في 14 مايو المنصرم جرت بتركيا انتخاباتُ رئاسة الجمهورية، شدّت أنظار َالشرق والغرب، وعُدّت حدثاً دولياً على الصعيد الجيو استراتيجي لموقع هذا البلد حلقة َوصلٍ بين شرق وغرب ومعسكريْن ومنطقةَ صراع وتجاذُب تلتقي وتشتبك فيها مصالحُ، بعضها عميقُ الجذور تاريخياً تعود إلى الإمبراطورية العثمانية وأنقاضِها بعدها، وأخرى بِنتُ سياساتِ ما بعد الحرب العالمية الثانية والأحلافِ الأوروبية الأمريكية، ثم التفككِ الذي تعرفه البلدان العربية المجاورة لها جعل لها موطئ قدم ومكّنها من نفوذ قرينٍ بالتوسع الإيراني والعرين الروسي. بهذا التصنيف فإن تركيا ليست دولة عادية، وفي ظل المعترك الحالي للحرب الأوكرانية زادت أهميتها الاستراتيجية وقيمةُ تحالفاتها في الحاضر، والمستقبلية التي يُنظر لها بحسابٍ دقيقٍ من موسكو وواشنطن وباريس وبون، والرياض والدوحة، من الجانب العربي، والحقيقة أنها انتخاباتٌ بطلها ورهانُها الرئيس الحالي الطيب أردوغان. يمكن صرف النظر عن هذا الطرح بمجمله ليست البغيةُ الوقوف عند الانتخابات الرئاسية التركية في تفاصيلها الحدَثِية، فهي مسلسلٌ دوريٌّ مقرر لا استثنائي، وبالرغم من كارثية الزلزال العنيف الذي ضرب البلاد حوفظ على موعدها ولم يحاول النظام تأجيلها خوفاً من تبعاته الأكيدة على سمعته السياسية وذلك احتراماً للآجال الدستورية. هو إذن مسلسل بدأ ويتواصل، يقيناً أشبِع قراءةً وتحليلاً في وسائل ومنابر الإعلام الدولية، وستنتهي عملياته بالاقتراع الثاني المقرر ل28 من الجاري للحسم بين أوردوغان (49،51 ) وغريمه كليجدار أوغلو (44،88). عناني من هذا الحدث طابعُه الديموقراطي الصِّرف، لم تكد تشُبه شائبةٌ ولا قُذِف بتُهم الغش والتزوير. قُبيل انطلاق الانتخابات وأثناءها وبعد اقتراع الجولة الأولى استعدت وسائل الأعلام محلية وإقليمية وغربية خصوصا، تجنّدت بالمرصاد، بالمتابعة والاستطلاع وخلال عمليات التصويت ب» التشمُّم». وقد تابعت الصحافة الفرنسية والإنجليزية بانتباه حثيث عينُها على خطوات وتصريحات الرئيس أوردوغان، تُضمر له عداءً صريحاً ومبطّناً طبقا لسياسة أطلسية مفهومة، ومناوءَةً منتظمةً لحزب العدالة والتنمية الحاكم في لعبة كرّ وفرّ، وهي تنبأت له بخسران مبين بسنَد يقينٍ أو مصطنع، أقواه تغوّلُ شخصيته هيمنةً وتسلطا لم تصل إلى نعته بلقب(الدكتاتور)، مقابل ترجيح كفة خصمِه الموصوف بالليبرالي الذي سيعيد بلاده إلى الرخاء بعد أزمتها الاقتصادية وتدهور قيمة الليرة، ويشيع أجواء الحرية، لم ينقصها سوى القول إنه سيخرج تركيا من الظلمات إلى النور، لكن الإعلام الغربي الذي تابعنا وقد شهد الوقيعة واحتدام الصراع بالواضح وأمكنه الحضور بكثافة تستعملون اليوم التواجد، بإفراط! وخبراؤه ونجومه في الاستديوهات المرئية وكلها موجهةٌ تهامست بنصف شفة تتساءل بمكر تُرى كيف سيجري الاقتراع، هل يا ترى ستكون نتائج الصناديق مؤمَّنةً خِلواً من الدّس، لكن رغم الغِلّ ضد أوردوغان الإسلاموي ونصف الليبرالي والبراغماتي لم ينبس أحد بالتزوير. ها نحن أولاء نصل إلى كلمة السّر، إلى الديموقراطية. وسواءٌ أحببنا هذا النظام أو ناصبناه العداء، كنا قريبين من إيديولوجية حكمه أو مناهضين، فلا أحد من رؤساء وخبراء ودهاقنة ما يسمّى ب(المجتمع الدولي) شكّك في نتيجة الجولة الأولى أو غمز في هذه الناحية من قناة الرئيس أردوغان. ولكم ان تُخمّنوا أن ليس هذا بالضرورة حقيقياً مائة بالمائة، فقد لا يخلو المعتركُ الانتخابي من خلل دون الوصول طبعا إلى آفة، والمنافسُ الخصم الأولُ الأقرب أولى وأسبقُ للاستنكار والزوبعة، ولكن لأن الطرف الغربيَّ الذي يُنصِّب نفسه حارساً أميناً على الديموقراطية وحقوق الإنسان في العالم وإن تسبب في إزهاقها في غير مكان، لا يستسيغ أن تُخدش الديموقراطية التركية بوصمة، ما دامت بلاد الأناضول في عُرفه بعداً استراتيجياً له في مفترق الطرق بين قارتين وتَصُدُّ عنه أكثرَ من بعبع وتجلس في المنزلة بين المنزلتين، لذا يحرص على سمعته لا عليها في حسابه إعادة فوز أردوغان، فلا يقطع شعرة معاوية. تعالوا معي الآن إلى إخوة الجوار فلا نامت أعينُ الجبناء! تلك الدولُ المحيطةُ بتركيا شرقاً وجنوباً، يعنيني منها أساساً العربية، فالرّوس والفرسُ لهم حسابٌ مميّزٌ وليسوا في سياق هذا المقال. انظروا إلى الخريطة وستقرؤون الأسماء بدون عناء لمن يشاء وله أيضا أن يغضّ الطرف. مؤكدٌّ أن الحكام المجبولين على طبائع الاستبداد والموغلين في الاستخفاف بالحقوق، المحميين بالجيوش والأجهزة والمليشيات وبالثروات الباطنية وعلى السطح؛ يقيناً هم كما نقول نحن المغاربة في (دار غفلون) عن الديموقراطية ساهون أو يناورون، وإنك لتجد دولةً تُسَخِّر طاقاتٍ ورساميلَ وحناجرَ وتفوّقت على دون كيخوت في مصارعة طواحين الهواء، إذ تصخَب وتنعَى صباحاً ومساءً كيف تُساسُ بلدانٌ بقبضة الاستبداد وتُنتهك فيها الحريات، ويا حرام، سقطت قلاعُ المؤسسات، بينما لا تملك في عُقر دارها بيتَ شَعرٍ لجمعية أهلية حرّة، دعك من مؤسسةٍ تشريعية كالبرلمان، فهذا ضربٌ من الأحلام تموت بسببه وتهان. أما الشعوب المجاورة لتركيا، لنترك المرفّهين، أقصد من بقيَ منها لم يهاجر، يفرَّ بجلده، يتشرّد، يغرِقَ في البحر، لنا أن نتخيّل أساها زيادةً على المأساة وهي تتابع أخبار انتخابات حرّة نزيهة من أجل أن تُزفَّ في الليلة القادمة إلى خِدْرها على صهوة الحرية عروسٌ اسمُها الديموقراطية؛ آه! منذ نهايات القرن التاسع عشر والعرب، حكاماً ومحكومين ونُخباً، يتملون سحناتِهم وينظرون إلى سيماهم في مرآة الغرب، الآخر المتفوق، المستعمِر والمتمدن، وقتاً تشبّهوا به، زمناً قلدوه، وطوراً أنكروه، وقتا ثالثاً استعاروا منه ما لا بد منه ليخرجوا من وهدة التخلف، عندنا منه ما يفوق الوصف أحيانا من بنياتٍ تحتية ومظاهر بذخ حدّ السّفه، كذلك طلائعُ المستنيرين من شعوبنا استلهمت قيمَ ومبادئَ التنوير في ثقافته، وبعضُها كافحت واستماتت لنقلها وتطبيقها في مجتمعاتنا فأصبحت إيديولوجيات ليبرالية واشتراكية وماركسية نافست المعتقدات والثقافة التقليدية الموروثة بأشكال ومحتويات تدّعي الشمولَ في قلبها شرائع الحياة والحُكم، ونالت بسبب هذه الجرأة ألوانا من العقاب، كان عليها أن تكتفي بالهندام وتترك المضمون، الجوهر، لأصحابه، وبما أن الأصالة في طرف والحداثة طرف ثان، فالديموقراطية نقيض الأصالة! قبل انتخابات رئاسة الجمهورية التركية انشغل الإعلام الغربي، الفرنسي في قلبه، بموضوع واحدٍ زاحمَ المتابعةَ المنتظمةَ للأزمة الأوكرانية، ونافسَ في الاهتمام والصور الحركةَ الاجتماعيةَ العنيفةَ والصاخبةَ ضدّ قانون إصلاح التقاعد في فرنسا، ننام ونستيقظ على تغطية المظاهرات التي تجري في تل أبيب احتجاجاً من الإسرائيليين على سياسة تكتل حكومة نتنياهو اليمينية لسحب اختصاصات هامة من القضاء إلى سلطة الكنيست. كم هي التحليلات والتعليقات تُمجِّدُ المناخ الديموقراطي الذي يسمح في إسرائيل باحتجاجات هائلة وحرة، وبالمقابل تتباكى على مصيرها واستماتة هذا الشعب في الدفاع عن حق لا يمكن التنازل عنه، سلطة القضاء. لم يُعْن هؤلاء بمفارقة التشبث بحقوق واغتصاب حقوق شعب، هي مسبوقة في الحقب الاستعمارية، شاغلُهم هو التحدي بخطاب مسكوت عنه للدعاية والنِّكاية بالجوار، انظروا إلى هذا الكيان وحده ديموقراطي في الشرق الأوسط، بالصوت والصورة أمام أنظار العالم أجمع؛ نعم يا سادة، إنه تحدي الديموقراطية!