تكتسب القصة القصيرة قوتها و جماليتها من اهتمام كتابها المفرط بتكنيك الكتابة، الذي يتميز بكثير من الدقة، إذ لا مجال لدى كاتبها للمخاتلة والتحايل، فالقصة القصيرة فن فاضح سرعان ما يكشف صاحبه على رؤوس الشهود، فالقاص الفنان هو ذلك الذي يتحكم في عدته التقنية، ويحسن توظيفها، لتخرج القصة من بين يديه محكمة الصنعة، متقنة، صقيلة، لا تشوبها شائبة.و يبقى الاهتمام بالتفاصيل الملموسة من أبرز هذه التقنيات، التي تميز القاص البارع عن سواه، خاصة إذا استطاع صياغتها بلغة تناسب هذه التفاصيل بما يتلاءم مع طبيعة القصة القصيرة، التي تميل نحو توظيف جمل قصيرة، برقية، متوترة، وسردية بامتياز. إن المطلع على المجموعة القصصية «مملكة القطار» للقاص المغربي حسن الرموتي سيفتتن -لا محالة- بقدرة القاص الفائقة على التقاط تفاصيل الحياة الملموسة ،ليدبج بها قصصه، وكأني به يعي جيدا دور التفاصيل والاشتغال على الملموس من خلال تجسيد الأحداث في إعطاء قيمة مضافة لقصصه ، فقد عمد الرموتي إلى عينه الخبيرة والذكية لالتقاط التفاصيل، التي تبدو للوهلة الأولى غير ذات أهمية، لكن ما إن تقترن بغيرها حتى تصبح ذات معنى عميق، يكسب القصة بعدا جماليا و دلاليا لا غبار عليهما، يقول السارد في قصة «الحرب» تقدم عباس نحو الرجل ثم همس له في أذنه بشيء، يبدو أنه لا يعرفه غيرهما، وضع الرجل إصبعه على فمه مشيرا لعباس ألا يتكلم، ثم انقض عليه وعانقه طويلا. تبعه رجال القرية، و جاء دور النساء والاطفال، الحوذي يتأمل المشهد، ويبدو أنه لم يفهم شيئا. الكلب الوحيد الحاضر يتبول، و قد أحدث حفرة في الأرض، هر ثم اقعى على مؤخرته وانتصبت أذنيه مستسلما..». ويصل هذا الاهتمام بالتفاصيل ذروته في قصة «المشهد» التي برع القاص في صيوغها مما يحيط به في عالمه الخارجي، حيث تتجاور مشاهد متنافرة مشكلا كرنفالا يصيب المتأمل فيه بالحيرة، لكن القاص جمع هذه الفسيفساء غير المتناغمة وخلق منها أثرا جميلا، يقول السارد «رجال واطفال ونساء ينتظرون، منهم من أعياه الانتظار، بعضهم يجلس على كراس خشبية قديمة ، لم تتغير منذ سنوات، رجل يقترب من امرأة حتى ليكاد يلتصق بها، بما زوجته، لا أستطيع الجزم.. الباص لم يصل بعد.... على الرصيف رجل اصلع ذو لحية بيضاء، الارتخاء يدب في أوصاله، قصير القامة ، يرتدي سروالا قصيرا صيفيا... شرطي المرور البدين أعياه الوقوف في ملتقى الطرق، أنف كبير و يبدو دون رقبة». في قصة «المحارب و المحطة» نلمس نفس التوق بالتفاصيل الملموسة مما يمنح القصة بعدا بصريا وتجسيديا محمودا، يقول السارد «على الكرسي الممتد في المحطة، كان المحارب قد استسلم لنوم عميق، الناس ما يزالون يدخلون ويخرجون... القطارات تمر، تتوقف قليل، ثم تمضي، واللوحة الالكترونية ما زالت تغير مواعيدها وأسماءها، ونادل المقهى ينتقل بين الكراسي بفرح طفولي واضح.. وابتسامته لا تتغير». وتمضي قصص المجموعة على نفس المنوال تلتقط التفاصيل، وتنتقي منها ما يخدم هدف القصة والقاص وهذا ما أهل القصص لتبرز قدرتها على التجسيد، ونأى بها عن التجريد، الذي يعيب الفن القصصي ويسيء إليه. ومما يثير الانتباه في هذه المجموعة القصصية الجميلة عدم ارتكان القاص إلى وتيرة واحدة في السرد بل كان يعمد إلى التنويع، لذا كان الحوار يتخلل جل النصوص، وهو حوار فعال ووظيفي، يساهم في تطوير الأحداث، دون أن يتنازل على الوظيفة التجسيدية التي ارتضاها القاص لنفسه في كتابة قصصه، يقول السارد: قال الآخر -انظر إلى وجه الرجل، يشبه الطبل من أثر التخمة ، ثم أضاف ساخرا -إنها نعمة الكادحين التي لم تصل إليهم. وفي قصة أخرى قال أحدهم: - ملامحه تغيرت كثيرا، يبدو أنه ليس عباسا الذي نعرفه. وهكذا تتحالف كل مكونات القص وعناصره من وصف وسرد و حوار وغيرها لتخلق أثرا قصصيا جميلا، يشي بأن الأستاذ حسن قاص بارع يمتلك كل المقومات ليرسخ اسمه ضمن كوكبة القصاصين المغاربة، الذين يمضون قدما بهذا الفن الجميل، لييتبوأ المكانة التي تليق به ضمن باقي الأجناس الأدبية الأخرى. كاتب مغربي