يعتبر البحث عن المعنى أحد دوافع التلقي، كما أنه، أي المعنى، أحد المنطلقات الأساسية لصناعة حبكة سردية متماسكة بوسعنا نحن كقراء أن نلحظها من خلال تتابع وانتظام الحدث مرتبا عبر الزمن، وبعبارة أخرى؛ في توالى مكونات المادة السردية على نحو سلس دون لف أو دوران أو التواءات. وليس يخفى أن القصة القصيرة قد احتلت مكانتها بين السرديات كجنس أدبي ينطبق عليها ما ينطبق على بقية الأجناس، فمن ناحية لم تعد الأخت الصغرى للرواية فحسب بقدر ما هي جنس منافس لها من حيث القراءة والتلقي، ومن حيث الشمول والمعالجة، ومن ناحية أخرى تأثرها بنظرية الجزء والكل، إذ باتت تتناول زاوية واحدة من زوايا الشخصية، أو لحظة أو موقف محدد. وإذا كانت القصة هي نقطة العبور نحو الرواية بحسب بعض النقاد فإن العكس هو الصحيح بالنسبة للروائي المغربي عبد الله مرجان الذي ابتدأ روائيا برواية (رحلة العلقم) لينتقل قاصا مع إصداره الثاني (حب في مخفر الشرطة) قيد القراءة. في القصة المعاصرة نصطدم بنصوص عبارة عن ألغاز، قصص أنهكها التجريب، تعول على دعامات حداثية أو حداثوية نعيش معها الحدث كلاحدث، لا نكاد نقبض على الحدث أساسا، بل إن هذا الأخير يتحول إلى أضحوكة، لا نكاد نعرف له البداية من الوسط من النهاية، كل شيء مفكك، نفقد ذلك الترابط العضوي الضروري الذي تتأسس عليه القصة، كل شيء متشابك على نحو سفسطائي متفلسف، وكأنها تخاطب قارئا سرياليا، إذ يضعك هذا النوع من القصص بموقف أشبه بمحقق بوليسي اختلطت عليه خيوط الجريمة، متى ما اقترب من النهاية إلا ويعود تائها إلى البداية، وبالتالي نجد أنفسنا أمام قصة بلا معنى، قصة تتأسس على الإيغال في الترميز والتشظي. هذا الخفاء، أعني خفاء المعنى، لا نعثر عليه في قصص القاص عبد الله مرجان، بل إننا نعتقد أن قوة المجموعة في اكتسابها لهذا المُحَدِّد؛ ألا وهو وضوح المعنى، وبنظرنا فإن المعنى هو الموقف الذي يتجسد بالحدث، فحسب وباختصار. وحتى الشخوص أيضا يجب أن تكون تجسيدا للمعنى، الزمن، المكان ..الخ. وإذا كان المعنى، بحسب فقهاء اللغة، هو الصورة الذهنية للفظ، هو المضمون، أو الفحوى، أو الدلالة التي يدل عليها اللفظ، سواء كانت دلالة مباشرة أم إيحائية، فإنه يكشف عن نفسه من تلقاء نفسه في قصص (حب في مخفر الشرطة)، ليس حصرا للنص على معنى وحيد وإنما يشير إلى أكثر من معنى يريده القاص، أو لا يريده، معنى متعدد لكنه لا يناقض أو ينافي حقيقة القصة وجوهرها. حتى أن الانتقال من قصة إلى قصة أخرى داخل المجموعة يتيح للقارئ فرصة الربط العضوي بينها دون مشاكل، ذلك أن مواضيعها تتعدد، كل قصة تتحدث عن تيمة مختلفة، كل قصة وشخصياتها وممكناتها القرائية. إن القاص عبد الله مرجان اشتغل على تعددية القضايا المطروحة وتشعبها، شخصيات ووجوه ليس لها نفس التوجه والمصير، لكن الأهم في تقديري هو التركيز على حدث أساسي داخل كل قصة في وضوح وتتابع منطقي، ففي قصة (عزلة وأصوات) يتطور الحدث تطورا يشف عن طبيعة ونفسية الشخصية الانعزالية، هكذا يسمع السارد أصواتا تخترق عزلته، يتوهمها أصوات مخلوقات من عوالم أخرى، عفاريت أو ما شابه، يكتشف في نهاية القصة أنها تهيؤات نفسانية نتيجة للعزلة، ليتجلى المعنى أمامنا بأن العزلة ببساطة هي مرض نفسي أو لنقل بتعبير آخر هي عبارة عن وضعية نفسية غير متوازنة، أو نفسية لا تريد الخضوع للأوامر لذلك تعيش بمعزل عن الآخرين، تحبس نفسها داخل عزلتها إلى درجة التوحش، وهو ما تعززه القصة الأخرى بعنوان (المرآة) عندما يقول السارد في نهايتها: "أنا ذلك الوحش الذي أخافني" ص 40، إذ تتحدث القصة عن رجل يجلس في مقهى، وشخص مقابله، ينظر إليه، وأي حركة يقوم بها يعمل مثلها، في اليوم الموالي يعود لنفس المكان في المقهى لكنه لا يرى ذلك الشخص، ويتضح أنه ليس سوى انعكاس مِرآتي سرعان ما تلاشى بعدما أزال نادل المقهى المرآة. يتجسد في القصة معنى الخوف من الذات، ومعنى الحيوان الذي يسكننا من بوابة المرآة الصريحة التي لا تخبئ عنا شيئا. إن المعنى هو الأساس، وهو نقطة الارتكاز عند القاص عبد الله مرجان. إنه الأمر الذي يشعرنا بأن هذه القصة أو تلك حزينة أو كوميدية أو حفلة فرح وليست قصة ضائعة المعنى. وبحسب النقاد، تكتسب القصة نكهتها المتكاملة عندما تجيب على أسئلتنا البدائية، أين وقع الحدث، وكيف حدث، ومتى حدث، وماذا وقع، ولماذا؟ من هنا نستطيع أن نكتشف دوافع الحدث في قصة (نزوة غير مكتملة) دون حاجتنا إلى تدخل جهات معينة لإنقاذنا من متاهات الكتابة المفككة، بحيث لا نحتاج الكثير لكشف أسرار القصة ومعرفه مغزاها في تعريتها لحقيقة الرجولة الزائفة، التي تعتقد أن الحب سرير وليل وتضع أمامنا بوضوح الجزء المكبوت في البشرية الذي يختصر الأنثى في الشهوة. نقرأ في أحد حواراتها: "اسمي حسن وأحب أن أخبركِ أن اسمي يطابق جسمي خصوصا في النوم، أما بعيدا عن الفراش فقد أكون اسما آخر. (ترد عليه المرأة) آه أنت حسن في السرير إذن، أما في غير ذلك فأنت سيء". إن هذه القصة تجسيم، أو تجسيد، لمعنى راسخ في مخيلتنا الثقافية يحيلنا على فحوى المقولة المتداولة عن مفهوم الزواج: "عن الزواج، لقد حدثوك عن الليل ولم يحدثوك عن النهار". وفي (قصة بدوي في البيضاء)، لا يلزمنا الكثير من الوقت لنفهم كم يتوق الإنسان نحو التغيير، القصة تتحدث عن الإنسان البدوي وبداية بحث عن حياة بديلة في المدن، بدوي ينتقل إلى المدينة، لن نستدعي الحدس أو ارتباكات الحاسة السادسة لكي تخبرنا بأن ما يريده السارد هو البحث عن الأفضل وفقا لقاعدة وضوح المعنى التي نتحدث عنها هاهنا والمُوظفة في قصص المجموعة ككل. نقرأ "أمضى ليلة كاملة يخطط لمستقبل يلفه الغموض". إن كل عناصر بناء الحدث موظفة بطريقة أو بأخرى لتغذية وتعزيز المعنى بما يعطي الانطباع أننا أمام نصوص غير فاقدة للبوصلة كما باتت تعرفه القصص الحداثوية أو المابعد حداثوية. في قصة (يوميات أسير) التي تنتمي لأدب السجو،. تتكرر فيها الانفعالات النفسية والمشاعر السلبية من إحساس بالخوف والرعب والتوحد، هذا التكرار له ما يبرره، فتمة توافق بين التكرار وبين حياة الأسر. القصة تعبر عن حالة الضياع، أو المآل الذي تؤول إليه حياة أسير كان من المفروض أن يكون في مرتبة أعلى اجتماعيا ومكانة اعتبارية تعيد الاعتبار له كواحد من المدافعين عن الوطن وهو الشيء الذي لم يحظ به بطل القصة. إنه تصريح واضح، ولا نعني بالوضوح هنا تلك البساطة الكامنة في القصص الشعبية فتبدو كما لو كانت قصة واقعية خالية من العمق. وهذا ما نلمحه كذلك في قصة (العسكري والأفعى)، قصة تتبلور فيها تقنيات القصة القصيرة، كما تتوفر كذلك على مقومات السرد الروائي إذ تحكي قصة ممتدة من الطفولة إلى فتوة الشباب والتحاق البطل بالجيش وإلى وفاته متأثرا بلدغة أفعى، لعل الكاتب متأثر بالخط السردي الروائي، فالقصة تختلف عن الرواية، كما هو معروف من حيث اللغة ومن حيت الزمن السردي. زمن القصة قصير ومحدود أما في الرواية فهو زمن طويل ممتد، إذ "تعرض الرواية للشخص من نشأته إلى زواجه إلى مماته… أما القصة فتكتفي بقطاع من هذه الحياة، بلمحة منها، بموقف معين أو لحظة معينة… الرواية تعتمد على التجميع بينما القصة تعتمد على التركيز، بحسب رشدي رشاد في كتابه "فن القصة القصيرة" ص 109، بتصرف. لم تبن القصة على صور ذهنية أو أي طريقة تصوير تزييفية، مع أن السرد في بعض الأحيان يتخذ مسارا عاديا إخباريا كما يراه القصاصون التفكيكيون الذين يُمشكلون السرد بالتفاصيل الهُلامية والصور والأفكار الذهنية المزيفة، إذ ليست مهمتهم توضيح معنى القصة، كأن الهدف من القصة ألا ننجو من التيه، بل أن نتوه حتى نعثر على المكان الذي نتوه فيه أكثر، مكان لا يمكن العثور فيه على شيء. إنه اللامكان واللازمان، لا يريدون للجميع أن يعرفوا ذلك المعنى أو أن يسبقوا إليه. إن التصوير الدقيق القريب من الحقيقة يدعم مسار قصص المجموعة، وبشكل أدق يدعم الحدث العام لكل قصة، بأن يصبح المشهد السردي هو الحقيقة، هو المعنى الحقيقي، بحيث تكون بقية التفاصيل والمشاهد الصغرى خادمة للحدث العام مقدمة إضافات تمنح النص وضوحا أكبر من ناحية المعنى. ففي قصة (حب في مخفر الشرطة) التي عنونت المجموعة بها، يستعمل القاص عبد الله مرجان شخصية أستاذ يؤدي به العشق الممنوع إلى الفرار وترك مدينة العمل لكنه لم ينظف مسرح الجريمة بعد لحظة ممارسة الجنس الممنوع وفض بكارة الفتاة العشيقة ونسيانه تبانه عندها، التبان الدليل، التبان الفضيحة، الذي كشف هوية الجاني. هكذا يمضي بنا الكاتب إلى الذروة في وضوح المشاهدة والإحساس بموقف الشخصية. وكخلاصة، فإن قصص القاص والروائي عبد الله مرجان تقودنا إلى تبني انطباع يكاد يكون وحيدا تبعا لوحدة موضوعات كل قصة على حدة، وارتباط حوادث كل نص بعضها ببعض، وبالتالي هي تفصح عن قيمها الفنية والمعنوية والدلالية متفادية التجارب الخيالية المعتمدة على الخيال الفانطازي المُجنح بتحليقاته التجريدية البهلوانية أو تلك المؤسسة على الانفلات من معايير الفن القصصي نحو أشكال قصصية بدون ملامح لا نكاد نعثر فيها على معنى، أي معنى.