كما كان متوقعا، فاز حزب العدالة والتنمية التركي في الانتخابات التشريعية لثالث مرة على التوالي. الفوز كان منتظرا لأن أردوغان، الفتى الذي كان يبيع الخبز في حارات اسطنبول أيام كان طفلا صغيرا، نجح في أن يجعل من حزبه قطار تركيا المتجه نحو الديمقراطية والتنمية والدولة الإقليمية الكبرى التي تحولت اليوم إلى نموذج يحتذى به في الانتقال الديمقراطي من الدول العشر الفاسدة والغارقة في المشاكل إلى دولة ديمقراطية متطورة... صناعتها في ازدهار، وسياحتها في تصاعد، ودخلها في ازدياد، ومكانتها الدولية والإقليمية مما يضرب له ألف حساب... تركيا تحبه. سيد صندوق الاقتراع. فعلها مرة أخرى. المصباح يضيء للمرة الثالثة... كانت هذه بعض عناوين الصحف التركية أمس عقب الإعلان عن فوز أردوغان ب326 مقعدا في البرلمان القادم من أصل 550 مقعدا. بالأرقام حصل حزب العدالة والتنمية التركي على نصف الأصوات المعبر عنها، وهذه «شبه معجزة في السياسة أن يحصل حزب، مرت على تواجده في السلطة عشر سنوات، على هذا الكم الهائل من الأصوات. هذا يدل على أن الأتراك يصوتون على مشروع وعلى حصيلة وعلى استمرار النهوض الذي تعرفه بلاد أتاتورك، وأن أي بديل لم يولد بعد في تركيا. جريدة «لوفيغارو» الفرنسية تعنون صدر صفحتها الأولى ب: «فوز كبير لصاحب مشروع تحديث تركيا» (modernisateur).. يا للمفارقة.. فرنسا العلمانية حد التطرف.. الأوربية حد الانغلاق، تطلق على أردوغان، الإسلامي الأصولي، لقب «المحدث» من «الحداثة»... حزب العدالة والتنمية التركي لم يقدم خدمة كبيرة لبلاده فقط، ولم يضع تركيا على سكة التحديث والعصرنة فحسب.. أردوغان اليوم يمثل حلا تاريخيا ونموذجيا لعدد من البلدان العربية والإسلامية التي تريد أن تدخل عصر التقدم والديمقراطية والحداثة، دون أن تفرط في ثقافتها الإسلامية وخصوصيتها العقدية... أردوغان نجح لأنه، أولا، خرج من عباءة نجم الدين أربكان الذي يمثل المدرسة الأصولية التقليدية التي تخلط بين ضرورات السياسة وثوابت العقيدة. ونجح، ثانيا، لأنه اعتمد سياسة انفتاح غير مسبوق للحزب حتى على بعض خصومه. ونجح، ثالثا، لأنه اعتمد منهجا تصالحيا برغماتيا، على المستوى الفكري كما السياسي. أردوغان قال إن مصالحة بين العلمانية والإسلام ممكنة، وإن تعايشا ما بين الديمقراطية ومؤسسة الجيش ممكن، وإن الانتماء إلى الشرق والغرب (أوربا) ممكن، وإن العلاقة بإسرائيل لا تمنع من انتقادها ومساندة القضية الفلسطينية، وإن الاقتصاد الليبرالي لا يتعارض مع الدفاع عن حقوق الفقراء والمهمشين... إنه نهج التصالح عوض الاصطدام والمواجهة... ثم، رابعا، اعتمد أردوغان على شرعية «الإنجاز» عوض الارتكاز على الإيديولوجيا... لقد بنى زعامته من رئاسة عمادة اسطنبول التي كانت غارقة في الأزبال والتلوث والجريمة المنظمة وغير المنظمة... اليوم صارت هذه المدينة قبلة سياحية عالمية تعرض آثار الحقبة العثمانية، وتعد بأحلام كبرى لتركيا الحديثة.