لسنا بإزاء مسجد عادي، أو بناية وظيفية تعبدية، بل نحن أمام لوحة للحضارة حين تقف أمام تفصيل دقيق من الإبداع والصنعة بمسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، لا تستطيع الفكاك من سؤال يلح عليك: «كيف سيرى العالم والمغاربة هذه التحفة المعمارية المغربية الخالصة بعد 200 عام؟». ذلك أن المنجز عبارة عن كتاب منحوت بإزميل الإحترافية لذاكرة كاملة من عناوين الحضارة المغربية على مستوى تقويسات الأبواب، وهندسة الزليج والخشب والجبص والأعمدة والنحاس. بالتالي فإنه ليس مجرد بناية مسجد، بل إنه رسالة حضارية إلى المستقبل. وهي رسالة بعناوين مغربية متراكبة، تشكل نقطة ضمن مسار طويل ممتد من تلك الحضارة، كما تراكمت عبر القرون ووصلت إلينا اليوم، وتمت عملية تكثيف متجددة لها، من أجل صونها للمستقبل. لهذا السبب، فنحن لسنا بإزاء مسجد عادي، أو بناية لتقوم بواجب وظيفي تعبدي فقط، بل نحن أمام لوحة للحضارة، فيها أرفع وأرق وأجمل وأدق ما أبدعته يد الصنايعية المغاربة، بخامات مغربية خالصة (وحدها الثريات التي استقدمت من إيطاليا)، من إبداع معماري وهندسي. إذ هنا تسند الأعمدة التويجات المغربية الأصيلة ذات الأذرع الإثنى عشر، وهنا الزليج الذي تتعاضد فيه الحسابات الرياضية للنجوم النازلة إلى الأرض، وهنا الأقواس المرفوعة التي تتواشج في متوالية من الإمتداد أشبه بدوائر مائية صاعدة إلى السماء، وهنا تخاريم الخشب تلك التي تعلي من قيمة أضلاع الوردة أو تلك التي تنتصر لجناح الفراشات، وهنا أخيرا انحناءات النحاس الدقيقة، تلك التي هي أشبه بأجنحة النحل حين تحلق بأزيزها في الهواء. ظلت التحفة المغربية الأصيلة هذه، التي هي من آثار العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني، ومن بنات أفكاره كملك منتصر لمعنى الديمومة كأثر في التاريخ عبر عناوين للحضارة، مثلما فعل عظماء السلاطين المغاربة خلال 14 قرنا الماضية، الذين تركوا لنا آثارا مبهرة من قيمة مسجد الكتبية بمراكش، ومسجد حسان بالرباط، ومسجد الخيرالدا بإشبيلية، وصف طويل من المعمار الفريد في مغربيته بمراكش والرباط وفاس وتطوان وتارودانت وتازة والصويرة وطنجة… إلخ. أقول ظلت تنتظر منذ سنوات (منذ افتتاحها رسميا سنة 1993، بعد 7 سنوات من أشغال البناء المتواصلة)، أن تأتي وثيقة تاريخية منصفة لمستواها الحضاري والجمالي والقيمي. وتأخر ذلك الإنصاف المحترف الرفيع كثيرا. نعم كانت هناك محاولات هنا وهناك، لهذه الغاية أو تلك، لكن عملا منصفا لقيمة التاريخ بأفق تدويني ممتد في الزمن، يكون مرجعا صلبا لذاكرة المكان وقيمة المنجز، فإن ذلك لم يتحقق (جديا وبمسؤولية أخلاقية ومعرفية) سوى بعد ما يقارب 30 سنة، أي حتى سنة 2022، مع صدور مجلد ضخم، رفيع القيمة العلمية، عالي الفنية على مستوى الصور، وعالمي الطباعة، ضمن منشورات مؤسسة مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء. وهو مجلد يليق أن يكون مادة تواصلية على مستويات تدبيرية عدة (وزارة الخارجية، وزارة التربية والتعليم، وزارة الأوقاف، وزارة السياحة، مندوبية المتاحف) في علاقتها مع مختلف المؤسسات والأفراد عبر العالم. لأنه وثيقة محترفة، منصفة، معلية من قيمة عناوين من مدرسة الحضارية المغربية. ربما علينا أن نذكر أنفسنا مجددا هنا، أن الحضارة ليست سوى خلط الماء بالتراب في الإمتداد البعيد لتاريخ البشرية. وأن تلك الخلطة هي التي أعطت لهذه الجماعة البشرية أو تلك أن تتمايز بهذا الإجتهاد أو ذاك، بهذه الخصوصية أو تلك، في مجال شكل العمران والبناء وشكل امتلاك الفضاء العام لممارسة الحياة (الذي من علاماته وأيقوناته شكل المعمار، وشكل الخشب، وشكل اللباس، ونوعية الطبخ …. إلخ). لا بد، هنا أيضا، من منح الرجال ما يستحقون من تقدير واعتراف. حيث إن من وقف وراء تحقيق هذا المنجز الإصداري الرفيع، هو الأستاذ والمربي (سابقا) والمسؤول الإداري (لاحقا)، السيد بوشعيب فقار، من موقع تمثله الرفيع لتاريخ العمارة الإسلامية المغربية، وليس فقط من موقع مسؤوليته كمحافظ لمسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء. فالأمر هنا كما لو أن القوس قد أوتي باريها، ما جعل النتيجة (تأسيسا على حرص الرعاية المسؤولة) تكون بكل ذلك الجمال والإحترافية التي تحققت مع صدور مجلد مؤرخ، محلل، منصف للقيمة الحضارية والمعمارية والجمالية لمسجد الحسن الثاني. الذي صدر اليوم في نسختين عربية وفرنسية وقريبا يصدر في نسخة باللغة الإنجليزية. بإشراف وتنسيق علمي رصين جدا للدكتور عبد العزيز توري (الأستاذ الباحث بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط)، الذي قدم ورقة علمية رصينة حول مختلف الأبعاد الهندسية والمعمارية والجمالية للمسجد، تأسيسا على مقارنته بمساجد عالمية عريقة في التاريخ. مثلما يتضمن المجلد دراسات علمية رصينة لباحثين أجانب ومغاربة (باتريس كريسيي من المركز الجامعي للتاريخ وعلم الآثار الوسيطيين بليون بفرنسا / كلارا إلهام آلفاريث دوبيكو من كلية العلوم الإنسانية والإجتماعية بتونس / جان مارك كاستيرا فنان معماري وتشيكلي فرنسي / أحمد سعيد الطاهري من المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط/ فان ستافيل جان بيير من جامعة باريس السوربون / محمد المغراوي من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط / نادية الرزيني محافظة متحف التراث الديني بتطوان). مع تصديرين مؤطرين لكل من وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المؤرخ الدكتور أحمد التوفيق، والأستاذ بوشعيب فقار محافظ المسجد. علينا أيضا أن لا ننسى أن تحفة مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، فوق أنه منح لمدينة إشكالية بالمغرب (عمرانيا وقيميا وتاريخيا) مثل مدينة الدارالبيضاء، التي ليس لها ذلك الثقل العمراني الذي لمدن تاريخية مغربية أخرى من قيمة مراكش وفاس والرباط والصويرة وطنجة وتطوان وتارودانت، مَعْلَمَةً عمرانية بمقاييس حضارية مغربية راسخة. فإنه قد بني فوق الماء، حيث إن ثلثي المسجد رفع فعليا فوق مياه المحيط الأطلسي (تيمنا أكيد بالآية القرآنية الكريمة «وكان عرشه على الماء» الآية 7 من سورة هود). مثلما أن التحدي الهندسي والمعماري الآخر، كامن ليس فقط في أنه ثالث أكبر مسجد بالعالم، بعد المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوي بالمدينة المنورة، بل إنه يضم أعلى صومعة آذان فوق الكرة الأرضية ب 210 مترا، بكل ما يفرضه ذلك من تحد هندسي يستوجب حسابات علمية دقيقة مرتبطة بحركة الرياح بالمحيط، وكذا حركة المد والجزر ومخاطر الرطوبة وملوحة الماء. بالتالي، فإن المعلمة المعمارية هذه فريدة جدا من نوعها عبر العالم، كونها أول معمار ديني تعبدي من نوعه يبنى فوق الماء وعند شط البحر. فكل المساجد الخالدة بتاريخ البشرية قد بنيت في براحات ترابية بعيدة عن أسباب التأثير بتبدلات المناخ والطقس، وفوق أراض صلبة، عدا مسجد الحسن الثاني، الذي بني ضمن حسابات هندسية وجغرافية غير مسبوقة في التاريخ. وها هنا تكمن عبقرية الفكرة والمغامرة الإبداعية أيضا. إن المجلد الرفيع، الصادر في 335 صفحة من الحجم الكبير، يضم عشرات الصور الرفيعة التي التقطتها عدسة الفنان الفوتوغرافي الإنجليزي بيتر ساندرس (المتخصص العالمي في صور المعالم الإسلامية الكبرى والتاريخية عبر العالم من المسجد الحرام إلى المسجد النبوي إلى مسجد القدس وقبة الصخرة إلى مساجد تركيا والمسجد الأموي بدمشق وغيرها). وكذا صور رفيعة للفنان الفوتوغرافي المغربي يوسف آيت بوسكريي، وبعضها قليل للباحث الفرنسي جان مارك كاستيرا. بينما تم تصميم المجلد من قبل ألكسندر كادا وباربرا راتير من مؤسسة «كادا ديزاين» وتم الطبع بإحدى أرفع مؤسسات الطباعة المتخصصة في مجالات مماثلة بالعاصمة النمساوية فيينا.