تحدث الكثيرون عن مشاكل الجامعة المغربية وحصروها في الغالب من الحالات في توافد أعداد كبيرة عليها، ما نتج عنه الاكتظاظ والخصاص في المرافق والقاعات والموارد البشرية وانعدام الوسائل التربوية. وهذه حقائق لا يمكن للمرء أن ينكر وجودها، فجزء من مشاكل الجامعة يكمن بالذات في عدم قدرتها على توفير مقعد لكل طالب، وفق شروط تربوية تساعد على إشاعة المعرفة وإعداد جيل المستقبل؛ ومع ذلك، فإن أزمة الجامعة المغربية أعمق بكثير من هذا. ففيما هو أبعد من المشكل الكمي هناك أزمة بنيوية يبدو أن الجامعة تأسست استنادا إلى بعض منطلقاتها منذ البداية. ورغم أن الجامعة هي في الأصل فضاء للمعرفة والبحث العلمي، ورغم أن جزءا من النظام الأساسي الخاص بالأساتذة العاملين بها يقوم على هذا الجانب بالذات، وجزءا مما يتقاضاه الأستاذ شهريا هو تعويض عما يقدمه من منجزات علمية، فإن الترقية داخلها قامت دائما على الأقدمية ومراكمة "البونيسات" المتتالية دون إنتاج معرفي يذكر، إلا في حالات قليلة. ويمكن أن نجمل بعضا من هذه الأزمة في المظاهر التالية: -اعتماد مبدأ الأقدمية أساسا لكل ترقية: فالأستاذ الجامعي المغربي، خلافا لما هو سائد في الجامعات العريقة، يترقى من درجة إلى درجة، ومن إطار إلى إطار، حسب تسلسل زمني هادئ، لا استنادا إلى ما يمكن أن يقدمه من إنتاج علمي. ولقد أضر هذا المبدأ منذ البداية بالجامعة، وأخل بأحد أركانها، ألا وهو البحث العلمي. ووحدها نخبة قليلة من الأساتذة ظلت تبحث وتجتهد وتؤلف بعيدا عن أعين الجامعة وفي غيابها؛ بل اعتُبر بعض من هؤلاء الأساتذة "خطرا" على الجامعة، وتم تهميشهم وإلحاقهم بمؤسسات لا قيمة لها في النسيج الجامعي المغربي. وقد أصبح الترقي على مر السنين رديفا للكسل والخمول، فهو بدون مردودية، ولا تستفيد الجامعة من أساتذة جزءٌ من مستحقاتهم هو مقابل لما يبذلونه من جهد معرفي. - "الهبات" المتتالية التي كانت تقدمها الدولة في شكل ترقيات تتم خارج القانون وضدا عليه في الكثير من الحالات: فقد كانت المؤسسة السياسية تُصَرِّف بعضا من مشاكلها من خلال توزيع مراكز جديدة (دكاترة إفران، وأهلية حملة الدكتوراه الفرنسية، وفئات أخرى كانت الدولة تخيط القانون على مقاس البعض من أطرها). -مقايضة الكثير من المواقف بزيادة في الرواتب أو تغيير في النظام الأساسي، أو ب"بونيسات" تتحدى منطق الزمنية الجامعية الحقيقية لكي تخلق زمنية افتراضية يستفيد منها بعض الأساتذة على حساب آخرين، مما أدى إلى انفجار الجامعة إلى فئات متضاربة المصالح والغايات، وخلقت صراعا بينها لا علاقة له بما يمكن أن يفرزه الاختلاف في المناهج والتصورات المعرفية (فقدت الجامعة بريقها باعتبارها بؤرة لما يمكن أن يكون عليه مجتمع يخترقه التعدد وتضارب المصالح، ويجد صداه في اجتهادات الباحثين لتقديم أجوبة أو إثارة أسئلة). -حالات "تزوير" مقنع يتجسد في منح شهادات بدون مباراة أو سند قانوني. وقد صرح أحد كبار موظفي الوزارة الوصية مرة في التلفزيون، متوجها إلى حملة الدكتوراه الفرنسية: "اقبلوا بالمباراة فهي شكلية". ولا عجب أن يأتي من التلاميذ أو الطلبة من يطالب هو أيضا بأن تكون شهادة الباكالوريا أو الإجازة شكلية أسوة بشهادة الدكاترة الكبار (إن الدولة تتبنى الغش، بل تشجع عليه، وبذلك تقدم نموذجا سيئا للنشء). لا وجود لبلد في العالم، عدا بلد الاستثناء، يمكن أن يصاغ فيه مرسوم يبدأ بالشكل التالي: "خلافا للمقتضيات التنظيمية الجاري بها العمل، يُعفى من التأهيل الجامعي أساتذة التعليم العالي المساعدون المتفرعون عن الأساتذة المساعدين المشار إليهم في الفقرة الرابعة من المادة 33 من المرسوم رقم 793. 96. إن الدولة تصدر مرسوما وتخرقه بدون أن يرف لها جفن. - حل مشاكل بعض الفئات بمنحهم "بونيسات" وصلت في حالة بعض الأساتذة إلى مراكمة 12 سنة بدون عمل، ترقيات لباحث لا يبحث، وهو أمر عبثي، حيث فاقت أقدمية بعض الأساتذة في الافتراض السنوات التي قضوها فعليا في التدريس. وهو وضع غريب يمكن أن يستهجنه المراقبون من خارج البلاد، ولا يمكن أن يكون، بالإضافة إلى ذلك، محفزا على الإنتاج المعرفي. -وعندما انتبهت الوزارة الوصية إلى أسلوب جديد للترقية واشترطت "الملف العلمي"، قامت كل الأطراف المشاركة في العملية التربوية بإفراغه من مضمونه وتحويله إلى مجرد لعبة يقوم من خلالها الأساتذة بالبحث عن "النقط" في الانتماء إلى جمعيات رياضية ونقابية، بل أصبحت العضوية في مجلس المؤسسة أو الجامعة أهم بكثير من تأليف كتاب أو نشر مقالة، فما يمكن للأستاذ أن يجمعه من نقط من هذه العضويات أكبر بكثير من الكتابة أو "تهراس الراس" في التدريس والتفاني فيه. وقد نتج عن ذلك ميل إلى انتخاب لجان "علمية" "تشترط" في أعضائها، في الكثير من الحالات، ألا يكونوا من حملة القلم أو من محبي المعرفة. وبموازاة مع ذلك فقد الأستاذ الجامعي احترامه لنفسه، وبدأ يقدم ملفا فارغا، ولكنه يقيم الدنيا ويقعدها إذا لم تتم ترقيته. فعلى الأستاذ أن يناصر أخاه الأستاذ حتى ولو كان ذلك على حساب المعرفة والقيم الأخلاقية والأعراف الجامعية؛ هذا دون أن نتحدث عن أساتذة أبدعوا في النقل والنحل والسرقات وما زالوا ينعمون برعاية الجامعة، وينالون الحظوة ويتمتعون بكامل الاحترام في مؤسسات لا تُقر لأساتذتها إلا بما يأتي به الولاء. -اختفاء الأستاذ الجامعي المثقف لصالح "خبير" يتهافت على القنوات التلفزية المحلية والأجنبية لكي يصبح محللا لخطاب يقول من خلاله كلاما يصدق على كل شيء بلغة محنطة لا تحلل، بل تلتقط أحكاما تتداولها الصحافة لكي تعيد صياغتها حسب توجه القناة أو الإذاعة المستضيفة (مع استثناءات قليلة جدا). بل هناك من الخبراء من تنكر لانتمائه الأصلي ونسب نفسه إلى تخصص لا قبل له (العلوم السياسية عادة). قد يكون الفشل بالتأكيد في البحث العملي وراء ذلك، وقد يكون أيضا البحث عن "مردودية نقدية" لا يقدمها الإسهام في إنتاج قيم جديدة لمجتمع تلعب فيه الجامعة حقا دورها الريادي. ويعد الارتباط ببعض المؤسسات والبهرجة الفارغة والتردد على الملحقات الثقافية لبعض السفارات جزءا من هذه "الخبرة"؛ وهي بالمناسبة خبرة لا تستفيد منها الجامعة، ولا أثر لها في العملية التربوية، ولا مردودية لها في السوق المعرفية. -وقد أفرز هذا الوضع ما هو أخطر من ذلك، لقد ظهر وسط الأساتذة الجامعيين "تيار واسع" يناهض المعرفة والبحث، ويحارب ما تبقى من القلة التي مازالت تؤمن بالضمير المهني والواجب، وبدورها في تأهيل المجتمع وتجديد قيمه. وهو أمر انعكس على مستوى التدريس وعلى مستوى المناهج والإشعاع المعرفي؛ وكان آخرها حكاية ما وقع في مؤسسة عريقة، فقد أُقصي أحد المرشحين بجرم كبير هو أنه قدم ملفا يتضمن مقالات كتبها في ميدان تخصصه. لم يعد هذا التيار يقبل بالأساتذة الباحثين، وإنما يساند "المدرسين" الذي يكتفون بإلقاء دروسهم على طلبة غالبا ما يكونون سلبيين؛ وهذا أمر ينعكس على طريقة تشكيل لجان التوظيف، فعليها في الكثير من الحالات أن تراعي ما توده جهة ما من المباراة. يضاف إلى ذلك الطريقة التي تتم بها الامتحانات، حيث تعمم الغش واستشرى التدليس في أوساط الطلبة. (ولا غرابة أن تصبح شهادة الماستر من أبسط وأسهل الشهادات التي يمكن للمرء الحصول عليها في المغرب). -وللنقابة الوطنية للتعليم العالي جزء من المسؤولية في ذلك، فقد تبنت في الكثير من الحالات ملفات لغايات انتخابية خالصة، عادة ما تكون مرتبطة بالمؤتمرات، فقد ظلت ترفض فكرة تفريغ الأساتذة الحاملين للشهادة العجيبة المسماة "الدكتوراه الفرنسية"، في إطار أستاذ محاضر، لأن ذلك كان يناقض القانون، قبل أن تتراجع عن هذا الموقف من أجل مصلحة انتخابية. وهي ذاتها التي مازالت تدافع إلى حد الآن عن ترقيات بدون جهد، ودخلت في مسلسل يناهض كل حديث عن البحث العلمي أساسا للترقية. وهي حالة الأساتذة الذين خُرق القانون من أجلهم، فبعد أن حصلوا على الكثير من السنوات المجانية كبونيسات، طالبوا من جديد بتفريغهم في إطار أستاذ التعليم العالي، بدون شهادة. مع العلم أن الدولة الفرنسية التي "اخترعت" هذه الشهادة تصنف حامليها من أبنائها في الدرجة الدنيا من الأستاذية، وتشترط عليهم الحصول على شهادة الأهلية للترشح إلى مباراة الأستاذية. وقد نتج عن هذا الوضع العام ميل كبير إلى المطالبة بالحقوق دون اعتبار لما يوازيها من واجبات، هي أساس تطور المجتمعات ورقيها الحضاري. لقد نسيت الجامعة المغربية مهمتها كرافد أساسي في التنمية من خلال الإنتاج الأكاديمي لتتحول إلى "مدرسة" صغيرة بدون بريق يسودها الفساد في كل شيء. مع التنبيه إلى وجود أساتذة محترمين يستحقون كل تقدير مازالوا يقاومون تيار التردي ويعتبرون عملهم مهمة من أجل الحضارة، لا وظيفة تدر دخلا قارا.