الأدهى من ذلك، وفي اتجاهه، فقد تسربت إلى الأستاذ الباحث في الجامعة المغربية، وكان القدوة والمثال، بجديته وهبته وتفانيه في أداء مهامه، قيم الانتهازية والانبطاح والتسيب وموت الضمير المهني. لم يعد الأستاذ الباحث في جامعتنا المغربية، بتعبير بنكراد، «يُسأل أبدا عن نشاطه العلمي، ولا عن أبحاثه ولا عن منشوراته، بل لا يسأل عن طبيعة الدروس التي يقدمها للطلبة نفسها. فقد وصل التسيب إلى الحد الذي يُسمح فيه للأستاذ أن يقول ما يشاء خارج أي ضابط علمي أو تربوي…» (ص250). فلا مكان بعد للأستاذ الباحث بمصداقية البحث والتفاني والاجتهاد والتأليف والابتكار والإشعاع… لذلك تم تهميشه والتضييق عليه في أفق الإجهاز عليه، وبالتالي انقراضه، تكريسا للدعة والسكينة التي ينعم بها الكثير. ولا غرابة والحال مثل هذه، أن يتحول الأستاذ الجامعي في تمثل فئة من الطلبة والمجتمع والإعلام، إلى «مادة للتفكه والسخرية». فما يقال عن «اللجنة العلمية» وعن «الملفات العلمية» هو مجرد خطاب للاستهلاك، فآخر ما يحاسب عليه الأستاذ في الجامعة المغربية، أو يُجزى عليه هو البحث العلمي بالذات، رغم أنه يحصل على مرتبه الشهري باعتباره باحثا ومدرسا في الوقت نفسه». (ص289). التفوق في عالم منحط انتحار أكيد. في هذا الأفق نفسه، وامتدادا له، فقد وصل البحث العلمي في الجامعة المغربية إلى الحضيض لما تمت استعاضته بالأقدمية والولاء، ومنطق «انصر أخاك»، و»سْلّكْ تْسلكْ» تساوى الأساتذة «في هذا الأمر اليمينيون واليساريون والإسلاميون، ومن لا ملة لهم على الإطلاق» (252) .في هذا السياق يحكي لنا سعيد بنكراد تجربته الخاصة، ويعرضها على أنظار القراء للحكم والقضاء بالعدل، حكاية ما يعرف في العرف الجامعي بالترقية. فقد قدم ملفه العلمي لما كان أستاذا في سنواته الأخيرة بكلية الآداب بمكناس، «وكان عبارة عن مجموعة من المقالات و12 كتابا، «فمنحتني اللجنة العلمية» وكان يرأسها أستاذ لم يكتب كلمة في حياته، نقطتين، ومنحت أستاذا آخر نقطتين، لأنه عضو في مجلس الكلية. وهكذا، يتابع الأستاذ بنكراد، حكايته بمرارة وامتعاض، فقد» رفضت «اللجنة العلمية» ترقيتي الاستثنائية. وكان علي أن أنتظر سنتين لكي أترقى ضمن ما يسمى «الترقية العادية». وربما كنت ضمن الأساتذة الذين لم يترقوا إلا بالأقدمية» (ص251) . عسل في عالم من الذباب. وغصة في القلب والعقل. خلافا لكثير من الجامعات الرائدة في البحث العلمي، فلا وجود لشيء اسمه «التصويت أو الأغلبية»(العمري، ضمن الطلبة والعسكر)، (ص279)، أو الأقدمية في ترقي الأساتذة وتحسين وضعهم المالي والاعتباري. هناك فقط ملف علمي حقيقي مرتبط بالبحث والتدريس والتأطير والتأليف والإبداع. فالأستاذية في الجامعة استحقاق علمي بالأساس، وإسهام في الإشعاع المعرفي، ولنا في الجامعة التونسية، أسوة حسنة، إذ «قد يقضي فيه الأستاذ في تونس سنوات طويلة من عمره من أجل الحصول عليها». (ص250). لكن في جامعتنا المغربية، فعجب العجب؛ إذ أصبح البحث العملي هو البحث عن النقط، كيفما اتفق، لهذا أصبح الأستاذ «يلهث» وراء النقط لملء خانات شبكة تنتصر لعضويات في جمعيات رياضية أو نقابية على حساب تأليف كتاب أو نشر مقال، أو إبداع معرفي أو بيداغوجي معين. فصناعة الملفات «الفارغة» وتجميع النقط «المصطنعة» والتهافت عليها، والتواطؤ المذموم (ص252)، والاستثناء في هذا الباب يؤكد القاعدة ويشهد لها. لا داعي للتفاني و»تْهراسْ الرّاس» . ولنا على سبيل المثال والذكرى ما يجري في جامعات الأردن. فقد تم فصل واحد وعشرين أستاذا جامعيا سنة 2019 فقط لأنهم لم ينجزوا بحثا علميا لمدة خمس سنوات؛ لو طبق هذا القرار في الجامعة المغربية لرأيتها، بلغة بنكراد، «خاوية على عروشها»(ص117) ، تُزرع فيها الأشواك، وينعق البُوم. ما يحير ويدهش حقا، أن البحث العلمي في الجامعة المغربية: تهمة من لا تهمة له. فعوض أن يكون البحث العلمي مسوغا للترقي، وتشجيع التنافس المعرفي بين الباحثين، وتقديم الابتكار على الأقدمية، صارت الجامعة المغربية تُرقي، وتُفاضل بين الأساتذة الباحثين بعضوية مجلس الكلية، أو مجلس الجامعة، أو بالانتماء إلى النقابة أو القيام بمهام «السنديك» في العمارة والعلاقة مع قائد المقاطعة أو أي شيء آخر(ما يسمى الانفتاح عندنا)» (ص250)، والغريب المحير، أن عددا كبيرا من أساتذة الجامعة قد انتقلوا من أستاذ مساعد إلى مؤهل فإلى أستاذ للتعليم العالي، بناء على هذا المسمى «انفتاحا»، ودون نشر ولو مقال علمي، أو كتاب في التخصص. وتلك «حكمة ما أصبح يدعى بشبكة الترقي التي تقررت في العقد الأخير، أقل ما يقال عنها إنها ضد البحث العلمي لوزارة تحمل الاسم، ومعيقة تماما للابتكار. فالبحث العلمي مهمة أساسية للتعليم العالي، فمن دونه لا يمكن وجود تعليم عال ذي جودة متميزة وصالح لكي يواكب المعرفة التي تتجدد بوتيرة متسارعة …» (ص71 بوطالب). ذلك ما تنبه إليه النموذج التنموي الجديد، متأخرا، ضمن الاختيار الاستراتيجي الثاني، وهو يطمح إلى «انبعاث جيل جديد من الجامعات، يشتغل بمعايير التميز»، وإلى «تشجيع البحث العلمي من خلال آلية مستقلة للتمويل والتقييم»، وإنتاج الأبحاث العلمية وبراءات الاختراع» .(ص100-101) كذلك من القضايا التي شغلت سعيد بنكراد، واستنزفت كثيرا من جهده وقواه، واحتلت مساحة في سيرته، واعتبرها من الأسباب التي تهدد مصير الجامعة المغربية وتسرع في نهايتها، مسألة اللغة العربية المعيار بالأساس، ورديفتها اللهجية، وصلتها باللغات الأجنبية. فحالات التشظي اللغوي الذي تعرفه الجامعة المغربية، والارتباك في اختيار لغة التدريس والحسم فيها، ما تزال تعرقل السير الطبيعي للجامعة، وتفرمل انطلاقها، وتكبح توجهها نحو المستقبل. يبدو أن الرؤية الاستراتيجية 2015-2030، قد حسمت لصالح اللغة الإنجليزية (إدريس جبري، «التعدد اللغوي في الجامعة المغربية، العوائق والآفاق) فالفرنسية والعربية والأمازيغية، والباقيات الصالحات من باقي اللغات؛ لكن ظل سعيد بنكراد مناضلا بانخراطه «بقوة وحماسة في معركة الدفاع عن اللغة العربية وإرثها وحضارتها…وخارج الدين والسياسة والولاءات المتنوعة» (ص339)، ولم يتبجح باللغة الفرنسية، وقد عشق فرنسا وبكى لما غادرها، لأنه يدرك تمام الإدراك أن المرء قد يتعلم «اللغة الفرنسية ويجيدها، بل يمكن أن يتكلمها أحسن من أهلها لكن سيظل خارج ثقافتها أي خارج سلوك الناس وطريقتهم في تدبير الوقت، وإعداد الفضاء، والتعامل مع الجار، إن هو لم ينغرس في التربة الثقافية لهذه اللغة» (ص122.). فهو مقتنع تمام الاقتناع بأن اللغات ليست بضاعة تستود كما تستورد باقي البضائع. اللغة وجود وكيان وهوية وتاريخ وانتماء وأفق ومستقبل، وبالتالي لا يمكن أن ندبر شأننا الثقافي أو المعرفي، أو ننتج حضارة، هي حضارتنا، بلغة غير لغتنا(بنكراد، مدارات اللغة). لذلك يلوم الذين يدبرون ملفات التعليم عندنا، وهم «مشدودون إلى فضاء حضاري آخر لا علاقة له بهموم الأمة وبممكناتها. إنهم مهووسون باستيراد النماذج الجاهزة في كل الميادين، بما فيها اللغة، فهم يعتزمون الآن استيراد اللغات الأكثر مردودية في السوق على حساب لغة وطنية هي التي صنعت جزءا كبيرا من تراث هذه الأمة» (ص115). صحيح تحدث عبد الله العروي عن سوق اللغات، وعادلها ب»العُملة، بعضها محدود وبعضها واسع الرواج» (العروي، من ديوان السياسة، 58)، لكن سعيد بنكراد، المشتغل باللغة وعلى اللغة، والمعتز بانتمائه إلى اللغة العربية وحضارتها، والمدرك لأهميتها في الوجود الفردي والجماعي للأمة، يعتبر المقاربة التقنية للغة مضمونة الفشل، لأنها لن «تسهم أبدا في تنشئة اجتماعية سليمة تؤدي إلى خلق مواطن يتصالح مع نفسه ومع دولته، ويكون قادرا في الوقت ذاته على استيعاب ممكنات عصره. لذلك لا وجود لأجوبة عن الأسئلة التي يثيرها المجتمع في الدروس التي يتلقاها الطلبة. فالمدرج وما يلقى فيه غريب عما يعيشه الطالب في الشارع. لقد أصبح الفضاء الجامعي عقيما لا ينتج قيما ولا يسهم في التصدي للرديء منها» (116). وتلك هي المفارقات التي رصدها العروي عند الأستاذ الجامعي في كتابه مفهوم العقل.(في المدرج والشارع، (ص67). ومشكلة اللغة ما تزال عصب المشاكل في الجامعة المغربية حتى هذه اللحظة، رغم الشعارات المرفوعة، والقوانين المصادق عليها في هذا الباب. وسؤال اللغة في الجامعة المغربية عند سعيد بنكراد، لا يقل أهمية عما يصطلح عليه بالثورة الرقمية، والوسائط الاجتماعية، أو شبكات التواصل الاجتماعي، وما يتصل بها فيما أضحى يعرف بالتعليم عن بعد. صحيح فائدة هذا التعليم قائمة، ويتعذر إنكارها، إن توفرت شروطها من ناحية، ومن ناحية أخرى، فائدتها مضمونة في المراحل المتقدمة من التحصيل العلمي، حتى يتمكن المتعلم من الانتماء إلى عالم الكبار، وإلى منظومتهم الأخلاقية والثقافية ومتاحهم الحضاري. والحالة السوية لما يتفاعل الانتماء الأول بالعلم وقواعده وقوانينه، دون ذلك يسهل الاستهلاك المعمم، فيضيع الإنساني فينا، وينتصر الافتراضي على الواقعي، ويهيمن المستهلك عن المواطن، ويغلب العري عن الحميمية. كذلك فائدة التكنولوجية الحديثة في خدمة المعرفة، ولكن في مقابل ذلك، وبتعبير بنكراد، «فقد قلصت دور الذاكرة ومن فضاءات الحياة وحولت التعلم إلى مجرد قواعد باردة بلا قيمة إنسانية». (ص172). بهذا المعنى فالتقنية تقتل الجامعة ما لم تعي ضرورة تكوين طلبة مواطنين ينتمون إلى العلوم حسب المتاح الحضاري وفضائه الثقافي في أشكال سلوكية وقيم يلتف حولها المجتمع. وإذا أضفنا إلى كل ما سبق، ما أصبح يترسخ من قيم في الجامعات المغربية، أدركنا سبب إعلان بنكراد موت الجامعة المغربية، والإعداد لتشييعها إلى مثواها الأخير، بكثير من الحيرة والحسرة. يذكرنا الحائر الناعي بعينة المسؤولين الذي يشرفون على تدبير كليات المملكة، وطينة الأغلبية فيهم، يظهر بالفعل أن الجامعة المغربية في خطر محذق، ويحكي لنا حكاية العميد الناصح لأستاذ انضم حديثا لهيئة التدريس، أو بالأحرى واقعة بالغة الدلالة. فنصحه بالولاء والصمت له مبدئيا، ولرئيس الشعبة بالتبعية، لما يوفران له من قبول التراخي في العمل، وتهميش البحث العلمي، وتغييب الاجتهاد والابتكار. إنها سياسة الإذعان وتكريس الكسل، وتغليب الانتهازيين في فضاء محسوب على الحرية والاجتهاد والإبداع والاستقلالية والتحرر… مفارقات وحيرة. كثير من مسؤولي الجامعة المغربية «يتحدثون في المناسبات الرسمية أمام الكاميرات عن «الحكامة الجيدة» وعن ضرورة الربط بين الجامعة ومحيطها الاجتماعي والاقتصادي، ولكنهم يدبرون قضاياها التربوية والإدارية استناداً إلى المحسوبية والمزاجية في الكثير من الحالات» (ص294)… خاتمة مستأنفة … «رحم الله الجامعة المغربية»…. تلك إذن صرخة مدوية تخترق سيرة سعيد بنكراد، وتحملني حيرتي وظنوني، من بدايتها إلى نهايتها. فهي سيرة باحث جامعي، منذور للجامعة ولا شيء سواها. أودع فيا سيرة تكوينه، وعصارة تجربته، سواء الفردية منها، منذ نشأته الأولى في الدوار والكُتاب وحياة الأسرة والناس، ومصادفة طريق المدرسة، وسياقات البكاء، وسلطة المعلم، وأصداء نضال اليسار، وفي الجامعة، طالبا، في محظور المنظمات، ومخرجات النضال وقسوته، وأستاذا باحثا للسميائيات في سيرورة تطورها، بين مكناس والرباط، بين انتصارات عرضية، وخيبات قاسية، أو الجماعية مع جيل من رفاقه في التدريس والتأطير والتنشيط والتأليف والمواقف…إنها تكثيف لمساره وحياته الوجودية والعلمية والمعرفية والسياسية والإنسانية…موشومة في جسده، وموثقة في كتبه ومقالاته، وامتداداتها في المجلة والزملاء والأصدقاء والمعارف والمثقفين والسياسيين والطلبة في الوطن وحارج الوطن… كانت تجربة بنكراد في الجامعة المغربية، طويلة وصعبة، بمتاحها وإكراهاتها، مما أكسبه معرفة دقيقة بتفاصيلها، وخبرة بإمكاناتها وعوائقها، لعل من نتائجها إعلان موت الجامعة المغربية(رحم الله الجامعة المغربية). قد لا يقصد الكاتب، وهو معتدلة فلسفته، ومتوازنة مواقفه، وواسطية قميه(بنكراد، بين اللفظ والصورة، ص66-67)، وقد بلغ قمة نضجه المعرفي والعقلي، وفاة الجامعة، وتحولها إلى جثة هامدة بلا أفق ولا مستقبل، بقدر ما يدق جرس الخطر، ويستشرف مستقبلا يبدو له غامضا، بغيرة وطنية عالية، وهو المشاغب المتطلع للأحسن، التواق إلى الانفلات من محدودية المحيط وظلم الواقع والمهانة فيه، وهو المناضل «الشرس» مذ بدأت هبوب رياح اليسار الجديد تصل إلى محيطه المدرسي ببركان، وتمتد إلى فاس وترسخت في باريس وأينعت، بخيباتها وانتصاراتها، وانكساراتها وفتوحاتها، فما بعدهما من مكاسب ومناورات(حرمانه من تمديد الترخيص بالتدريس بعد سن التقاعد، وهو رأسمال رمزي للوطن في مجال اشتغاله)، رسخت الاسم والرمز والانتماء، وأكدت نهاية الجامعة المغربية وأمل انبعاثها… رحم الله الجامعة المغربية… عاشت الجامعة المغربية…