إنّ للتحالفات منطقا محفوفا بالمفارقة متى تمّت المعاينة من خارج قواعد اللّعب الجيوستراتيجي. وهذا تماما ما حصل وما سيحصل دائما في منطقة الشّرق الأوسط. فحينما انتفض الشّعب التركي ضدّ حكومة حزب العدالة والتنمية التركي، ظنّ البعض أنّ هذا عارض سرعان ما ينتهي مفعوله. وذلك لأسباب كثيرة منها اعتقاد الكثير الرّأي العام لا سيما في البلاد العربية أنّ الأزمة مفتعلة وليست أزمة بنيوية نشأت وترعرعت على مدى عشر سنوات من هيمنت حزب العدالة والتنمية التركي على المشهد السياسي والاقتصادي التركيين. كما يعود ذلك الانطباع بأنّ تركيا دولة ديمقراطية ولا يصار إلى تغيير النظم إلاّ بواسطة صناديق الاقتراع. كما يعود جزء من تلك النّظرة إلى الاعتقاد بأنّ واشنطن سوف تكرّس الحزب المذكور كحزب يتمتّع بديمومة مطلقة في المشهد السياسي التركي. ولو أنّنا التفتنا قليلا إلى الوراء، لأدركنا بأنّ حسني مبارك الذي كانت مصر في عهده هي المحطة الثانية لخطاب أوباما إلى جانب خطابه في تركيا، كان الحليف الأقوى والأقدم لواشنطن من أوردوغان. ومع ذلك لم يكن هذا ليشفع له، حينما رفعت واشنطن يدها عنه بعد أن اشتد غليان الشّارع المصري. علما أنّ ما خرج اليوم من أبناء تركيا للشارع، يفوق ما خرج في دول الربيع العربي. فلا توجد في المنظور الأمريكي علاقة وفاء دولية، بل توجد فقط علاقة استحقاق جيوستراتيجية. فالمحاور الجيو سياسية الإقليمية لا تتمتع بأيّ ضمانات حقيقية في اختياراتها و تمحوراتها السياسية، لأنّها تكون في العادة مجبرة على الاستقواء بهذا التّمحور كما أنّها تكون مدفوعة الثمن مسبقا لقاء الأدوار الإقليمية التي تؤدّيها برسم السياسات الجيوسياسية. وكان الثمن المسبق الذي تسلّمه أوردوغان من واشنطن هو تمكينه من السلطة في تركي. وهذا أمر كثيرا ما غفلت عنه المقاربات المستسلمة لضغط البروباغوندا التي لعبت دورا كبيرا في تسويق أوردوغان سياسيا وأيديولوجيا في تركيا وخارجها. فالمسألة هنا تتعلّق بطبيعة العلاقة بين الدّولي والإقليمي والمسألة الانتخابية في دولة تخضع في ارتهاناتها السياسية لتعاقدات أمنية واستراتيجية مع النّاتو.
إنّ صناديق الاقتراع ليست هي وحدها العامل الحاسم في العملية الانتخابية. نتحدّث هنا تحديدا عن لعبة التمكين التي سيسيل لها لعاب الإخوان المسلمين في مصر بعد ذلك، وهي النّسخة المصرية عن تجربة أوردوغان قبل أحداث الربيع العربي. ففي تلك المرحلة التي لم يكن نجم ذلك السياسي المغمور الذي عمل المستحيل للترقّي الاجتماعي والسياسي، كان قد بعث برسائل إلى مسؤولين أمريكيين يوم كان لا يزال رئيسا للبلدية يعرض فيها كلّ خدماته على واشنطن. هذا الجنوح الهوسي الذي أبداه أوردوغان للأمريكيين هو الذي جعل زعيم حزب الرفاه أربكان يقاطع أوردوغان ويتبرّأ من سلوكه. وقد عمل المسؤول الأسبق في الاستخبارات الأمريكية غراهام فولر في تأطير أوردوغان وتهييئه بشكل مبكّر لاستلام رئاسة تركيا في المستقبل.
وحسب صحيفة إيدينليك التركية في مقال نشرته في 20 أكتوبر عام 1996، فإنّ ابراموفيتس السفير الأمريكي في أنقرة آنذاك تهيّأ لاستلام رجب طيب أردوغان لرئاسة وزراء تركيا، قبل 8 سنوات من وصوله إلى الحكم. وحسب المصدر نفسه، فقد بدأ صعود أوردوغان السريع في الحياة السياسي. لهذا الغرض، كان الثّمن الآخر هو ضخّ بعض الاستثمارات في تركيا في عهد أوردوغان في سياق سياسة التمكين. وهذه العملية هي التي أوجدت انطباعا خادعا لدى الرأي العام سواء داخل تركيا في بداية الأمر خارج تركيا بأنّ أوردوغان نجح في الانتقال بتركيا اقتصاديا إلى مرحلة متقدّمة. ولم تكن تلك سوى لعبة أرقام لعبت فيها الاستثمارات الخارجية كثمن لصفقات سياسية مبرمة مع الرئيس الجديد، ومسلسل الخوصصة الذي ابتلع كبرى القطاعات العمومية مما أنتج بعد سنوات قليلة تناميا في منسوب العطالة. ولم يكتف أوردوغان بعملية تمثيلية لتسويق نفسه بطلا للتنمية فحسب، بل قدّم نفسه مدافعا عن القضية الفلسطينية. هذا في الوقت الذي استمرت فيه العلاقات بين أنقرة وتل أبيب على حالها في مستوى التعاون الأمني. وفي الوقت نفسه الذي استمرت معاملات الشركة التي يديرها ابنه مع إسرائيل، وخضوعه إلى كلّ الشروط الإسرائيلية على حساب الكرامة التركية.
ولقد لعبت لقطة تمسرحه في دافوس ضد صديقه بيريز وكذا مسرحية مرمرة التي حوّلها الإسرائليون إلى دراما، دورا في إخفاء تورّطه في مشروع الشرق الأوسط الجديد. لقد كانت غضبته في دافوس ضد بيريز غضبة أصدقاء وليس غضبة أعداء. فبيريز كمسؤول في الكيان الإسرائيلي العارف بوضعية أوردوغان، يعلم أنّ غضبة هذا الأخير ناتجة عن حالة صحية، نظرا لإصابته بالصّرع وانخفاض درجة السّكر لديه. أمّا إلكير يوجيل رئيس اتحاد الشّباب التركي، فهو يصف أوردوغان بناء على تلك اللّقطة التمثيلية بممثل الدقيقة الواحدة. لقد سهّل أوردوغان المأمورية على الإسرائيليين في تعزيز مواقعهم داخل تركيا. ومع أنّه لم يحظ باعتذار من تل أبيب لقاء ما حدث بشأن مرمرة، إلاّ أنّه واصل تقديم خدماته لإسرائيل. ليس آخرها حينما أعطى امتيازا لشركة إسرائيلية لتنظيف الحدود بين تركيا وسوريا. وكان أوردوغان قد اعترف بنفسه بتورطه في مشروع الشرق الأوسط الجديد وشمال أفريقيا. وذلك حينما قال أثناء لقاء لحزب العدالة والتنمية في بلدة بايرامباشا عام 2006م :"أنا رئيس مشارك في مشروع الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا، ونحن ماضون في تنفيذه". وقد حاول أوردوغان في لقاء صحفي أن يكذّب كونه قال ذلك، لكن اتضح بعد ذلك أنّه يكذب على الرأي العام، لأنّ حديثه مسجل بالصوت والصورة ولا يفتأ تلفزيون أولوصال أن يبثّه يوميا على مدار الساعات. ولقد رأيت ذلك الخطاب مشاهدة. ولقد عمل أوردوغان على سجن أي معارض مدني أو عسكري عارض سياسته. بينما 50 محطّة تابعة لحزبه تعمل على تسويق نموذجه للعالم.
أوردوغان والقاعدة
هناك شريط واسع الانتشار يظهر أوردوغان يجلس القرفصاء تحت كرسي يجلس عليها أحد زعماء الجهاد الأفغاني المهندس حكمتيار. وهو وحده من بين زعماء الجهاد الأفغاني الذي تحالف مع طالبان والقاعدة. ولقد بدأ أوردوغان يؤدّي أدواره الجيوسياسية تباعا في سوريا من خلال توظيف القاعدة وفتح الحدود التركية للمقاتلين المنحدرين من تنظيم القاعدة. كان أوردوغان وهو يتحدّث بلغة الديمقراطية والحرية ضدّ النّظام السّوري، بينما كانت التنسيقيات تتحالف معه مباشرة في توريد مقاتلي القاعدة إلى سوريا. تحوّلت تركيا إلى ساحة عبور لكلّ الخلايا المقاتلة. هناك رحلتين كل يوم بين أسطنبول وأنطاكيا تحولت في تلك الفترة إلى جسر جوّي لنقل شباب القاعدة من كلّ الجنسيات. وقد ألغيت التأشيرة على بعض الدول التي ليست لها علاقات مميزة مع تركيا لتسهيل عبور المقاتلين. مثلا بلغت رحلات الطيران من اليمن إلى إسطنبول معدل 4 رحلات في الأسبوع.
لمّا غرقت أنطاكيا بعناصر القاعدة الذين بدؤوا يتدفّقون على المحلاّت ويضايقون الأهالي ، بدأت الشكاوى تتنامى وصولا إلى تحرك المجتمع الأنطاكي لمواجهة الإنزال القاعدي في منطقتهم. واستمرت تلك الاحتجاجات التي كادت تتفجّر بشكل كبير مما دعا أوردوغان لإعطاء تعليماته بأن لا يغادر عناصر القاعدة معسكراتهم ويختلطوا بالأهالي. ينقل لي طاقم إحدى المحطّات الذين حاولوا عبثا الدخول إلى أحد معسكرات القاعدة في أنطاكيا بأن أجهزتهم التقطت مكالمات موجهة إلى القاعدة المذكورة بالعبرية. وكان هناك تعتيم كبير عن كلّ الحوادث التي تجري على تلك الحدود. آخرها حينما تفجّرت شاحنة للإسعاف تحمل أسلحة إلى المسلحين داخل سوريا عليها العلم التركي وعلم الجيش الحر والعلم الفرنسي قبل مغادرة الحدود التركية في الريحانية. ولم تنقل وسائل الإعلام التركية التابعة لأوردوغان الخبر، بينما عمل الأهالي في آنطاكيا بنقله بواسطة الانترنيت. كان الانطباع السائد لدى بعض المعارضين الأنطاكيين لأوردوغان بأنّ إقحام تركيا في الحرب ضد سوريا هو تعريض تركيا لتداعيات هذه الحرب. وهم يرون بأنّ الحكومة السورية تضمّ من كلّ الطيف السوري. بينما حكومة أوردوغان لا يوجد فيها من الطيف التركي غير جماعة أوردوغان المحتكرة للسلطة. وبفضل ما قدّمه أوردوغان شخصيا من تسهيلات، وجدت سوريا نفسها أمام جيش كامل من القاعدة يتألّف من أزيد من 100 ألف مقاتل مع خدمات ولوجيستيك وآخر طراز من التسليح ووجود ضباط دوليين وإقليميين لتأطير المقاتلين.
الرّجل المريض
كان البريطانيون ينعتون تركيا قبيل سقوط الإمبراطورية العثمانية، بالرجل المريض. وذلك قبل أن ينهض الأتراك بقيادة أتاتورك ليتخلّصوا من عبء العثمنة كما تخلص الروس من عبء الاتحاد السوفياتي، فيبنوا تركيا العصرية على أسس مختلفة. والآن بعد أن قطعت تركيا كلّ هذه المراحل من بناء الدولة التركية العصرية وتنميتها، جاء الرجل المريض لكي يعيد تركيا إلى مرحلة الإفلاس الكبير. إنه أوردوغان رجل تركيا المريض الذي حلّ ضيفا على الحكومة الميني الملتحية عندنا، ليلتقي المصباح التركي بالفانوس السحري في الوقت بدل الضائع للحكومتين. فالحزبان معا تشابهت قلوبهما كما تشابه إسمهما ورمزهما. ولقد باتت تلك من عجيب المفارقات أن يستلهم حزب أوردوغان قبل أن يسرق تراث أربكان مؤسّس حزب الرفاه التركي، إسمه من اسم حزب بن كيران وكذا رمزه ولكن كوادر حزبه رفضت فكرة الفانوس التقليدي وأبدلته بالمصباح العصري لكي لا يثير ذلك سخرية خصومهم السياسيين في تركيا. يحدث هذا في الوقت الذي يقتبس حزب الفانوس المغربي كل شيء عن أوردوغان إلى حدّ الغارم، ويعتبرونه المثل الأعلى.
حكاية المثل الأعلى هنا راجعة إلى عامل أساسي. هو أنّ كوادر العدالة والتنمية في المغرب كانوا منذ سنوات يبحدثون هم أيضا عن التّمكين. وما أن بلغهم رضا واشنطن عن أوردوغان حتى ملؤوا الدنيا بأنهم على نهجه. وهو الجواب على سؤال طرح لأمينه العام في ذلك الوقت ووزير الخارجية في حكومة (البيجيدي)، الجواب الذي استقبل باستهجان من قبل بعض الصحفيين والمراقبين الأمريكيين أنفسهم.
لقد كان حظّ أوردوغان في هذه الرحلة تعيسا لأنّه في المغرب أو في الجزائر أو تونس لم يكتب له أن يلتقي مع مسؤولين حقيقيين من أصحاب القرار. في المغرب عاد دون أن يلتقي مع الملك ولا مع أحد من الديوان الملكي بعد أن كانت تلك هي رغبته. وسيكون حظّه في الجزائر أتعس لأنه سيزور بلدا في الوقت الذي يتابع فيه رئيسه علاجه في فرنسا. أمّا في تونس فلن يلتقي بالمسؤولين الحقيقيين. هي جولة مفلسة بامتياز. فالرجل في نزعه الأخير. حتى أنه ذكر لمراسل الجزيرة في المغرب، بأن على الجزيرة أن تلتزم الحياد في أحداث تركيا لأنّه أحسّ بأنّ الحبل على الجرار. هذا يؤكّد أنّ أوردوغان كان مصمّما على إسقاط الأسد فقط لأنه يعرف أنّ أحدهما بالمقاييس الجيوستراتيجية يجب أن يزول. وبما أنّ الأسد سيبقى، كان لا بدّ أن يجمع أوردوغان حقائبه لأنّ المرحلة القادمة لا تتحمّل وجود أوردوغان. وهذا ما سبق وأشرنا إليه مرارا على طول تحليلنا للوضع السوري، من أنّ أوّل حدث بعد بقاء النظام السوري هو سقوط حكومة أوردوغان. أي أنّ نهاية الأزمة في سوريا ستستتبعها سقطة مدوية لمتتالية متراصة بدء من العدالة والتنمية مشرقا إلى العدالة والتنمية مغربا.
ولا ندري ما الذي يريد أن يفعله عميل الناتو هكذا يردّد الشارع التركي هذه الأيّام في زيارته المكوكية لبلاد المغارب. فهي تبدو من الناحية الشكلية زيارة غير أخلاقية، حيث ترك شعبا يقتل في الشوارع لكي يوزّع على المنطقة أوهاما بالتنمية، وتسويق نموذج قائم على الاستبداد المقنع والتدليس الديكتاتوري والفساد الاقتصادي. في هذا السّياق تناولت صحيفة الغارديان البريطانيا استنادا إلى تقرير المنظمة الدولية للشفافية في دراسة حديثة عن تركيا وضعية الفساد الاقتصادي الذي تورطت فيه حكومة أوردوغان. وجاء فيه: "إنه على الرغم من أن الانتخابات التركية كانت حرة ونزيهة بدرجة كبيرة فإن الفساد المستشرى فى قطاعات حكومة العدالة والتنمية، خاصة فى قطاع التشييد والبناء، أصبح يمثل مشكلة متنامية بالنسبة للأتراك" ويتابع التقرير قوله:"لأول مرة حصل اثنان من المسئولين الأتراك فى إدارة الإسكان العام بالتزكية على احتكار إعادة تطوير بعض الأراضى العامة والخاصة لمدة 20 عاما بقيمة 400 مليار دولار لتلاحقهما بعدها تهم بالرشاوى وإساءة استخدام النفوذ". كما أكّد التقرير بأنّ ابن أوردوغان وعناصر من حزبه هم المستفيدون من مشروعات التنمية الضخمة. لقد أصيب أردوغان بمرض الصّرع. وخروجه من تركيا في نظري لا يخلوا من سرّ، ولا أستبعد أنّ الأطباء نصحوه بتغيير الجو ، والذهاب عند حوارييه في حزب العدالة والتنمية المغربي، وحدهم من لا زال يلهج بالنموذج الأورذوغاني ، من أجل أن يغذّي شعوره البارانوياني لأنّه مريض بالشعور بالعظمة الحادّ. ولأنه لو بقي في تركيا سوف يسقط في نوبات صرع حادّة متكررة، هذا ناهيك عن إصابته بالسرطان في الأمعاء، والأطباء يخفون وضعيته الصحية على الشّعب. وكانت صحيفة جمهوريت قد تطرقت إلى مرض أوردوغان بعد أن أصيب بالاغماء أمام مبنى البرلمان وتم نقله الى أحد المستشفيات الخاصة للعلاج، مؤكّدة اصابته بمرض الصرع. ولم تكن تلك هي المرّة الواحدة التي شوهد فيها أوردوغان وهو يسقط بالصرع. فلقد حكت لي مواطنة تركية أنّها رأته بأم عينها يسقط من نوبة الصرع قبالة مكتبه، فحمله جماعته فورا وأخفوه عن الأنظار.
النموذج التركي بين إخوان مصر وإخوان المغرب
لمّا زار أوردوغان مصر في المرة السابقة رجع بخفي حنين حينما نصح المصريين بقبول العلمانية. وكان ذلك كافيا لجلب ردود فعل ضده من قبل الإخوان والسّلفية. فقد عبّر عبد لمنعم الشحات عن التيار السّلفي قائلا: '' إنّ دعوة أردوغان للترويج للنظام العلماني التركي غير مرحب بها على الإطلاق، وأي محاولة لاستنساخ الحالة التركية في مصر غير مقبولة''. وانتقد الإخوان محاولة هيمنة أوردوغان على الشّرق الأوسط. وجاء كلام عصام العريان القيادي في تنظيم الإخوان المسلمين ورئيس ذراعه السياسي، حزب الحرية والعدالة، صادما حينما قال يومها في حديث نقلته رويترز بأنّه لا أردوغان ولا غيره له حق التدخل في شئون دولة أخرى وفرض نمط بعينه وبأن البلاد العربية لا تحتاج إلى مشاريع خارجية. لم يعبّر العريان حينئذ عن موقفه الأصولي الإخواني من دعوى العلمانية فحسب، بل كانت ثمة حسابات أخرى. كان العريان قد عبّر عن رغبة قطر باعتباره من حواريي القرضاوي. وهكذا استطاع تلامذة القرضاوي والمشروع القطري في مصر أن يفشلوا زيارة لأوردوغان كان من المنتظر أن تكون تاريخية. فلقد أرادت قطر وإلى حدّ ما فرنسا أن تبعد أوردوغان عن شمال أفريقيا. فقد أريد لمصر أن تبقى بعيدا عن التدخل التركي. وهو نفسه ما حدث عند زيارته لليبيا. لكن بالنسبة لتلامذة القرضاوي في بلادنا، فهم يعانون من مشكل مزمن. فهم لا زالوا يلهثون بالنموذج الأوردوغاني المفلس. وحتى الآن يعانون داء الانفصام الشخصي. فحزب العدالة والتنمية المغربي يعيش حالة الهوية الممزقة بحيث لا يعرف إلى من ينسب نفسه؟ فهو بما أنه لا أب له ينادي:(بابا) على كلّ من يحضنه. هكذا تراه ينسب نفسه للمشروع القطري والسعودي ولأوردوغان ولأمريكا وللنصرة وللإخوان.
ماذا يريد أوردوغان من المغرب؟
حينما انسد في وجهه الجزء المشرقي من مشروع الشرق الأوسط الجديد وشمال أفريقيا، حاول بعد فشل زيارته السابقة لمصر وليبيا أن يتوجّه مغربا لإنقاذ حكومته من استحقاقات المرحلة القادمة سياسيا واقتصاديا. ونتساءل اليوم: ما الذي يجمع بيننا وبين هذا الألعبان؟ فاتفاقية التبادل الحر بين تركيا والمغرب، هي اتفاقية مهلهلة يستفيد منها أوردوغان ثلاث مرات أكثر من المغرب. فحسب وزارة الشؤون الخارجية المغربية تم التوقيع على اتفاقية التبادل الحر مع تركيا في 7 أبريل 2004 ، و أصبحت سارية المفعول في فاتح يناير 2006. وحسب الخارجية المغربية دائما، وتنص الاتفاقية على التحرير التدريجي للمبادلات الصناعية و الفلاحية. و في ما يتعلق بالمنتجات الصناعية، تنص الاتفاقية على الدخول الحر للمنتجات الصناعية المغربية و على إلغاء المغرب لكل الرسوم الجمركية و ذات التأثير المماثل بمجرد دخولها حيز التنفيذ بالنسبة للمنتجات غير المنصوص عليها في اللوائح الملحقة للاتفاقية. أما بقية المنتجات، فتنص الاتفاقية على إلغاء سنوي بوتيرة 10% ، يمتد لمدة عشر سنوات بالنسبة للائحة محددة للمنتجات و كذا إلغاء بنسبة 3% يمتد لمدة أربع سنوات و بنسبة 15% يمتد لمدة 6 سنوات يهم لائحة ثانية. غير أنّ التقارير الصادرة بعد ذلك بسنوات قليلة تؤكّد أنذ المغرب عموما لم يستفد من كل الاتفاقيات المبرمة مع شركائه.
فبخصوص المبادلات المغربية التركية ظلّ الجانب التركي هو المستفيد الأكبر خلال السنوات الأخيرة.قفزت واردات تركيا من 3.449 مليار درهم سنة 2009 إلى 4.070 مليار درهم سنة 2010 إلى 5.246 مليار درهم سنة 2011، في تطوّر حثيث. بينما انطلقت نظيرتها المغربية من 1.03مليار درهم في سنة 2009م إلى 2.112 مليار درهم سنة 2011 وبقيت على حالها خلال السنوات اللاّحقة. مما يعني أن وزراء الفانوس السحري عندنا أتوا بأوردوغان ليسرقنا. وسرقة أوردوغان باتت واضحة. فلقد نسّق مع الجيش الحر لتفكيك 1500 مصنع بحلب وتهريبها إلى تركيا. هذا هو التعويض الذي أراد أن يقدّمه للشرائح التركية الأكثر تضرّرا من توريط تركيا في الأحداث السورية.
ويبدو أنّ حزب العدالة والتنمية المغربي اليوم يدلّس على الرأي العام، حينما يعتبر أن كل ما يأتي من تركيا هو ببركة أوردوغان بما في ذلك المسلسلات التركية. ناسين بأن أوردوغان كان ضدّ الكثير من هذا الإنتاج السينمائي التركي ، حيث عمل وسعه عبثا لمنع مسلسل" العصر الرائع" الذي يسوّق في العالم العربي بعنوان "حريم السلطان" وأفلام أخرى.وكان أوردوغان حسب وكالة أنباء الأناضول قد انتقد الطريقة التي يتم بها من خلال الفيلم تشويه أجداده العثمانيين. وحسب الوكالة نفسها يقولأردوغان، خلال مراسم افتتاح مطار ومشاريع أخرى في ولاية كوتاهية: "إننا نعيش في هذا العالم ذو السبع مليارات نسمة، ونعرف ماهي وظيفتنا، نذهب إلى كل بقعة وصل أجدادنا إليها على ظهر الخيول، ونهتم بتلك المناطق." ويقول أيضا:""نحن لا نعرف السلطان سليمان القانوني بالشخصية التي يظهر فيها في المسلسل"، لافتا إلى أن السلطان الذي وصلت الدولة العثمانية في عهده إلى ذروة قوتها "قضى 30 عاما من عمره على ظهر الخيول في إطار الحروب والفتوحات التي خاضها." وأعرب أردوغان حسب المصدر نفسه عن تنديده بمخرجي هذا النوع من المسلسلات، وأصحاب القناة التلفزيونية التي تعرضها، منوها أنه ينتظر قرارا قضائيا بهذا الشأن، بالرغم من تحذير المعنيين بالمسلسل. ولقد كان بطل فيلم حريم السلطان في مقدمة المتظاهرين ضد أوردوغان بتقسيم بإسطانبول. هذا في الوقت الذي يحاول أولاد حزب العدالة والتنمية أن يفاوضوا على الجزء الجديد من مسلسل حريم السلطان في نوع من الحماسة كما لو كان اوردوغان هو من أنتج المسلسل.
ماذا إذن بقي من النموذج التركي الأوردوغاني سوى الضرب على الرقاب وقمع المتظاهرين؟ فالربيع الأعرابي الذي ناور فيه أوردوغان تمخّض فولد ربيعا تركيا على حين غفلة أردوغان. وكنت قد أجبت محاوري في تلفزيون أولوصال قبل شهور عن رأيي في موقف أوردوغان، حيث اعتبرت موقفه من ثورات ما يعرف بالربيع العربي لم يكن موقفا مبدئيا بقدر ما كان استجابة لاصطفافات سياسية ومصالح. والدّليل على ذلك عدم قبوله بدخول قوات الناتو إلى ليبيا في البداية ورفض التغيير في هذا البلد. فكيف يرفض التدخل في ليبيا بينما يدعوا للتدخل في سوريا؟
الربيع التركي
لعله من المفارقات، أن يستيقظ الأسد على انتصار ويستيقظ أوردوغان على ثورة. لقد سعى أوردوغان إلى التقليل من أهمية الثورة التركية. متّهما الشعب بالغوغائي. ومعتبرا الثورة مؤامرة من الخارج. هنا تأتي المفارقة. فالأسد طيلة عامين من المعارك داخل سوريا لم يحص عليه أنه وجّه تهمة للشعب. فحتى الذين يؤيدون المسلحين يعتبرهم في حكم المغرر بهم. وقد حاول أيضا اختزال الثورة التركية في حكاية الاحتجاج على حديقة في تقسيم. بينما كل مطلع على الوضع التركي يعرف أنّ الشعب كان محتقنا منذ أعوام وكان ينتظر فرصة لاحتلال الساحات كي يقوم بربيعه التركي. وهذا ما سبق وتحدّثنا عنه مرارا من أنّ الربيع التركي قادم. وقد حاول أوردوغان أن يغيّر من مسار الطرقات ويقسّم الساحات الكبرى ويغير في معالم المدينة الكبيرة تحسّبا لهذا الربيع العربي. كان الشعب التركي يرفض إقحام بلاده في نشاطات القاعدة لا سيما وقد فتح أوردوغان عبر التنسيق المباشر مع قياداتهم لتمرير المقاتلين إلى سوريا عبر أنطاكيا. وعمل على قمع الكثير من المظاهرات والاحتجاجات التي طالت معسكرات القاعدة في أنطاكيا وكذا تنصيب منصات بتريوت على الحدود مع سوريا. لقد تفجّر الوضع في تركيا ولا رجعة فيه كما أظهر عناد الأتراك على ألا يبرحوا ساحات الثورة. مع كلّ هذا لم يتوقف حزب المصباح وأذرعه الدعوية والإعلامية في المغرب من تسويقهم للنموذج الأوردوغاني المفلس أخلاقيا وسياسيا. وازداد هذا التبشير إلى درجة الهوس منذ باتت تركيا أوردوغان قبلة لوزرائها والمكان المفضّل لأبناء وزراء البيجيدي لاستكمال دراساتهم العليا. وهكذا أوشكوا أن يقنعوا الرأي العام بأن أوردوغان هو باني تركيا الحديثة وأيا صوفيا. لكن ما لم يعرفه الرأي العام هو أن أوردوغان هو من حاول جاهدا تغيير معالم اسطنبول وساهم في غلق عدد مهم من مصانع التكستيل التركي وفي عهده باتت تركيا التي كانت تصدّر اللحوم للشرق الأوسط كله ودول العالم ، تستورد اللحوم من أمريكا اللاّتينية.
رحلة فاشلة بامتياز
اليوم رحل الرجل المريض من المغرب باتجاه الجزائروتونس خاوي الوفاض. بالتأكيد فأوردوغان المتمرس في المسرح والخداع سوف يحدّث الجزائرين باللغة التي يحبونها كما حدث المغرب باللغة التي يحبها. لقد أغلقت عليه سوريا منفذا مهمّا للعالم الغربي. وكانت تلك هي بوابته التي جعلته لاعبا في قضايا الشرق الأوسط. جاء أوردوغان ليفك عنه هذا الحصار باحثا عن دور في المنطقة من مداخل أخرى. اليوم هو محاصر بين سوريا التي تستعيد سيطرتها على الوضع وحلفائها. من جهة أخرى توجد إيران التي لا يرضيها سياسة أوردوغان الإقليمية، وهناك الصّين وهناك اليونان التي تواجه وضعا اقتصاديا حادّا. انعكاسات المشكلة السورية ستنقلب كلها على حكومة العدالة والتنمية التركي.فلقد وجد أوردوغان نفسه محاصرا جيوبوليتيكيا بدول تناهض سياسته. وهم في الغالب أصدقاء النظام السوري مثل الصين وروسيا وإيران.
لم تكن رحلته إلى المغرب من البداية لم تكن موفّقة. وبسبب مرضه المزمن كما ذكرنا نصحه الأطباء بمغادر تركيا في انتظار أن يعمل البوليس والميليشيات الخاصة بأوردوغان العنف ضدّ المواطنين. إن وضعه الصّحي لا يسمح له بأن يواجه تفاصيل الربيع التركي الذي قضّ مضجعه بين ليلة وضحاها. كانت مشكلة تقسيم شرارة تهدّد بتقسيم تركيا إن استمرّ الوضع على حاله. ونستطيع أن نشير إلى بعض الحوادث التي تعكس فشل هذه الزيارة. مثلا حينما وصل أوردوغان إلى المغرب وكان في المطار ، لوحظ أحد مرافقيه يمشي خلفه فوق البساط الأحمر قبل أن تجره يد بادي غارد من الحرس المغربي.حكاية الجهل بالبروتوكول ليست حصرا على الحكومة الميني ملتحية في المغرب بل يبدو أنها حكاية أحفاد العثمانيين أيضا. ولعلّه بسبب سوء تدبير البروتوكول أوقع أولاد العدالة والتنمية مغربا أولاد العدالة والتنمية مشرقا في ورطة لا يحسدون عليها. لقد فهم وزير الخارجية من عبارة أن يقام عشاء ملكي على شرف أوردوغان بأنّه يعني لقاء بالملك. مع أنّه في عرف البروتوكول لا بدّ من التمييز بين العشاء الملكي وبين اللّقاء الملكي.
وهكذا حصل ارتباك في تدبير زيارة أوردوغان التي اعتبرها البعض زيارة محتكرة لحزب(البيجيدي). وكان أوردوغان قد أقام في فندق هيلتون وليس في إقامة خاصة مميّزة.جال أوردوغان بثمانية وزراء و300 رجل أعمال من جماعته، والتقى مع أبناء تنظيم العدالة والتنمية في غياب الملك. والحدث المثير هنا أنّ الاتحاد العام لمقاولات المغرب رفض الاجتماع بفريق أوردوغان من رجال الأعمال الأتراك. رئيس الحكومة بعد أن غادر أوردوغان يعتذر للباطرونا المغربية في شخص مريم بنصالح، بأنّ خطأ ما حصل بالفعل ولن يتكرّر في المرة القادمة. مع أن رئيس الحكومة لا يدري إن كانت هذه هي آخر مرّة سيزور فيها أوردوغان المغرب. كما حاول إعلام العدالة والتنمية التدليس على الرأي العام بأنّ الباطرونا قد التقت مع أودوغان وفريقه، وهم يقصدون تواجد الباطرونا هناك برسم حضور حفل العشاء الملكي. أمّا حكاية مقاطعة الباطرونا في المغرب لهذا اللقاء، فهو استجابة ردّ حقيقي من البيجيدي نفسه حينما حاول إقصاء الباطرونا في محاولة لاختراق المشهد الاقتصادي وتشكيل لوبي اقتصادي جديد. يؤكّد هذا أنّ الحكومة الميني ملتحية خططت لاحتكار هذا اللقاء، من خلال انتداب جمعية أمل للمقاولات المحسوبة على حزب العدالة والتنمية. وكان الطيب أعيس رئيس الجمعية المذكورة قد صرّح قبل ذلك بأنّ جمعيته وجمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين التركية، هم من سهر وأعدّ لهذا اللّقاء. وكانت وزارة الاتصال التي يقودها حزب المصباح قد جيّشت المشهد الإعلامي لاستقبال أوردوغان كفاتح ومحرّر في محاولة لتسويق العثمنة في المغرب. مع أنّ المغرب لم يكن يوما لتغريه العثمنة حتى في أوج هيمنتها على سائر البلاد الإسلامية وشرق أوربا، فكيف الآن بعد أن باتت محكومة بالرجل المريض؟
ولعله من المفارقة أنّهم سعوا من خلال التنسيق مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية لكي يقدموا شهادة دكتوراه فخرية للأوردوغان. ولكن يبدو أنّ وزراء الحكومة الميني ملتحية كانوا أقّل شعورا بالحياء من أوردوغان الذي اعتذر عن حضور الاحتفال المذكور، وذلك نظرا لما تشهده بلاده من اضطرابات. لكن يبدو أن الأمر أبعد من ذلك الذي تحدّثت عنه الصحافة. فالحقيقة هي أنّ هذه الشهادة سحبت بعد أن كانت على وشك أن تسلم له. لأنّ الأمر هنا له علاقة بقرار أكبر من قرار رئاسة الكلّية. لقد سعى حزب العدالة والتنمية المهيمن على الإعلام ووزارة التعليم العالي أن يمنح شهادة دكتوراه فخرية لرئيس يواجه ربيعا تركيا ويوصف لدى شعبه بالديكتاتور. إنها فعلا شهادة دكتوراه للاستبداد المقنّع. إنّ السّؤال المطروح اليوم: ماذا جاء يفعل أوردوغان في شمال أفريقيا؟ بينما الشعب التركي لا يزال يصيح في ساحة تقسيم: الشعب يريد إسقاط أوردوغان. ونحن لا يمكن إلاّ أن نكون مع الشّعب التركي الأبيّ.