانغ. وحين يحدث ذلك، يأخذها الروائي بداخله مرة أخرى ويمضغها جيدًا ثم يرسلها مرة أخرى في شكل جديد، ثم تعود طائرة مرة أخرى؛ وهكذا تولد دورة إبداعية على نحوٍ ما. دعوني أطرح مثالاً محددًا عليكم. وضعت جزءًا من أحداث روايتي «يوميات طائر الزنبرك»، في منغوليا إبان حادثة نومونهان. حلت تلك المعركة – التي يمكن اعتبارها مقدمة للحرب العالمية الثانية بلا شك – في صيف عام 1939، حين اصطكّ جيشا إمبراطورية اليابان والاتحاد السوفيتي من أجل التحكم بحدود منشوريا وحدود منغوليا الخارجية، وكانت معركة دموية للغاية رغم أنها في نطاق محدود، إذ بات للطيران العسكري والدبابات والمدفعيات بعيدة المدى شأن طوال فترة ممتدة لعدة أشهر، وقد قتل العديد من الجنود. وعلى الرغم من أن المعركة انتهت بورطة حين انسحب الجيش السوفييتي إثر غزو ألمانيا بولندا، إلا أن الحقيقة أن الجيش الياباني قد انهزم. ونتيجة لذلك، تكتم الجيش بشدة على معلومات المعركة، وظل ما حدث بالتحديد هناك مدفونًا. حين كنت أكتب «يوميات طائر الزنبرك» التي تقع أحداثها في اليابان خلال العصر الحالي – لكنها مكونة من عدة قصص مرتبطة –، حدث موقف أشعرني برغبة لمحاولة وضع أحداث إحدى القصص في منغوليا. تقع قرية نومونهان اليوم قرب الحدود المنغولية في منغوليا الصينية. ولأنني لم أكن في ذاك الجزء من العالم من قبل، فقد كانت أوصافي متخيَّلة بالكامل؛ إذ أتاني منظر المكان بقدر ما أمضيت قدمًا في الكتابة. وبعد نشر الكتاب، زرت مكان المعركة. على الرغم من أنها كانت أول مرة لي هناك، إلا أنني قد تصورتها بدقة – راسمًا مما يمكن تسميته "خيالي الروائي" – دَفَعَتْني إلى أن أحس بالألفة تجاه ذلك المكان. وفي الواقع، غمرني ديجافو قوي دفعني إلى الشعور بحنين غريب. تغيرت أرض المعركة الواقعة في صحراء شاسعة وخالية لبضع مرات فقط منذ آخر يوم للمعركة، إذ لا توجد طرق في المنطقة، وقد سد الجيش الطريق على كل المدنيين بسبب قربها من حدود الصين. ونتيجة لذلك، قلَّ من يزورها. كما أن الهواء جاف جدًا لدرجة أن أي شي من المعدن – وبالتحديد الدبابات المعطوبة وأماكن توزيع الطعام المدمرة وقذائف المورتار وأغطية الرصاص المرمي في كل مكان – قد احتفظ بشكله الأصلي ما عدا طبقة ضئيلة من الصدأ. كان – باختصار – مكانًا شديد الغرابة، إذ ساد المشهد نهار ساطع وحار في آن واحد، فشعرت وكأنني سُحبت فجأة نصف قرن إلى الوراء نحو أرض في منتصف التاريخ، حيث جرت معركة دموية قبل أيام. تجولت لساعات في كثبان الرمل فاقدًا كل كلمة. كان المكان صامتًا برمته ما عدا صفير ريح بسيط، وكأن الزمان انقلب. كانت رحلة العودة إلى الفندق طويلة وخشنة على متن سيارة جيب روسية، وتغطيت مرهقًا تحت الأغطية ما إن وصلت غرفتي. وبعد منتصف الليل، بدأت الغرفة تهتزّ بعنف لدرجة أنها أسقطتني على الأرضية. خطر ببالي أنه زلزال، زلزال كبير، وعليّ الهروب من هنا. إذ كانت الأرضية تهتز بشدة لدرجة أن الحركة المتاحة لي هي عبر الحبو على يديّ وركبتيّ. كان كل شيء غارقًا في ظلمة حالكة، وأخيرًا، استطعت الوصول إلى الباب والحبو إلى قاعة الاستقبال، بيد أن الزلزال توقف ما إن تخطّيت الباب. كانت قاعة الاستقبال هادئة تمامًا، ولا أحد فرَّ من غرفته مذعورًا. اختلست نظرة تجاه الغرفة المجاورة (لم يقفل صاحبي في الرحلة الباب)، لكنه كان نائمًا، كأنه لم يحس بأمر غير طبيعي يحدث. كان عقلي يدور بشدة – فما الذي حدث بحق هذا العالم؟ تطلب الأمر عدة دقائق لكي أتّزن. وخلصت إلى أنه لم يكن هناك زلزال. بل أن ما حصل كان – بدلًا عن ذلك – في داخلي. إصابة باطنية. لم يكن ذلك منطقيًا، لكن ما من تفسير آخر. أمضيت بقية الليلة جالسًا على أرضية غرفة شريك رحلتي – لم أجرؤ على العودة إلى غرفتي – أتفكّر حتى بدأت ألوان السماء خارج النافذة بالتفتّح. تخيلت مشاعر الرجال (وغالبهم شبان قرويين من الرف) الذين أهدروا حيواتهم عبثَا على قطعة الأرض الخراب تلك التي لا تحمل أي قيمة استراتيجية – خلال حزنهم وغضبهم وألمهم. عند الشروق، تكّ شيء ما بداخلي. وأستطيع القول أن "الزلزال" قد قادني إلى فهم شيء ما – حسيًا وذهنيًا. وقد يبدو ما أقول مبالغًا فيه، لكني أحسست أن تركيب عناصر ما أسميه ذاتي قد أعيد ترتيبها بهذه التجربة. كتابة الرواية خلق قصّة لتحريرها من رأس شخص. قد تكون مختلقة بالكامل أو منافية للمنطق بالمطلق، لكن ما إن تظهر بصيغة مطبوعة – إذا كانت على الأقل قصة سويّة بلا خلل – تحيا بذاتها وتبدأ بالعمل مستقلة، مما يعني أنها تقدر على مفاجأة الكاتب وقراءه في أكثر اللحظات اللا متوقعة مظهرة أفقًا صادمًا جديدًا من الواقع. ومثل صعقة برق، تستطيع تحويل الأشياء المألوفة من حولنا، جاعلة من ألوانها وأشكالها خارقة للطبيعة، أو تكشف عن أشياء ليس لها أن تكون هناك. وبالنسبة لذهني، فهذا ما يمنح القصص معناها وقيمتها. أعتقد أن تجربتي خلال آخر ليلة ما في الفندق على الحدود المنغولية مثال على هذا النوع من التجليات المفاجئة، إذ احتاجت قصتي إلى صياغتها بطريقة أوضح وأصلب. وهكذا أراها الآن، فقد قادني الفضول المحض إلى كتابتها في المقام الأول. ما الذي حدث بالضبط في أعماق الصحراء المنغولية عام 1939؟ كانت المشاهد التي وصفتها نتاج خيالي، وقد اخترت مادة القصة بسبب المكان والزمان وليس بسبب نية مضمرة أو رسالة أدرجها، لكن ما إن اتخذت هذه القصة الخارجة من هذه العملية هويتها الخاصة حتى تطلبت قدرًا أكبر وأعمق من الالتزام من خالقها، أي أنا؛ فقد أصرَّت أن أتقبل مسؤولية ما كتبْتُه. ولهذا السبب، قادتني إلى الفندق الصغير في الصحراء المنغولية ودفعتني إلى الإحساس بذاك الزلزال الشخصي العنيف في منتصف الليل. هذا ما أشعر به. يخلق الكاتب قصة، والقصة تخلق رد فعل متطلبة قدرًا أعلى من الالتزام؛ إذ تثري هذه العملية الكاتب عبر دفعه إلى الحفر بمسافة أعمق لإدراك إمكانات القصة الفعلية، وأنا على وعي بأن الحركة الدائمة مستحيلة في هذا العالم. رغم ذلك، إن مال كاتب نحو بضاعته مقتصدًا بقوة الخيال والدأب الذي أمد أقرانه بالطاقة منذ قديم الزمان، فأعتقد أن دورة القصّ الكبرى هذه ستستدام دافعة الأدب إلى الأمام – أو إلى أقصى ما تستطيع المضيّ إليه على الأقل –. وإني لأثق بهذا التفاعل الدوري بين الكاتب والقصة قدر ما أستمر بكتابة رواياتي. ربما أني مفرط في تفاؤلي. لكن إن لم يبق كاتب على أمله، فأين المعنى والمرح في ما يقوم به؟ وإذا فقد الكاتب ذلك المعنى والمرح، فكيف له أن يروق لمن يجتمعون حول النار باحثين عن الراحة من الزمهرير والجوع واليأس والخوف المحيطين بنا؟ عن موقع Monkyالياباني